منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، وأنا أنظر في الكتب العصرية التي تخرجها المطابع العربية في الشرق والغرب، فلم أكد أقرأ كتابا في الأدب المعاصر، تأليفا كان أم ترجمة، إلا وتتراءى لي كثرة تفريطه في تأليفه، وقلما رأيت إبداعا إلا في بعض التآليف، أمثال «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي الصغير، و«النظرات» و«العبرات» للمنفلوطي، و«ليالي سطيح» لحافظ، وبضعة كتب أخرى ليست على خاطري، رجوت لها الخلود، وباقيها ومنه المسجع، أو الممسوخ، أو المسلوخ، أو المنسوخ، لا أستحي أن أقول إنها تتساقط كما يتساقط ورق الشجر في الخريف، وتضيع كما تضيع مقالات الصحف اليومية بعد صدروها بساعات معدودة .
لم يبرح النزاع عندنا بين أنصار الجديد والقديم على أتمه، ولكن التطور يعمل عمله، رغم احتجاج المحتجين وصياح الصائحين، والانتقال محسوس في الأدب كما هو محسوس في كل أطوار الحياة عندنا، وأنت اليوم إذا قرأت صفحة من «مقامات اليازجي»، أو رسالة من «رسائل الأحدب»، أو جملا من مصطفى نجيب وحمزة فتح الله على تلميذ شدا شيئا من الأدب يضحك مما تسمعه، ويقول لك هذا كلام يضعف اللغة، ويذهب ببهجتها، وألفاظه أكثر من معانيه، ولكنك إذا تلوت عليه صفحات من السيد العقاد تطربه نغمته، وتعجبه ديباجته، فتستغرق معه ساعات في المطالعة لا تمل، وكلما أتممت فصلا وددت لو طال أكثر. فمقالات العقاد في تحليل روح المعري وحياة المتنبي وأدبه، دلت عن أدب بارع ونفس طويل، وخواطره في ماكس نوردو وأناتول فرانس، والشعر ومزاياه، والطبع والتقليد، وعبقرية الجمال والتشاؤم، وأدوار العمر، كل ذلك مما يحمل للقارئ علما طريفا وتليدا، ونبوغا وعبقرية وتجديدا، يروقك بأسلوبه فتستفيد من الفكرة، ومن القوالب البديعة التي ظهرت فيه.
طلق الأستاذ العقاد الأسجاع والجناس وأنواع البديع، وجاءنا بإنشاء فيه طلاوة الحديث بسبكه ومعناه، وجلالة القديم ببيانه، وربما تلوت له فصلا برمته، وليس فيه سجعة أو معنى مكرر، تراه يكتفي في تصويره بعشرة ألفاظ، وكان غيره يحشر له العشرين والثلاثين لفظة، وإذا عمد إلى استعمال الفصيح الذي لم يبتذل، فإنه يكون في كلامه بمقدار الخال في صفحة الوجه الجميل، أما التراكيب فتظن نفسك وأنت تقرأ كلامه أمام «أبدى بدوي وعلى طباع أفصح عربي».
وإن أهل هذه الطبقة العالية قد أكذبوا القائلين بأن العربية لا يتسع صدرها للمعاني الجليلة، وأن العرب عنوا بالألفاظ أكثر من المعاني، وما الألفاظ إلا القوالب، فقد قال ابن جني في الخصائص ردا على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني: إن العرب كما تعنى بألفاظها وتصلحها وتهذبها وتداعبها، وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى، وبالأسجاع التي تلزمها وتكلف استمرارها، فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأفخم قدرا في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بألفاظها، فإنها لما كانت عنوان معانيها، وطريقا إلى إظهار أغراضها ومرئيها، أصلحوها وبالغوا في تجييدها وتحسينها؛ ليكون ذلك أوقع لها في السمع، وأذهب في الدلالة على القصد، فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا تريد أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندهم خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها وتشريف منها، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه، وتكوينه وتقديسه، وإنما المبغي بذلك منه الاحتياط للموعى، وعليه جوازه بما يعطر نشره ... وقال عبد القاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز»: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، وقولهم يدخل في الأذن بلا إذن، فهذا مما لا يشك العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى، وأنه لا يتصور أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة.
