ألغيت المسافات أو كادت تلغى، لا نقول: بين الأمم والشعوب، بل نقول: بين القارات، إلى أن يأتي اليوم الذي تقول فيه الأجيال المقبلة: بين الأفلاك والكواكب، وأصبحنا بفضل البخار والكهرباء، وبفضل التلغراف والتليفون نستطيع أن نعرف في مصر آخر النهار، ما يقع في أقصى الغرب، أو أقصى الشرق ، أو أقصى الشمال والجنوب في أوله؛ وأصبح الفيلسوف، أو الأديب، أو العالم، لا يكاد يخرج كتابه للناس في بلده الذي يعيش فيه، حتى ينتشر هذا الكتاب في أطراف الأرض، فإذا هو يدرس، ويلخص ويترجم؛ ويفسر، ويناقش في البلاد الأجنبية؛ وإذا هو يحدث آثارا مختلفة في البلاد والبيئات المختلفة؛ وإذا آثاره تمعن في التغلغل، وتتعمق في حياة الشعوب - كل ذلك ولم يمض على ظهور كتابه عام أو بعض عام - وإذا أصداء هذا الكتاب المختلفة تتجاوب في أقطار الأرض، وترتد إلى حيث ظهر الكتاب؛ وأصبح الرجل من رجال السياسة لا يكاد يكتب فصلا، أو يلقي خطبة، أو يفضي إلى أحد بحديث، حتى يتناول البرق ما قال أو ما كتب، فينشره في جميع أطراف الأرض، ولم يمض على قوله أو كتابته ساعات. ولعلك تلاحظ أن الصلة بيننا وبين المدن الكبرى في أوربا وأمريكا، قد ألغت المسافة بالفعل فيما يتصل بالسياسة؛ فنحن نقرأ ما تكتبه الصحف الإنجليزية - مثلا - في اليوم الذي تكتبه فيه، والإنجليز يقرءون ما نكتب وما نقول كذلك؛ بل تجاوز الأمر هذا الحد وأصبح الخطباء السياسيون في الأحداث الكبرى يلقون خطبهم، لا نقول في المئات والآلاف من الناس، بل نقول في مئات الآلاف.
وظاهر هذا كله أن قد اشتدت الصلة بين الجماعات، فقرب بعضها من بعض، واستطاع بعضها أن يفهم بعضها، وكان من المعقول أن يكون هذا كله سببا في توحيد قيادة الفكر وقصرها على شعب من الشعوب، أو مدينة من المدن، أو لون من ألوان المفكرين، ولكن هذا ليس من الحق في شيء، وإنما الحق أنا لا نعرف عصرا من العصور توزعت فيه قيادة الفكر، كما توزعت في هذا العصر.
ومصدر ذلك أن اصطناع المطبعة والصحف والبرق والتليفون وأدوات البخار والكهربا ليس مقصورا على شعب من الشعوب، ولا على مدينة من المدن، ولا على فرقة من الفرق المفكرة، وإنما هو شائع بين أمم الأرض، وهذه الأمم كلها تجاهد وتناضل لتحيا وتسود، والأفراد في هذه الأمم يناضلون ويجاهدون ليحيوا ويسودوا، وهم يصطنعون هذه الأدوات، ويستعينون بها على ما يريدون من سيادة وقيادة للفكر.
والأفراد يتنافسون، والشعوب تتنافس، والنتيجة الظاهرة لهذا التنافس أن قيادة الفكر موزعة في الشعوب بين الأفراد النابهين، وهي موزعة في العالم بين الشعوب النابهة.
وإذا فكل شيء يدل على أنه لم يبق أمل في أن نحصر قيادة الفكر في مؤثر بعينه، ولا في شعب بعينه، ولا في فرقة بعينها من فرق المفكرين: وإنما السبيل هو أن نبحث عن قيادة الفكر في كل مظهر من مظاهر الحياة العقلية على حدة، بل أن نوزع هذا البحث على الأمم النابهة والشعوب الممتازة.
ومع هذا كله، فقد أراد الله أن يخضع النوع الإنساني لظاهرة لم يجد إلى الآن سبيلا إلى أن يخلص منها، وليس هو في حاجة إلى أن يخلص منها؛ والخير كل الخير هو أن يستمر خضوعه لها وتأثره بها.
هذه الظاهرة، هي ظاهرة النبوغ التي تكره الأمم والشعوب والإنسانية كلها أحيانا، على أن تعترف بفرد من الأفراد، وتذعن لقوته العقلية أو الفنية أو السياسية، رغم ما فيها من قوى وكفايات، ومن جهاد بين هذه القوى والكفايات.
وليس هنا موضوع البحث عن النبوغ والتماس أصوله، والمؤثرات فيه، وإنما يكفي أن نلاحظ أن النبوغ ظاهرة اجتماعية عرفها أكثر العصور، ولم يستطع تغير الظروف واستحالة أطوار الحياة أن يمحوها، أو يزيلها، أو يضع من قدرها.
فقد تستطيع المطبعة أن تنشر وتذيع، وتسرف في النشر والإذاعة، وقد يستطيع الناس أن يجاهدوا ويناضلوا؛ ويستحدثوا الآثار المختلفة في ألوان الحياة وفروعها، ولكن شيئا من هذا لن يستطيع أن يمحو نبوغ ديكارت، وأنه قد صبغ الفلسفة الحديثة بصبغة خاصة ممتازة، ووجهها وجهة خاصة مكنتها من الإنتاج والإثمار.
ولن يستطيع شيء من هذا أن يمحو ما كان لروسو من أثر في حياة الشعوب وفي سياسة العصر الحديث. ولن يستطيع شيء من هذا أن يمحو ما كان لفتكور هوجو من أثر في الشعر الفرنسي والأدب الفرنسي الحديث بوجه عام.
ناپیژندل شوی مخ