هكذا تفضحنا حركاتنا اللاشعورية، فتنزلق كلمات تفضحنا ونحن لا نحس ولا نشعر. فكما لا يحجب القفص عيوب الطائر الصغير ومحاسنه، كذلك الصدر فإنه قفص القلب. أما النوافذ فهي في الرأس، عقل يرى ولا يرى، وعين تتمثل، وفم يتكلم، وكل حركة وكل كلمة تصدر منا تبوح بما عندنا من أسرار. فسجايانا - على اختلاف ضروبها - تبدو جلية، ولو أرخينا عليها سدولا أكثف من سدول ليل امرئ القيس.
فالمرائي إذا ركع وسجد وصلى في صحن المعبد ليله ونهاره، قارعا صدره كالعجائز، وفي يده مسبحة أطول من حبل الجمال، فلا بد من أن تبوح حركاته بما طبع عليه.
والمداجي الخبيث المكار، مهما رمى على الناس من كلمات معسولة وابتسامات مزورة، ومهما فتش عن عبارات حلوة؛ ليعرب لك عن محبته وصدقه ووفائه وإخلاصه، ومهما نثر من درر الكلام السحري، فإن تلك الغمامة التي تجلبب وجهه وتسربل جميع جوارحه، لا بد من أن تكتسحها رياح الحق، فتكذبه وتفشي أسراره وتفضح بنات صدره.
وذاك المتعجرف المتظاهر بالتواضع الرصين، وإن سبقك إلى التحية، وأبدع في أساليب الاحتفاء والاعتبار فاتحا فمه شبرين، راسما من ذراعيه حلقة تطوق جبل صنين وهو ينحني احتراما لك حتى يكاد يقبل الأرض بين يديك، فإن حقيقته لا بد أن تظهر.
وذاك المطرق الرأس خشوعا وتقوى، والمدعي الاعتصام بحبل العفة وطهارة الذيل، لا بد من أن يفشي اختلاسه النظر كل ما عمل على إخفائه وأجهد نفسه في كتمانه.
أما حضرت دعوة حاول صاحبها أن يجمع بها كل ما في سوق بيروت من أطايب المأكولات وأشهى الحلوى، وألذ المشروب! كل ما في البيت مرتب نظيف، مقاعد كأنها السرر التي يجلس عليها أهل الجنة متقابلين، فتأكل عنده، وتشرب ما يحلو لك، حتى إنك لا تستطيع أن تشتهي شيئا، ومع ذلك تقول لأحد رفاقك وأنتما خارجان: أتعرف ماذا كان ينقصنا؟ كانت تنقصنا حقيقة الرجل؛ فقد كان متكلفا، وكل ما حاول إبداءه من طلاقة محيا كانت تغشاه غمامة غير منظورة.
لقد صدقت يا صاحبي كما صدق المتنبي الذي قال:
وللنفس أخلاق تدل على الفتى
أكان سخاء، ما أتى أو تساخيا
فكل هذا الرياء لا يجدي صاحبه غير تعب ومشقة. وكما تحمل الرياح العطر ناشرة له، هكذا تنشر طوية الإنسان حركاته، فهي تظهر مكنوناته، وتبدي ما استتر من طباعه، وكأنها لسان ناطق يذيع على رءوس الملأ ما دق واختفى من أسراره.
ناپیژندل شوی مخ