قلنا وهذا ما جعله المجودون من كتابنا المعاصرين نصب أعينهم، فلم يقنعوا بالقشور، بل اهتموا باللباب، وعنوا بالقوالب وما تحويه، وإذ قد أرهفوا أقلامهم لنقد الكاتبين المتوسطين، كانوا أحرياء بأن يظهروا كتاباتهم خالية من الشوائب اللفظية والمعنوية، وأدبنا في كل عصر ما خلا من نقاد يوازنون بين كلام المبرزين في منثورهم ومنظومهم، ينوهون بالكلام الشريف، ويرذلون الساقط الوضيع، ومعولهم في أحكامهم على قوانين البلغاء والذوق السليم.
لو لم تغفل عين العناية بعد القرن الرابع للهجرة عن الاقتباس عن الأمم الأخرى، ولو لم يكتف أهل الأدب والعلوم بما حصل لهم ونفحوه وأضافوه حتى القرن الثالث عشر؛ أي لو لم نقف بأدبنا عند حد ما عرفنا تسعة قرون، لكنا اليوم كفرنسا بالشعر والأدب، نفهم منها ما يفهمه الفرنسيس، بل سائر أمم الغرب الراقي من الشعوب الأنجلوسكسونية واللاتينية والسلافية، ولكنا ننال جوائز نوبل في الأدب على نحو ما يأخذها الهولانديون والسويديون على الأقل، ونحن معاشر العرب بعددنا نحو عشرة أضعاف كل أمة من تلك الأمم الصغيرة الممدنة.
وإنا نرى هذا التجدد محسوسا في الشعر كما هو محسوس في النثر، فقد جاء محمود سامي البارودي أواخر القرن الماضي في شعره عربيا قحا، وتلاه إسماعيل صبري بشيء من أدب العصر، فحل قيدا من قيوده، وجاء بعدهما حافظ إبراهيم بشعره الاجتماعي المرقص ففك قيود سابقيه، وسيجيء صاحب السلسلة الرابعة بما ليس الآن في الحسبان والتجدد والنشوء الاجتماعي. لا جرم أن للصحف والمجلات اليوم يدا طولى في هذا التطور، فإنها تنقل إلينا كل يوم شيئا جديدا عن آداب الأمم الأخرى، وكلما تطورت مدنيتنا بطور العصر، فالأدب أول ما يتطور فينا، يعلم ذلك كل من تصفح سفرا نشر قبل خمسين سنة، وكتابا نشر اليوم، ومن تلا الصحف لعهدنا وعارضها بما كان يكتب من نوعها أوائل عهد الصحافة العربية في مصر والشام وتونس، يدرك الخطوات السريعة التي خطوناها نحو المدنية، وجددناها على ما يوافق إقليمنا وطباعنا، وألبسناها حلة من حللنا الشرقية البديعة، وأساتذة هذا الشأن بمصر اليوم العقاد، وطه حسين، والمازني، وعبد القادر حمزة، وغيرهم من حملة الأقلام الذين يقودون قراءهم إلى سوق عكاظ جديد، وفي الشاميين كتاب من هذه الطبقة يطرسون على آثار كتاب مصر، ولا نعلم في العراق وتونس والجزائر أناسا يصدق عليهم تعريف المجددين في الإنشاء.
ربما يتساءل القارئ، وقد بلغ به البحث إلى هذه الجملة، وهل كان النساء يا ترى بعيدات عن هذه الحركة الأدبية على حين لم يكن في بغداد، ولا الأندلس، ولا في صدر الإسلام بعيدات عنها؟ راجع الجزء الخاص بالصحابيات من طبقات ابن سعد الكبرى و«بلاغات النساء» لابن طيفور، وأخبار الأندلسيات في «نفح الطيب»، فالجواب أنهن شاركن بقدر اللزوم، ولا يزال عددهن ينمو بنمو روح العلم فيهن، فقديما رأينا المحدثات والواعظات والمتفقهات والأديبات، واليوم نرى الكاتبات والأديبات والباحثات والخطيبات، فقد افتخرت مصر بنبوغ السيدة عائشة عصمت التيمورية شقيقة الأستاذ أحمد تيمور باشا العالم المشهور، ولها ديوان شعر سلس رقيق، وجاءت بعدها السيدة ملك ناصف، الملقبة بباحثة البادية، وهي ابنة حفني ناصف شيخ الأدب في عصره، وصاحبة كتاب «النسائيات»، وكانت كاتبة مبدعة فعاجلتها المنية ، وكان يرجى منها أن تقلب حياة المرأة المصرية رأسا على عقب، وقد حللت الكاتبة المشهورة السيدة ماري زيادة، الملقبة بمي حياة ملك ناصف في سفر بديع، دل على علو كعبها في الأدب وتحليل النفوس. وفي الشام ومصر اليوم زمرة من الكاتبات المجيدات، المتشبعات بالآداب الغربية، لا تحضرني الآن أسماؤهن بأجمعهن. والنساء عندنا في دور الفهم والتطور والاقتباس.
