156

قدیم او حدیث

القديم والحديث

ژانرونه

يرى الناظر في كتاب العماد الكاتب الأصفهاني أنه لم يكد يغفل تفاصيل الوقائع الصلاحية، أو يشذ عنه نادرة من النوادر اليوسفية الأيوبية على ضيق عطن النثر والسجع عن قبول هذه المعاني بجملتها، ويعاب على الأصفهاني كثرة تبجحه بكتابته، فقد ذكر غير ما مرة من كتابه أنه كان هو الفرد المقدم في الديوان الصلاحي، مع أن ابن شداد ذكر عن نفسه شيئا من ذلك بالعرض، أورده - كما رأيته - في معرض الكلام عن منائح صلاح الدين، ولكن صاحبنا العماد جرى على عادة الفرس في المبالغة سامحه الله.

فقال في فتح بيروت: «وكنت يومئذ في مرض قد أزعجني وأعجزني، ومضض أجفاني، ولعيون العواد أبرزني، وانقطعت عن الحضور عند السلطان، وضعفت عن تحرير كتاب الأمان، فطلب السلطان كل كاتب في ديوانه، وكل من يمسك قلما من أفاضل الملك وأعيانه، فلم يرضه ما كتبوه، ولم يكفه ما رتبوه، فجاءني في تلك الحالة من استملاه مني، ومرضت أذهان الأصحاء، ولم يمرض ذهني، فتسلم بيروت بخطي، وأصبحوا وأنا الآخذ والمعطي، وكان الناس قد أنسوا بما أسطره وأزبره، وأنسوا سوى ما أذكره وأحبره وألفوا الصحة فيه فألقوه، ولقوا السقم في غيره فأنفوه، فلم يكن في ذلك التوقيع تعويق، بل كله بتوفيق من الله توثيق، فما فتح فتح إلا بمفتاحه، ولا رتق فتق إلا بإصلاحه، ولا جلي ظلام إلا بإصباحه، ولا وري زند إلا باقتداحه.» ا.ه.

وقال من فصل: وكان قد عرض له مرض، فانقلب إلى دمشق يداوي مزاجه، فلما عاد إلى الحضرة سأله السلطان: «أين كنت؟ ولم أبطأت؟ وحيث أصبت في المجيء فما أخطأت، وقد كنا في انتظارك والسؤال عن أخبارك، وهذا أوان إحسانك، فأين إحسان أوانك، فأجر بنانك بجرأة بيانك، وأجز في ميدانك، وما للبشائر (بفتح القدس) إلا واصفها، وللفرائد إلا راصفها، وللفصاحة إلا قسها وللحصافة إلا قيسها، وكان قد جمع أمس كتاب دواوينه على إنشاء كتب ما ارتضاها واقتضاب معان ما اقتضاها، وكانوا سألوه في كتاب الديوان العزيز فقال: لهذا من هو أقوم به. وعناني، فلما ساءني ناداني واستدناني، فصرفت إلى امتثال أمره عناني، وسلم إلي الكتب التي كتبوها بالألفاظ التي رتبوها، وقال: غيرها ولا تسيرها. وغرضه أني أعدل معوجها، وأبدل مثبجها، وأفترع المعنى البكر للفتح البكر، وأوشح ذكر آياته بآيات الذكر. فاستجديتها فما استجدتها، واستلمحتها فما استملحتها، وشممتها وبها سهك، وكشفتها وسترها هتك، وكانوا قد تعاونوا عليها وفيها لهم شرك، فشرعت في افتضاض الأبكار، واقتضاء الأفكار، واقتراح القريحة، واقتراء رحاب الكلم الفصيحة الفسيحة، وافتتحت في بشرى الفتح بكتاب الديوان العزيز، وأوردت المعنى البليغ في اللفظ الوجيز، ووشحت ووشعت، وشعبت وأشبعت، وأطلت وأطبت، وصبت وأصبت، وأعجزت وأعجبت، وأطريت وأطربت، وأبعدت وأبدعت، ورصعت وصرعت، وطابقت وجانست، ووافقت وأنست ...» ا.ه.

