وغريب كيف أخرج بعضهم في القديم إسحاق بن إبراهيم الموصلي من سلك الفقهاء، وكان أحرى أن يعد بينهم؛ لأنه يلحن الأنغام، ويخترع ضروب الغناء، ويشتغل بآلات الطرب مع أنه ليس دون علماء عصره بعلومهم، ولكن غلب عليه الغناء فعدوه في الندماء، كما غلب الشعر على بعضهم فعدوه في الشعراء أمثال أبي نواس، وما هو في الحقيقة إلا من كبار علماء العربية.
وإنا إذا استقرينا التاريخ على اختلاف العصور نجد أن المنصفين من المؤرخين يذكرون العالمين بغير العلوم الدينية كما يذكرون علماء الدين؛ لأنهم كلهم أعضاء نافعون في المجتمع، فقد كان خالد بن يزيد الأموي من أهل القرن الأول عالم قريش بالكيمياء والطب بصيرا بهذين العلمين، وكان أبو الفضل الحارثي من أهل القرن الخامس عالما بالهندسة والفلك والحساب والتقسيمات والهيئة ونقش الرخام وضرب الخيط والطب، ومحمد القيسراني من أهل القرن الخامس أيضا عالما بالمساحة والميقات والفلك، ورضوان الخراساني من أهله أيضا عالما بالرياضيات، وأبو المجد ابن أبي الحكم من أهل السادس عالما بالطب والهندسة والنجوم والموسيقى والعدد والغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات، عمل أرغنا وبالغ في إتقانه، وكان ابن الصلاح من أهل السادس عالما بالحكمة متميزا بالطب، وموفق الدين بن المطران من السادس عالما بالطب والفلسفة، وابن المؤيد العرضي ورفيع الدين الجيلي وعز الدين الأربلي من أهل السابع علماء بالفلسفة والرياضيات.
وهكذا لو استقصينا كتب التراجم لعثرنا من أسماء المشتغلين بغير العلوم الدينية على سلسلة طويلة، وكلهم أطلق عليهم اسم العالم والمحقق والإمام والعلامة على رغم أنوف المكابرين، وذكرتهم الأعصار بآثارهم أكثر ممن جعلوا مناصب الدين وألقابه سببا إلى الدنيا ونيل الحظوة من العامة، والزلفى من السلاطين والأمراء، وقد رأينا بعض المشتغلين بعلوم الشريعة لعهدنا يتخلصون من إطلاق لفظ عالم، وعلامة على من لم يتزي بزيهم الخاص بأن يطلقوا عليه اسم الكاتب، على أن لفظة كاتب التي يحتقرونها قل في المعدودين من يستحقها، قال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر: ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم، حتى قيل: كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه، فيقال: فلان النحوي وفلان الفقيه وفلان المتكلم، ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة، فيقول فلان الكاتب، وذلك لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن. ا.ه.
وهذا التحكم البارد في الحط ممن أخصوا في بعض الفنون التي يجهلها أكثر المتعممين، ولا يعدونها علما في نظرهم تخرج كثيرا من الأئمة من عداد العلماء بحسب عرفهم، ممن لم تكن الكتابة إلا من جملة ما يعلمون أمثال الجاحظ، فإنه بحسب عرفهم كاتب فقط؛ لأنه مجيد في الإنشاء للغاية، وكذلك القاضي الفاضل وابن خلدون وابن فضل الله وأبو الفدا وغيرهم من مشاهير العلماء الذين كانوا أئمة في الإنشاء؛ هذا لأن أولئك الأعلام لم يؤلفوا أو لم يريدوا أن يؤلفوا في الفقه والأصول والكلام والحديث، على حين ورد في الكتاب العزيز:
يعلمه علماء بني إسرائيل
فأطلق تعالى عليهم لفظ علماء، وجاء فيه:
والذين أوتوا العلم درجات ، قال الراغب: إن هذا تنبيه منه تعالى على تفاوت منازل العلوم وتفاوت أربابها.
ولقد شاهدنا ما يضحك من تحكم بعض أرباب الصحف السيارة في الألقاب العلمية، حتى آل الأمر ببعض الفضلاء أن يستنكفوا من ذكر أسمائهم بين أناس لا يلحقون غبارهم بحال؛ لأن منشئ كل صحيفة يعطي من الألقاب لمن يحبه ما يستحي العاقل من إطلاقه على أفضل أهل العصر، ويمنع ذلك عن المستحق، يريد بذلك إسقاطه، حتى قال بعضهم: من العلامة ألا تكون للمرء علامة، فما دامت لفظة علامة تطلق على المغفلين من الطلبة، فأجدر بمن يستحقون هذه اللفظة أن يزهدوا فيها، وهكذا لفظ «الأستاذ» و«المعلم» و«الفاضل»، وهذه اللفظة اليوم تطلق على تسعة أعشار من يقرءون ويكتبون.
وبعد، فإن سلسلة الارتقاء وسلسلة الانحطاط نمط واحد، يتبع بعضها بعضا في كل أمة، والتغالي في الألقاب من جملة تعلق الأمة، بل من يطلق عليهم الخاصة منها بالقشور دون اللباب، وما أجدر أرباب الصحف والمجلات أن يتخلوا عن هذه الألقاب التي لا ميزان لها ولا مقياس، وأن يذكروا الأسماء مجردة كما هو اصطلاح الأمم الراقية كالإنكليز والأميركان والفرنسيس والألمان، بل كما كان اصطلاح أجدادنا العرب صدر الإسلام، والجديرون بالوصف تنم أوصافهم عنهم من مثل التعليم زمنا، وتخريج طلبة راقين، أو الإجادة في التأليف، وغير ذلك من سمات الفضل والعلم، قال المقدسي: إن مراتب السادات مثل جليل وفاضل رسم الرسائل لا رسم التصانيف، والجرائد والمجلات كالكتب لا تخرج عن حد التأليف في صورة أخرى؛ ولذا وجب أن تعرى من ألفاظ التمجيد، ولا سيما إطلاق الألقاب العلمية على من تذكرهم؛ لأن في ذلك تضليلا للعقول واستهزاء بمقادير أهل الأقدار.
التمييز في الألبسة1
ناپیژندل شوی مخ