159

قدیم او حدیث

القديم والحديث

ژانرونه

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

ولما ثبتت قدم صلاح الدين في مصر، وأزال المخالفين - كما قال ابن الأثير - وضعف أمر العاضد، ولم يبق من العساكر المصرية أحد، كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية، فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر، وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك؛ لميلهم إلى دولة المصريين، فلم يصغ نور الدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاما لا فسحة له فيه، واتفق أن العاضد مرض، وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة، فاستشار أمراءه في كيفية الابتداء بالخطبة العباسية، فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها، ومنهم من خاف ذلك، إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين، فلما كان أول جمعة من المحرم (567) خطب للمستضيء بأمر الله تعالى العباسي فلم ينكر أحد ذلك، فلما كانت الجمعة الثالثة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله تعالى ففعلوا ذلك، ولم ينتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية.

وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أهله وأصحابه بانقطاع الخطبة باسمه، وقالوا: إن سلم فهو يعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم، ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصره وجميع ما كان فيه، وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش، وهو خصي يحفظه، فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين، ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل بحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في إيوان بالقصر، وجعل عندهم من يحفظهم، وأخرج من كان فيه من العبيد والإماء، فأعتق البعض ورهب البعض وباع البعض، وأخلى القصر من أهله وسكانه، وكان ابتداء الدولة العبيدية أو الفاطمية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين ومقامهم بمصر مائتي سنة وثماني سنين، وملك منهم أربعة عشر ملكا، آخرهم العاضد وأولهم المهدي.

أزال صلاح الدين دولة العبيديين على أهون سبب؛ لأنها لم تعد صالحة للبقاء، وكفى أن أمراءها أخذوا يراسلون الإفرنج لتسلم لهم مناصبهم - كما فعل جماعة عمارة اليمني - وأخذوا يراسلون الفرنج في صقلية وساحل الشام ليقلبوا الحكومة الصلاحية، ويعيدوا الدولة العبيدية، فشعر بهم صلاح الدين وصلبهم، وكما فعل غير واحد من ملوك الطوائف في الأندلس، فأنشئوا يحتمون بجيرانهم وأعدائهم، ويستعينون بهم على قتال ذويهم وأبناء ملتهم، فكان ذلك من أهم الأمور في طمع الإسبانيين ببلاد الأندلس واسترجاعها بعد أن حكمها العرب قرونا، عن علي بن عيسى بن الجراح قال: سألت أولاد بني أمية ما سبب زوال دولتكم قال: أربع خصال، أولها: أن وزراءنا كتموا عنا ما يجب إظهاره لنا، والثانية: أن جباة خراجنا ظلموا الناس، فارتحلوا عن أوطانهم، فخربت بيوت أموالنا، والثالثة: انقطعت الأرزاق عن الجند فتركوا طاعتنا، والرابعة: أيس الناس من إنصافنا فاستراحوا إلى غيرنا، فهذا كان سبب زوال دولتنا. قلنا: وهو سبب ذهاب أكثر الدول، وهذه الخصال كانت - ولا شك - موجودة في الفاطمية.

قال صاحب الكامل: ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد، ووهب أهله ما أراد، وباع منه كثيرا، وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفسية ما لم يكن عند ملك من الملوك، قد جمع على طول السنين وممر الدهور، فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قصبة ونصف، والحبل الياقوت وغيرهما، ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد، وهكذا عادت إلى مصر الخطبة والسكة باسم الخليفة العباسي بعد أن انقطعت دهرا طويلا، فأرسل المستضيء بأمر الله خلعة إلى نور الدين في الشام، وأخرى أقل من خلعته إلى صلاح الدين في مصر.

ثم حصلت وحشة بين نور الدين وصلاح الدين؛ وذلك أن الأول طلب إلى الثاني أن يجمع العساكر المصرية، ويأتي إلى الكرك ليجمع هو العساكر الشامية، ويأتيها ليخلصوها من الإفرنج، فبعد أن صدع بالأمر أرسل إليه كتابا يعتذر فيه عن الوصول باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها، وأنه يخاف عليها مع البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها، فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغير عليه، وكان سبب تقاعد صلاح الدين أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين، فإذا لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين منها، فبلغ الخبر إلى صلاح الدين فجمع أهله ومنهم والده نجم الدين وخاله شهاب الدين الحازمي، ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه، واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء، فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأي وفكر وعقل وقال لتقي الدين: اقعد وسبه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك أتظن أن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا، فقال: لا، فقال: والله لو رأيته أنا وخالك شهاب الدين نور الدين لم يمكننا إلا أن نترجل له، ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا فكيف يكون غيرنا، وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر من الثبات على سرجه، ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه، وهذه البلاد له، وقد أقامك فيها، وإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا، والرأي أن تكتب إليه كتابا وتقول: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد، فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجابا يضع في رقبتي منديلا ويأخذني إليك، فما ههنا من يمتنع عليك، وقال لجماعته كلهم: قوموا عنا، فنحن مماليك نور الدين، وعبيده يفعل بنا ما يريد، فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر، ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير، وتطلعهم على سرك وما في نفسك، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد جعلك أهم الأمور وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم تر معك أحدا من هذا العسكر، وكانوا أسلموك إليه، وأما الآن فبعد هذا المجلس سيكتبون إليه، ويعرفونه قولي وتكتب أنت إليه وترسل إليه في المعنى، وتقول: أي حاجة إلى قصدي يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع عدل عن قصدك، واستعمل ما هو أهم عنده، والأيام تتدرج، والله كل وقت في شأن، والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل، ففعل صلاح الدين ما أشار به والده، فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب، وتوفي نور الدين ولم يقصده، وملك صلاح الدين البلاد، قال ابن الأثير: وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها.

هذا هو التوفيق الذي حالف صلاح الدين، دخل مصر كارها مع عمه، فصار قائد جندها، ثم تولى وزارتها، فملكها وقلب دولة العبيديين، وكل ذلك بأخذه بالحزم في أموره، واستشارته العقلاء من أهله ورجاله ، وكان من طبعه ألا يبت أمرا بدون مشورة، هكذا كان منذ ابتدأ شابا إلى أن استولى بعد وفاة نور الدين سنة 569 على الشام، إلى أن استخلص بيت المقدس من أيدي الإفرنج، وطردهم من أكثر مدن ساحل الشام، يعمل بقول بشار:

إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن

برأي لبيب أو نصيحة حازم

ناپیژندل شوی مخ