وقال في الوقعة العادلية: «ولما عرفت بالواقعة والنصرة الجامعة صدرت ثلثين أربعين كتابا بالبشارات بأبلغ المعاني وأبرع العبارات، وقلت: إذا نزل السلطان وجد الكتب حاضرة والبشائر شائرة، وركبت أنا والقاضي بهاء الدين بن شداد لمشاهدة ما هناك من أشلاء صرعى وأجساد، فما أعجل ما سلبوا وعروا وفروا وقروا، وقد بقرت بطونهم وفقئت عيونهم، ورأينا امرأة مقتولة لكونها قاتلة، وسمعناها وهي خامدة بالعبرة قائلة، وما زلنا نطوف عليهم، ونعبر ونفكر فيهم ونعتبر، حتى ارتدى العشاء بالظلام، فعدنا إلى الخيام، وأخذت الكتب التي نمقتها بالبشائر التي حققتها، وجئت وإذا السلطان قد استبطاني وعدم إجابتي لما دعاني، فما صبر ولا انتظر ولا ترقبني أن أحضر، ولا أمهل أن أعطي البشارة حقها، وأجلو بأنوار المعاني أفقها، وأبلغ بالبلاغة مداها، وأصبغ بتقليص الضلالة ثوب هداها، وأصف بحدود الأقلام ما صنعته حدود السيوف، وأروج نقودي عند السلطان وأغنيه عن الزيوف، فأبصرت عنده مشرفي المطابخ والأبيات ومدوني الجرائد بالإثبات، وقد كتبوا تلك البشارة الثقيلة الجليلة في رقاع خفيفة بعبارات سخيفة، وقد عطلت الحسناء من حليتها، وعروها من بزتها، وشوهوا جمالها وأحالوا حالها، فذهب بها المبشرون وسار القاصدون، فما كان لتلك الوقعة عند من وقعت عليها وقع، ولا تم لغليل من رام الاطلاع على حقيقتها نقع، وأرادوا بدمشق قراءتها على المنبر فما استحسنوها، ولو وردتهم بزينة عبارتي وبراعتي زينوها، وفي تلك الحال التفت السلطان إلي وقال: اكتب بهذه البشارة إلى بغذاذ، وعجل لها الإنفاذ، فقلت في سبيل العتب: أنتم تريدون ما أكتبه، ولا ترغبون فيما أرتبه وأهذبه، فقال: كأنك كتبت البشائر فهاتها حتى تهدي إلى طرقاتها، فقلت: ما فات فات، وهيهات هيهات، وأخرجت له ما بقي من بشارات البلاد التي أنشأتها، بالألفاظ والمعاني التي ابتدعتها وابتدأتها، فسارت فسرت البعيد والقريب، وخصت من جداها بالخصب الجديب، وصدحت بأسجاعها المنابر، وصمت بسماعها المفاخر، وظهرت بعباراتها العبر، وبهرت بزبرها الزبر، وعمرت بمعانيها المغاني، وعمت مباهجها مناهج الأقاصي والأداني.» ا.ه.

وقال من هذا البحر والقافية: «في ذكر لطف من الله في حقي خفي كان السلطان قبل استيلاء الفرنج على عكا بسنة قد عمل ترجمة تفرد بها القاضي ابن قريش لمكاتبة الأصحاب؛ ليكتب بها إليهم، ويعود بها الجواب، فلم يبق المكاتبة ابتداء وجوابا بخطي، وخرج حكم عكا في الكتابة عن شرطي، فقلت لأصحابي: ما صرف الله قلمي عن عكاء، إلا وفي علمه أن الكفر إليها يعود، وأن النحوس تحلها، وترحل عنها السعود، واستعاذني الله من استعادتها، وردها إلى شقاوتها بعد سعادتها. ولقد عصم الله قلمي وكلمي، وعرف شيم مخايل الطاقة من شيمي، وهذا قلم جمعت به أشتات العلوم مدة عمري، وما أجراه الله إلا بأجري، فالحمد لله الذي صانه وعظم شانه، وما ضيع إحسانه، وهو للفقير والفتيا، ومصالح الدين في الدنيا، وما عرف إلا بعرف، فما صرف إلا عن صرف، وما صفارته إلا في نجح، وما أسفاره إلا عن صبح، وما تجارته إلا لربح، فهو يمين الدولة وأمينها، ومعين الملة بل معينها، بمداده يستمد إمدادها، وبسداده للثغور سدادها، ودواته دواء المعضلات، وبعقده حل المشكلات، وبخطه حط عوادي الخطوب، وبقطه قط هوادي القطوب، وببريه برء الأمراض، وبدرئه درء الأعراض، وبدره انتظام عقود العقول، وبداريه ابتسام الإقبال والقبول، وبجريه جري الجياد للجهاد، وبسعيه سعي الأمجاد للأنجاد، وبحركته سكون الدهماء، وببركته ركون الرجاء، فما كان الله ليضيعه في صون ما لا يصونه وعون ما لا يعينه، فخفت على عكاء من وقوف قلمي عنها، وكان قد ألهمني الله، فإنه صانه ولم يصنها، وشكرت الله على هذه اللطيفة والعارفة الطريفة.» ا.ه.

وقال من فصل في وفاة السلطان، وكيف كانت حاله بعده: «وبقيت تلك الأيام لا أفرق بين الدجى والضحى، ولا أجد قلبي من سقم الهم وسكره صح ولا صحا، وحالت حالي، وزال إدلالي، وزاد بلبالي، وبطل حقي، واتسع خرقي، وتنازل جاهي، وتنازق أشباهي، وأعضلت أدواء الدواهي، وبقيت المعارف متنكرة، والمطالع مكفرة، والعيون شاخصة، والظلال قالصة، والأيدي يابسة، والوجوه عابسة، وعادت أبكار خواطري عانسة، ونجوم قرائحي وشواردها الآنسة خانسة كانسة، وبقي باب كل مرتجى مرتجا، ومنهج كل معروف منهجا، وظعن الغني عني، واختلف في حسن الأخلاف بي ظني، حتى تولى الملك الأفضل بدمشق مقام أبيه، وقام بالأمر بعزم تأنيه وحزم تأتيه وعز تأبيه، فعرف افتقاره إلى معرفتي وفقري، وإلى عطل الملك ومحله من غزارة حلب دري ونضارة حلي دري، فكتبت له، وحليت من الملك عطله، ووشيت الكتب ووشعتها، وجليت الرتب ووسعتها، وهززت اليراعة، وأغزرت البراعة، وهجرت الجماعة، ولزمت القناعة.» ا.ه.

