العلم الصحيح هو الذي يربي الملكات ويهذب النفوس، فلا يستخدم صاحبه علمه أداة للغلبة بالباطل، والإدلال على الأقران، والذهاب بفضل الشهرة والمحمدة الزائلة والتبجح والتنطس، فامنح اللهم بفضلك هذه الديار شيئا من هذا العلم، وكثر فيها سواد أهله بمنك وحسن تسديدك.
علاقة العرب بالغرب1
فأميرنا هو الذي وضع المسألة العربية على بساط البحث، ووجه إليها أنظار العالم الغربي، وكانت مسألتنا من قبل مندمجة في المسألة الشرقية، فميز بصحة عقله بين المسألتين الشرقية والعربية، وأبان للغربيين أن العرب غير الترك، وأننا أمة قوية الشكيمة، يبلغ عددنا أكثر من نصف سكان تلك الإمبراطورية العثمانية المنحلة، وأبعد منهم كعبا في المدنية، وليس لهم من المزايا علينا إلا أن الطالع ساعد ملوكهم الأقدمين، وقاموا بغفلة الدهر عنهم، فأنشئوا ذاك الملك الضخم بقوة سلاحهم الذي لم يبرحوا شاهريه إلى ساعة انهزامهم من بين أظهرنا؛ أي إنهم اكتفوا مدة أربعة قرون باستصفاء البلاد، وما استطاعوا أن يستصفوا القلوب، وشتان بين من يخضع الأجسام الجامدة، ومن يخضع الأجسام الحية.
ربما كان بين أهل الغرب اليوم عدد قليل من الناس لا يثبتون مزية للمدنية العربية القديمة، وهؤلاء ممن أخذوا معلوماتهم عن كتب أملاها المتعصبون منهم، وبعضهم من سكان الأديار الذين ضاقت عن تحملهم، مثل أرض فرنسا، وسويسرا الحرة، ولكن هناك مئات من علماء المشرقيات أخصوا بعلوم الشرق ولغاته، ولا سيما بسيدتها اللغة العربية، فدرسوا الحضارة العربية والتاريخ العربي في مظانه وبلغته، وأزالوا غشاوة الأوهام عن العوام بما أنشئوه من المجلات، ونشروه من الكتب بلغاتهم المختلفة، يبينون للناس مجد هذه الأمة الغابر، وأيامها الغر المحجلة، وربما كان منهم المتعصب للعرب وتحبيذ دولهم السالفة أكثر من تعصبه لمدنية الأمم الحديثة، وهؤلاء هم الذين يخدمون العلم للعلم، لا يتبعون فيه على الغالب هوى النفوس في السياسة، ولا سلطان للأديان تمليه على ضمائرهم.
ومن قرأ دائرة المعارف الإسلامية التي لا تزال تصدر إلى اليوم في مطبعة ليدن من عمل هولاندة بلغات العلم الثلاث: الإنكليزية والألمانية والفرنسوية، وهو أصح كتاب كتب في تاريخ بلاد العرب وجغرافيتها، وتراجم رجالها وأصول شعوبها، ومن عرف أن أمهات كتبنا في الدين والعلم والتاريخ لا تزال تطبع في مطابع الغرب من زهاء أربعمائة سنة؛ أي على أوائل عهد اختراع الطباعة، وأن المطبوع منها بالعناية الفائقة تتألف منه خزانة كتب كبرى تحتوي على كل فن ومطلب، وأن ما طبع من أسفار أسلافنا في أوروبا وأميركا على أيدي المستشرقين من أهل تينك القارتين يبلغ أضعاف أضعاف ما طبع بلغات الشرق كله؛ من عرف كل هذا يدرك ولا جرم مبلغ عناية الإفرنج بلغتنا ومدنيتنا وتاريخنا.
أكدوا - أيها السادة - أن تفسير القرآن الكريم يقرأ درسا على طلاب الجامعات في الغرب، كما تقرأ دروس الفلسفة والتاريخ والأدب، وما أنس لا أنس، وقد دعاني في بودابست الأستاذ غولد صهير العلامة المجري إلى داره، وهو يقول: إني الآن ذاهب إلى الكلية لإلقاء درسي وأعود إليك بعد مدة، فسألته ماذا تقرأ الآن لتلاميذك يا أستاذ، فقال: تفسير القرآن. وأغرب من هذا ما ذكره لي صديقي العلامة أحمد زكي باشا المصري، قال: دخلت على الأستاذ درانبورغ في مدرسة اللغات الشرقية الحية، فرأيته إسرائيليا يدرس كتاب المسلمين لجماعة من المسيحيين. أما الحديث والفقه والأصول والتصرف فهو أيضا مما يعانونه، كما يعانون غيره من آدابنا وتاريخنا وعلومنا. ورجال الإفرنج يدركون حقيقة العرب وعلومهم منذ توطد سلطان الأمويين في الأندلس، وأخذ بعض المتنورين منهم يدخلون تلك المملكة العربية ويدرسون العلوم على علمائها، ويعودون إلى فرنسا وإيطاليا ينشرونها بين قومهم. وكان بعض المشتغلين على علماء العرب من الإسرائيليين، وبعضهم من المسيحيين الذين تولوا بما تعلموه أعظم منصب ديني في النصرانية، وكأن الله سخر العرب ليفتحوا الأندلس ويعمروها؛ حتى ينقلوا لأهل أوروبا العلم والحضارة، ولما أنهوا مهمتهم عادوا أدراجهم من تلك المملكة البديعة.
امتاز المسلمون بإحسانهم إلى من خالفهم إذا كان مما تحمد سيرته السياسية والوطنية؛ ولذلك حموا الإسرائيليين مواطنيهم في الأندلس، ويوم أخرجوا منها فكروا في حماية الإسرائيليين ومصالحهم، كما نظروا في حماية أبناء دينهم، اشترطوا على الغالب شروطا تقيهم بأسه، وكان الإسرائيليون إذ ذاك في الغرب مضطهدين في كل مكان إلا في الأندلس، وكم استمتع الإسرائيليون بحريتهم على عهد العرب في الأندلس على صورة لم يعد لهم مثلها إلا في القرن الأخير في أوروبا.
حمى العرب الإسرائيليين في الغرب كما حموهم في الشرق، واعتمدوا عليهم في مصالح الدولة؛ لأن الإسرائيليين كانوا إذ ذاك يعضدون الحكومة التي تحكمهم كما هو اليوم في إيطاليا، حيث كان لهم القدح المعلى في قيام الوحدة الإيطالية منذ نحو خمسين سنة، وكان لهم من النفوذ الاقتصادي العظيم ما خدموا به الوحدة، وأخلصوا لها وخدموا سياسة إيطاليا، حتى أصبح منهم الولاة ورؤساء النظار وكبار العمال
2
لا ينازعهم منازع؛ وذلك لأن الإسرائيلي في إيطاليا إيطالي أولا، ثم إسرائيلي خلافا لما عليه سائر الممالك.
ناپیژندل شوی مخ