فأين من كانوا يكذبون داروين ويهزءون بأقواله؟! فخير للإنسانية أن توصي القرود بأحفادها، وتقول لأبنائها أن يوحدوا صفوفهم، فتقابل الإنسانية أختها القردية، بمثل عليا تعجز عن تحقيقها القرود، وينقوا حضارتهم من شوائبها الوحشية.
كنت أضحك عندما كان الجاحظ يحاول في كتاب الحيوان أن يبرهن لنا أن الهرة لها مواء متنوع الأشكال وبه تعبر عن حاجاتها، وها نحن قد وصلنا إلى ما هو أعظم. إلى قردة تصور، ويحاولون في أميركا أن يدخلوا رسومها التجريدية في معرض كبار الفنانين!
كنا نقول في فجر هذا العصر: فلان اخترع البارود. فأين هو البارود، وأين وأين؟ فهذا زمن شارك فيه الجماد دماغ الإنسان العجيب، فأخذ قسطا كبيرا من مهامه، ولعله يأتي وقت نستغني به عنه ولا يعود لنا شغل عقلي، نأكل ونشرب وننام ليس إلا، بينما القرود تصور وتحل القضايا.
الألقاب
لا تزال بقايا العهد التركي، عهد التمجيدات والتشريفات، والألقاب والكنيات، عالقة بأذهاننا ورءوس أقلامنا. ذكرني بهذا ما سمعته منذ أيام من الراديو حين قال مندوب أيزنهاور: كلفني الرئيس أيزنهاور، فلم أعجب بالبساطة. وسمعت على الأثر واحدا منا يتحدث عن السفير الأميركي الذي يرافق مندوب أيزنهاور فيقول: سعادة السفير الأميركي.
ثم يأتي دور أصحابنا فتفيض السعادة والمعالي وغيرها من الألقاب التي لم يخلصنا منها أحد. على عهد أيوب ثابت اكتفينا مدة بكلمة حضرة لجميع المقامات الرسمية، ثم لم تنقض مدة قصيرة حتى عدنا بشوق لا مزيد عليه إلى مثل هذه الطنطنات الفارغة. الحمد لله على أننا استرحنا من الألقاب التركية، ولكننا ابتلينا بلقب جديد؛ هو لقب دكتور، ولكل جديد رهجة وبهجة: يكون الشيء مرغوبا فيه متى كان نادرا، كما كانت كلمة «الملفان» في «أيامنا». ولكن ما دامت مصابغ أوروبا تعيد إلينا شبابنا مصبوغا بهذا اللقب العلمي بلا علم - إلا نادرا - فإني أقترح أن نكتفي باسم الرجل ونترك عمله يعبر عن كفاءته.
كنت مرة أحدث صديقا لا أعرف أنه دكتور، فكان يحدثني بجفاء وتقطيب حواجب، ولما دخل واحد خاطبه بيا دكتور، قلت له في مجال الحديث: اسمع يا دكتور، فتطلق وجهه وأقبل علي بعدما كان مشيحا.
إنني أقترح على ألسنتنا وعلى صحفنا وأقلامنا أن نكتفي بكلمة حضرة أو سيادة، وتجلي عن حضرتنا تلك الجيوش الجرارة التي نستعرضها على ظروف رسائلنا، فنكفي موزع البريد مئونة التفتيش عن الاسم الضائع بين تلك الجحافل.
قال لي واحد أوروبي: أنتم - الشرقيين - تفخمون كثيرا فتتعبون السامع والقارئ. نحن نقول
Le bon Dieu
ناپیژندل شوی مخ