ولا يسعنا أن نختم هذه العجالة قبل أن نرسل سلاما طيبا إلى كتابنا الشاميين في المهاجر، ولا سيما في الأمريكيتين، فإنهم تشبعوا بالأدب الإفرنجي، فأخذوا يكتبون لقومهم هنا وهناك بلسان جديد من التجديد، بل أكثر من التجدد، واشتهر منهم أمين الريحاني صاحب «الريحانيات»، وملوك العرب وغيرهما من تآليفه، وجبران خليل جبران وهو كاتب ومصور، ولكن تصوير الكلام بالحروف يتعاصى عليه أحيانا أكثر من التصوير بالقلم والخطوط على ما يظهر، فيبدو الغموض في تضاعيف سطوره، ومثال من ذلك كتابه «الأجنحة المتكسرة»، ولكل منهما قراء ومعجبون بأدبهما، ولو كتب لهما أن يرزقا حظا من البيان العربي يوازي حظهما من الآداب الإنجليزية، إذن لجاء من شعرهما المنثور وخيالهما اللطيف مادة للمجددين في أدب لغتنا، وهناك بضعة من الكتاب نزلوا ممالك الجنوب والشمال من أميركا، فكتبوا وعلموا قومهم، ولم يكتب لنا الاطلاع على عامة ما خطته أناملهم، ونمقته أفكارهم.
ولا بأس من التصريح هنا برأي لنا خاص في الكتاب الأقدمين منهم والمحدثين، وربما كان في حملة الأقلام من لا يساهمنا هذا الرأي، ويعدون حكمنا من باب التهجم على من عرفوا كلهم شهد الله بالفضل، وأغنوا غناءهم في جانب الآداب، ولكن هو الرأي يصدره الصغير أمام الكبير، ولا إثم عليه ولا حرج، نريد أن نقول: إن عمر الطالب يقصر عن استيعاب جميع ما كتبه المنشئون في هذه الملة تصفحا ودرسا، فالأولى أن يختار الزبدة، ويأخذ الأهم فالأهم مما يعينه على تحسين ملكته في البيان، وما نخاله من حيث الأسلوب إلا مخترع طريقته بنفسه، متى تمت أدواته اللازمة، وأتقن ما لا غنية عنه من نحو اللغة وصرفها وبيانها وبلاغتها ، والأولى الاقتصار في الدراسة على من أجمعت الأمة على تبريزهم في هذه الصناعة، كعمرو بن بحر الجاحظ، وعبد الله بن المقفع، وعبد الحميد بن يحيى، وسهل بن هارون، وأحمد بن يوسف، وأضرابهم ممن كتبوا مع طبعهم غير متعلمين، وما قيل في الكتاب يقال في الشعراء جاهليهم ومخضرميهم ومولديهم، وهم - بحمد الله - كثيرون جدا، والأولى الاقتصار على بضعة من المشهود لهم بالإجادة المتناهية، أما أدب أهل العصور المتأخرة فإن الطالب يقرؤه حب الاطلاع، أو لأخذ مادة عن تاريخ الأدب في عصورهم، وبعبارة أوجز يعتمد في البيان على القدماء من قبل الإسلام إلى أواخر القرن الرابع، كما يأخذ العلوم عن المحدثين من أمم الحضارة وغيرهم.
ناپیژندل شوی مخ