هذا هو الإعجاب بالنفس، بل إعجاب الفرس تراه ماثلا من أول كتابه إلى آخره، فقد قال في مقدمته: «وأودعته من فوائد الكلام، والفرائد الفذ والتؤام، در السحاب، ودر السخاب، وسميته الفتح القدسي تنبيها على جلالة قدره وتنويها بدلالة فخره، وعرضته على القاضي الأجل الفاضل، وهو الذي في سوق فضله تعرض بضائع الفضائل، فقال لي: سمه «الفتح القسي في الفتح القدسي»، فقد فتح الله عليك فيه بفصاحة قس وبلاغته، وصاغت صيغة بيانك فيه ما يعجز ذوو القدرة في البيان عن صياغته.» ا.ه.

وأظن أن القاضي الفاضل على جلالة شأنه ما كان يستحق هذا الإعظام من العماد لو لم يكن نوه له بكتابه، على أن للعماد من المزايا التي يفاخر بها ما قد يغفر له هذا التبجح، ولكن كثيرين يفاخرون، وليس عندهم شيء من المزايا. نشأ العماد بأصبهان، وقدم بغداد في حداثته، وتفقه بالمدرسة النظامية، وأقام بها مدة (ابن خلكان)، ولما تخرج ومهر تعلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد، فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، فلما توفي أقام العماد مدة في عيش منكد وجفن مسهد، ثم انتقل إلى دمشق (562ه) وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين، وعرفه والد صلاح الدين، فأحسن إليه وأكرمه وميزه من الأعيان والأماثل، وعرفه صلاح الدين ومدحه بقصيدة، ثم إن القاضي كمال الدين الشهرزوري نوه بذكره عند السلطان نور الدين، وعدد عليه فضائله ، وأهله لكتابة الإنشاء، قال العماد: فبقيت متحيرا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي ولا تقدمت لي به دراية. ولقد كانت مواد هذه الصناعة عتيده عنده، لكنه لم يكن قد مارسها، فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه، وأجاد فيها وأتى فيها بالغرائب، وكان ينشئ الرسائل باللغة العجمية أيضا، وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة وامتزاج تام، ولما أخذ صلاح الدين دمشق حضر بين يديه، وأنشده قصيدة أطال نفسه فيها، ثم لزم الباب ينزل لنزول السلطان ويرحل لرحيله، فاستمر على عطلته مديدة، وهو يغشى مجالس السلطان، وينشده في كل وقت مدائح، ويعرض بصحبته القديمة، ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه، واعتمد عليه، وقرب منه فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين، يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم، وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان، ويتوفر من مصالح الديار المصرية والعماد ملازم للباب بالشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم، وصنف التصانيف الفائقة من ذلك كتاب خريدة القصر وجريدة العصر جعله ذيلا على زينة دمية الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن على الوراق الخطيري، والخطيري جعل كتابه ذيلا على دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي، والباخرزي جعل كتابه ذيلا على يتيمة الدهر للثعالبي، والثعالبي جعل كتابه ذيلا على كتاب البارع لهارون بن علي المنجم.

وقد ذكر العماد في خريدته الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب، ولم يترك أحدا إلا النادر الخامل، وأحسن في هذا الكتاب وهو في عشر مجلدات، وصنف كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات وهو مجموع تاريخ، وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام، وما جرى له في خدمة السلطان نور الدين محمود، وكيفية تنقله بخدمة السلطان صلاح الدين، وذكر شيئا من الفتوحات بالشام، وهو من الكتب الممتعة، وإنما سماه البرق الشامي؛ لأنه شبه أوقاته في تلك الأيام بالبرق الخاطف لطيبها وسرعة انقضائها، وصنف كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس، وصنف كتاب السيل على الزيل جعله ذيلا على الذيل لابن السمعاني، وهو ذيل على كتاب خريدة القصر، وصنف كتاب نصرة الفترة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية (مطبوع)، وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات، ونفسه في قصائده طويل، وله ديوان صغير جميعه دوبيت، وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطاف.

ولم يزل العماد الكاتب على مكانته ورفعة منزلته إلى أن توفي السلطان صلاح الدين - رحمه الله تعالى - فاختلت أحواله، وتعطلت أوصاله، ولم يجد في وجهه بابا مفتوحا، فلزم بيته، وأقبل على الاشتغال بالتصانيف، وكانت ولادته يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان، وتوفي يوم الاثنين مستهل شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر.

ناپیژندل شوی مخ