الشعر إذن هو أول مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية القوية لهاتين الأمتين. وتستطيع أن تقول في غير حرج: إن الشعر هو أول مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية القومية لكل الأمم المتحضرة التي عرفها التاريخ. وإذن فالشعراء هم قادة الفكر في هذه الأمم؛ تأثروا بحياتها البدوية، فنشئوا ملائمين لها؛ وتميزت شخصياتهم فأثروا فيمن حولهم، ثم في الأجيال التي خلفتهم.
وهل كانت توجد الحضارة اليونانية التي أنشأت «سقراط» أو «أرسطاطاليس»، والتي أنشأت «إسكولوس» و«سوفكليس»، والتي أنشأت «فدياس» و«بيركليس» لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر «هوميروس» وخلفائه؟! وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية، التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لو لم توجد البداوة العربية، التي سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟! غير أن هناك فرقا عظيما بين بداوة العرب وبداوة اليونان: بداوة العرب أثرت في العرب وفي الحضارة الإسلامية، ولم تجاوز الحضارة الإسلامية إلا قليلا. وإذن، فشعراء الجاهلية العربية عرب لا أكثر ولا أقل. أما بداوة اليونان، فقد أثرت في اليونان، وأثرت في الرومان، وأثرت في العرب، وأثرت في الإنسانية القديمة والمتوسطة، وهي تؤثر الآن في الإنسانية الحديثة، وستؤثر فيها إلى ما شاء الله، وإذن فشعراء البداوة اليونانية يونان، ولكنهم ملك للإنسانية كلها.
ومن هؤلاء الشعراء من نسيتهم الإنسانية نسيانا تاما، وعاشت بآثارهم عصورا طوالا، ثم تنبهت لجمال هذه الآثار فأخذت تبحث عن أصحابها، وما تزال تبحث عنهم إلى الآن دون أن تجدهم؛ وأكبر الظن أنها لن تجدهم أبدا، وإذن فقد خلقتهم خلقا، وابتكرتهم ابتكارا. وبين أيدينا منهم صور مختلفة، تختلف باختلاف الأجيال التي أنشأتها. بين أيدينا الصورة اليونانية التي اخترعها اليونان في القرن السابع قبل المسيح، وفي القرون التي وليته، والتي تمثل لنا «هوميروس» بطلا من الأبطال نشأ من الزواج بين نهر من أنهار آسيا الصغرى وامرأة من عامة النساء، وتقص علينا من أخباره أقاصيص نعجب بها، ولكننا لا نستطيع أن نؤمن بها، ثم بين أيدينا صورة أخرى ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر، وصور أخرى ظهرت في أوربا في القرن التاسع عشر، تمثل «هوميروس» رجلا من الرجال، وتجتهد في أن تنشئ له سيرة تشبه سير الناس، ثم بين أيدينا صورة أخرى ظهرت في أوربا أوائل القرن الماضي، تنكر شخص «هوميروس»، وتجحده جحودا تاما، وتزعم أن «هوميروس» هو الأمة اليونانية البدوية كلها، وأن «الإلياذة» و«الأودسا» أثران من آثار الأمة اليونانية كلها. ثم بين أيدينا هذه الصورة التي وقف عندها البحث الحديث إلى حين، إلى يوم يظهر باحث جديد يظهر لنا صورة أخرى. وهذه الصورة التي انتهى إليها البحث الآن تنكر شخص «هوميروس» كما روته الأساطير، وتزعم أن هناك أسرة كانت تسمى أسرة «الهومريين» توارثت الشعر القصصي فيما بينها، وأذاعته في البلاد اليونانية. ولست تريد - فيما أظن - أن أوغل بك في هذه المباحث المختلفة المعقدة حول شخص «هوميروس» أو أشخاص الشعراء القصصيين الذين أنشئوا «الإلياذة» و«الأودسا» وغيرهما من الشعر القصصي اليوناني؛ فذلك شيء لا غناء فيه الآن؛ وإنما الذي أستطيع أن تأخذني به هو أن أبين لك كيف كان هؤلاء الشعراء الذين نسيهم التاريخ قادة الفكر أثناء البداوة اليونانية، وأثناء عصر طويل من الحضارة اليونانية، وكيف لا يزال هؤلاء الشعراء يؤثرون في الحياة الإنسانية إلى الآن.
