ومن عيوب الحكومات التي استولت علينا وكان أثرها ظاهرا في الأخلاق، اعتماد الناس على الشفاعات والمصانعات والرشوات، حتى كان الملك نفسه إذا لم يهد إليه عامله هدية يريدها يعزله أو يقتله، فكانت الأمة من أرقى رجل يحكم في أرواحها إلى أدنى الطبقات فيها بين راش ومرتش، وسارق ومسروق؛ فضعفت ملكة الشمم، وعزة النفس، والمفاداة والأمل، وحل مكانها الذل والكسل واليأس، ثم إن تلك الحكومات المشئومة لم تنظم شئونها، ولم يكن لها تسلسل في أفكارها، فما كانت تقرره وتعتمد عليه من القوانين زمن الحاكم الفلاني، يأتي خلفه فينقضه من أساسه ويبتدع غيره؛ ولذلك لم يقم لها عمل يذكر من أعمال العمران؛ لأن حكامها يحكمون بأذواقهم، فهم أبدا ما بين مبرم وناقض يعبث الخلف بما تعب فيه السلف.
ومن جملة الأمور التي عمت بها البلوى فساد نظام البيوت بتعدد الزوجات، والإكثار من التسري على غير داع، ففسد كثير من الأسر، ونغلت نيات الأولاد، وقل تبادل الحب بين أبناء الأب الواحد، وانحطت التربية، ولم تنتقل ثروة قرونا من الأجداد إلى الأحفاد، حتى ولو وقفها صاحبها الأول إذ يجيء أناس من بعده يستحلون أكلها وتغيير شرطها، ثم إن التربية الاتكالية تأصلت في الأمة حتى لا ترى فيها على الأكثر إلا رجلا يفكر في الطرق القريبة للإثراء والراحة، فإن كان ابن ذي نعمة ينتظر منذ وعيه على نفسه أباه أو أمه أو مورثه حتى يموت، فيستمتع على هواه بالمال من دون تعب، ويطلق لشهواته العنان، والغالب أن ابن الموسر لا يعمل، ولذلك قلما دامت ثروة هنا ثلاثة بطون، وقلما رأينا شبانا يعتمدون على أنفسهم في تحصيل الثروة ويعدون الماهر، فيهم من يساعده التوفيق فيتزوج من فتاة عندها مال، غير ناظرين إلى شروط الزواج بين المتزوجين. ولحفظ الثروة رأت بعض الأسر أن تتساهل في تزويج الأقارب، فتزوج شبانها من بناتها حتى ضعف النسل، وكثر البله والزمنى والمرضى فيهم، وربما عضل كثير من الناس بناتهم ومنعهن عن الزواج؛ استبقاء للإرث في الذكور دون الإناث، وكثير من الأسر تحرم الإناث إرثهن، وتعاملهن معاملة البهائم، ولذلك تعطل جانب عظيم من الأمة وهم النساء، وظلمهن الرجال أي ظلم، فلم يفكروا في تعليمهن حق التفكير، ولا في سعادتهم الحقيقية، كأن المرأة خلقت بلا نفس كما كانوا يعتقدون في القديم في بعض بلاد الإفرنج.
ومن دواعي الانحطاط أن الهمة في الفرد عندنا لا تنبعث إلى أقصى حدودها، فإذا تذوق المتعلم لماظة من العلم يظن من نفسه الغناء في كل علم، ويكتفي بما لقنه في صغره فلا يعمد إلى البحث والنظر، وتنمية معلوماته، وإيجاد الجديد واختراع المفيد، بل يعتقد أن العمل كله في المدرسة، فإذا انتهت أيامها فليس له إلا الراحة واستثمار ما تعلم، فجاء متعلمونا وسطا في كل شيء، والوسط لا يعمل عملا في هذا المجتمع البشري، وكذلك الحال في الصانع والماهن والزارع، فأصبحنا أمة لا ترى فينا ماليا متفننا، ولا زارعا من النمط الأول، ولا رساما نابغة، ولا نقاشا، ولا كيماويا، ولا ميكانيكيا، ولا غير ذلك ممن تشتد حاجة العمران إلى تكثير سواد العاملين فيه؛ ولذلك ندر فينا النوابغ، وانقطع سند هذه العلوم من الأمة، فجاءت عليها قرون وهي تحسب أن العلم كله محصور في بعض العلوم الدينية واللسانية، وعندهم أن من روى حديثا نبويا، أو شارك في مسألة من فروع الفقه، أو قرض بيتين من الشعر عد محدثا أو فقيها أو أديبا.