تصور جماعة من الناس لا يقرءون، ولا يكتبون، ولا يختلفون إلى مدرسة، ويستمعون إلى فيلسوف، ولا يطمحون في حياتهم إلى أكثر من الأكل والشرب والأمن والدعة. هذه الجماعة التي تعيش هذه العيشة الخشنة، تجدها في البلاد اليونانية قديما، وفي البلاد العربية قبل الإسلام، وفي بلاد أخرى لم تبلغها الحضارة اليوم، تصور هذه الجماعة وقد أقبل عليها في يوم من الأيام رجل في يده أداة موسيقية تشبه الربابة فأخذ يلحن على أداته الموسيقية، واجتمع الناس حوله يستمعون إليه، وما هي إلا أن أضاف إلى ألحانه غناء أخذ ينشده، فغنى الناس به وشجعوه، واندفع هو في غنائه، وإذا هو يقص عليهم، في لغة عذبة ساذجة رائعة، أخبار طائفة من الأبطال يمثلون الثروة التي يطمحون إليها، والقوة التي يعتزون بها، والشجاعة والبأس، وما إلى ذلك من الأخلاق والخلال التي يكبرها البدو، ويحرصون عليها؛ لأنها قوام حياتهم. واندفع الشاعر في قصصه يغنيه ويلحنه، وأغرق الناس في الاستماع إليه والإعجاب به، وإذا هم معلقون بشفتيه، وإذا هو يخلب ألبابهم ويستهوي عقولهم؛ حتى إذا فرغ من قصصه وغنائه التفوا حوله يهنئونه ويكرمونه، واستبقوا إليه يضيفونه ويمنحونه المنح، حتى إذا قضى بينهم أياما ينشدهم ويجيزونه، تركهم وقد حفظوا عنه كثيرا وقد أحيا عواطفهم وغذا عقولهم. تركهم وانتقل إلى جماعة أخرى وقد شجعه ما لقي من الجماعة الأولى، فكان أمره مع الجماعة الثانية كأمره مع الجماعة الأولى. تصور هذه الجماعات وهؤلاء الشعراء المغنين، توجد لنفسك صورة مقاربة للحياة اليونانية، وتأثير الشعر فيها أيام البداوة. تصور الشعراء العاميين الذين يقصون على الناس في قرى مصر أخبار الهلالية والزناتية يلحنونها على الربابة؛ ولكن لا تتصور الناس الذين يستمعون لهؤلاء الشعراء متحضرين تحضر المصريين، يلتمسون آدابهم وأخلاقهم ونظمهم المختلفة في الدين والعلم والفلسفة والسياسة، وإنما تصورهم قوما ليس لهم دين منظم، ولا أدب مدون، ولا فلسفة ولا سياسة، وإنما الشعراء يحملون إليهم من هذا كل شيء؛ تصور هذا تتمثل تأثير «الإلياذة» و«الأودسا» في الحياة اليونانية الأولى.
ثم أضف إلى هذا كله شيئا آخر، وهو أن هذه الأناشيد التي كان يتغنى بها الشعراء، على هذا النحو الذي قدمته، لم تكن كأخبار الهلالية والزنانية، وإنما كانت تمتاز بشيء من الجمال والروعة ليس إلى وصفهما من سبيل؛ فلم يقف تأثيرها عند هذه الجماعات البادية، وإنما تحضرت هذه الجماعات والتمست آدابها وفلسفتها ونظمها في مصادر أخرى غير هذه الأناشيد، ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تنسى هذه الأناشيد أو تسلوها، وإنها أخذت تستظهرها وترويها وتحرص عليها الحرص كله، وبالغت في ذلك حتى عنيت حكوماتها المنظمة بتدوينها على نحو ما عنيت حكومة الخلفاء الراشدين بتدوين القرآن الكريم.
ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما ظهر في هذه الأمة اليونانية شعراء عدلوا عن القصص إلى الغناء، أو قل عدلوا عن هذا الشعر الذي يقص سير الأبطال إلى شعر آخر يتغنى العواطف الإنسانية المختلفة من حزن وابتهاج، فلم يستطع هؤلاء الشعراء أن يستغنوا عن الشعر القصصي القديم، وإنما التمسوا فيه موضوعاتهم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما ظهر في هذه الأمة شعراء آخرون عدلوا عن القصص والغناء إلى التمثيل في الملاعب، فلم يبتكروا قصصهم ابتكارا، وإنما التمسوا أكثرها في الشعر القصصي القديم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ظهر في هذه الأمة اليونانية فلاسفة ومفكرون عدلوا عن القديم كله، وجددوا كل شيء، ولكنهم لم يستطيعوا أن يستغنوا عن الشعر القصصي القديم؛ لأنه كان مستودع المثل العليا في الأخلاق والحياة الإنسانية الساذجة البريئة من الفساد، فرجعوا إليه في فلسفتهم وأخلاقهم ثم دالت الدول وتغير الزمان، وكان العصر الحديث، وأراد الشعراء المحدثون أن ينشئوا القصص التمثيلية والقصائد الغنائية، فالتمسوا نماذجها عند شعراء اليونان، فإذا هم ينشئون قصصهم وقصائدهم على نحو ما كان يفعل اليونان، متأثرين «بالإلياذة» و«الأودسا»، ثم بدا لهم أن يمثلوا القصص اليونانية نفسها، فترجموها إلى لغاتهم، وأخذوا يمثلونها حينا في اللغات الحديثة وحينا في اللغة اليونانية القديمة نفسها. و«بيت مليير» الآن معني بتمثيل قصة من قصص «سوفلكليس» هي «أوديب في كولونا»، اشتغل المترجم بنقلها إلى الفرنسية عشرين سنة. ومن قبل ذلك اشتغل عميد «بيت بليير» بنقل قصة «الفرس» «لإسكيلوس» وتمثيلها. ومن قبل ذلك اشتهر الممثل الفرنسي النابغة «سولى» بتمثيل «أوديب ملكا». وفوق هذا كله لا توجد مدرسة تحترم نفسها في أوربا لا يدرس فيها الشباب الأوربي «الإلياذة» و«الأودسا » في نصوصها اليونانية، أو مترجمة إلى اللغات الحديثة.
أكنت مصيبا إذن حين زعمت أن شعراء «الإلياذة» و«الأودسا» يعدون بحق من قادة الفكر الإنساني؟ ولكنك ستسألني: ما «الإلياذة»؟ وما «الأودسا»؟ ولست أجيبك عن هذا السؤال، وإنما أريد أن تجيب نفسك عنه، أريد أن تقرأ «الإلياذة» و«الأودسا»، لتعرف ما هما. وكل ما أطمح إليه في هذه الفصول هو أن أشوقك إلى أن تقرأ شيئا قليلا أو كثيرا من آثار المفكرين الذين أتخذهم موضوعا لهذه الأحاديث.
سقراط
رأيت في الفصل الماضي كيف كانت قيادة الفكر إلى الشعراء في العصور الأولى من حياة الأمة اليونانية وغيرها من الأمم التي تشبهها قليلا أو كثيرا، ورأيت كيف كان هؤلاء الشعراء يقودون الفكر في شعوبهم المختلفة. ورأيت الطرق التي كانوا يسلكونها لتكوين الآراء والسيطرة على العقول. وأريد في هذا الفصل أن أبين لك، في شيء من الإيجاز الشديد الذي أنا مضطر إليه اضطرارا، كيف انتقلت قيادة الفكر من الشعراء إلى طائفة أخرى هي طائفة الفلاسفة، وكيف استطاع هؤلاء الفلاسفة أن يقودوا الفكر ويدبروه، وماذا اتخذ هؤلاء الفلاسفة من طريق قيادة الفكر وتدبيره.
وفي الحق أن قيادة الفكر لم تنتقل من الشعراء إلى الفلاسفة في يوم وليلة، بل لم تنتقل إليهم في عام ولا أعوام، بل لم تنتقل إليهم في عشرات السنين، وإنما احتاجت إلى القرون الطوال لتصبح ملك الفلاسفة بعد أن كانت ملك الشعراء. احتاجت إلى القرون الطوال، واحتاجت معها إلى أشياء كثيرة نستطيع أن نختصرها في هذه الكلمة الصغيرة التي تدل على معان كثيرة لا تكاد تحصى، وهي كلمة «التطور»؛ ذلك أنك تستطيع أن تشعر بهذا الفرق العظيم بين الشعر من جهة والفلسفة من جهة أخرى لتعلم أن ليس من السهل ولا من اليسير أن يخضع شعب من الشعوب لسلطان الشعر اليوم، حتى إذا أصبح خضع لسلطان الفلسفة. ليس ذلك سهلا ولا يسيرا، بل ليس ذلك ممكنا إذا لم تتحقق شروط كثيرة تحتاج في تحققها إلى عصور طوال.
ناپیژندل شوی مخ