ومن بواعث تدلينا في سلم الاجتماع أننا لا نحسن العشرة، ولا نحسن الاجتماع؛ وذلك لاختلافنا في طرق التربية؛ لأن أبناء الوطن الواحد لا يرمون في تعاليمهم إلى مقصد معين، فإذا حللنا تحليلا كيماويا دقيقا نجد الأمراء المتعلمين منا لا بأس بهم بالنسبة للمجموع هنا، بل بالنسبة للمتعلمين من الغربيين، ولكن إذا جئت تنظر فينا مجتمعين تكبر علينا أربع تكبيرات؛ ولذلك جاء كل عمل يقدم بعناية الجماعة عندنا منحطا أكثر من عمل الفرد على خلاف سنة الأمم، من أجل هذا لم تنشأ لنا حتى اليوم جمعيات، ولا مجامع، ولا مجالس، ولا شركات تجمع من القليل كثيرا، وتضم متفرق القوى، ومشتت القرائح والأفكار، فتحيي المعالم، وتفيد البلاد في اقتصادياتها ومعنوياتها، هذا القول في الرجال فما الحال بربات الحجال اللاتي ضاهين في الغرب الرجل في علمه وعمله إلا قليلا، وانحططن عندنا أي انحطاط بعد أن كان منهن عندنا المفسرة، والمحدثة، والراوية، والشاعرة، والأديبة، والطبيبة، والواعظة، والخطيبة المؤثرة.
قال صاحب روح الشرائع: إذا أردت أن تعرف ملكات أمة من الأمم مادية كانت أو أدبية، فارجع إلى إدارة التربية فيها، وتوزيع الخدم، ونشر المكافأة وتوقيع العقوبات تعلم ما تريد. وقال: انظر إلى بلد كثرت فيها المظالم، وامتد بقاؤها، وارتفعت ثقة المالك فيما ملكت يمينها، ترى الزارع تسقط همته وتنحل قوته، وإن استمر على الزراعة فلكيلا لا يموت جوعا، كأنما يطلب من الكسل مسليا على آلامه ومصائبه، وكذلك تسقط الصناعة؛ لسقوط الأمل في النجاح، وينبت الشوك في أجود الأراضي.
وقال فوليه: لنشوء الشعوب على ما أبانه الدروينيون طريقان: الجماعة والانتخاب الطبيعي، فالشعب في الحالة الأولى خاضع لتأثيرات متشابهة من المحيط والإقليم، وفي الحالة الثانية يعيش فيه بعض أفراد فقط، يكون نظامهم الخاص عونا لهم على التمثل والاحتذاء ، فيعيشون ويتركون لهم أنسالا، وهكذا يتحول المجتمع باطراح بعض الأسرات وبعض العناصر الخاصة، ويعمل الانتخاب الطبيعي على كل سرعة أكثر من المحيط والإقليم، ولكن يهلك في سبيله كثير من الخلق، فلا يتوهم متوهم أن شعبا ينتقل بمجموعه من الشباب إلى سن الرشد ثم إلى الشيخوخة، بل إن الشعب يرتقي بواسطة الانتخاب الطبيعي وتحكيم الصفات التي تحمي الأفراد، ومتى ظهر الهرم والسقوط تصبح أحسن مقوماته، وقد داهمتها عناصر أصغر منها ونزلت منازلها.
قال: وعوامل الانتخاب الطبيعي التي تجري بين الشعوب المختلفة هي الحرب والاستعمار، ونمو السكان، والمنافسة في التفوق الاقتصادي والسياسي والعلمي.
أما عوامل الانتخاب الطبيعي التي تفعل في نفس الأمة فهي الحرب والخدمة العسكرية، وتنقل الأفراد في ربوع الوطن الواحد، ونحو سكان المدن وعقوبة المجرمين ومعاونة الفقراء، والمحاويج وتشريد المسيئين للدين أو لغيره واضطهادهم، وانتشار الشفاعات السياسية، كأن لا يحمي صاحب الشأن غير جماعته وجملة حاشيته، والنفور السياسي والفردية والشرائع والعادات والأفكار الاجتماعية والدينية بشأن الزواج، واجتماع الجنسيين الذكر والأنثى وإرادة النهوض، هذه أهم العوامل التي تنمي أمة أو تقرضها، وتحسن سيرها أو تسيئه.
وبعد، فإن الناظر في ماضي الأمة العربية وحاضرها يدهش للفروق الكثيرة المحسوسة، وعندما يشاهد جراثيم النهضة وعوامل الحياة تنشر وتدب في جسمها اليوم، يعتقد بأن الحاضر سيكون على مثال الغابر أو أجمل منه، وعلى طريق نافع، والأمل معقود في هذا الشأن على المعلم والمعلمة، فقد قيل: لولا المربى ما عرفت ربي.
لا جرم أن الغيور على قوم يفادي بكل نفيس؛ ليحمل إليهم الخير، والكامل من سعى إلى تكميل غيره وإن كان ناقصا، والجاهل في ذمة العالم له عليه حق التعليم والاشتراك في النعمة.
ناپیژندل شوی مخ