نعم يا عزيزي، ولكن في الصيف تحصيلا من نوع آخر. فالتحصيل المدرسي دواء لا بد من تجرعه، أما التحصيل الذي أدعوك إليه؛ فهو مغذ ولذيذ الطعم لا نجده في المدرسة، فالمناهج الموضوعة لك، وسنعالجها في قابل، تضيق عليك ولا تترك لك وقتا للمطالعة مع أن القراءة النافعة هي الغذاء العقلي والدم الجديد.
تعلم مما تقرأ. إن الطب الحديث يدخل في عروق الضعفاء دما جديدا، وليتر الدم يسوي ثلاثماية ليرة. لا تخف، فما أنا جراح أريد إدخال دم جديد، فالدم الذي أعنيه هو القراءة، وسأكون معك خفيفا لطيفا فلا أحملك في العطلة التي انتظرتها ما يثقل عليك. إنني أدعوك إلى مجالسة صديقك الكتاب ولو ساعة، أسألك ألا تجافيه وتعرض عنه، فهذا الصديق هو أبقى لك من كل الناس.
إن وصيتي لك ليست بدعة جديدة، فأنت طالب معرفة وعلم، وأول آية أوحى الله بها إلى الإنسان هي:
اقرأ باسم ربك
فأنا إذن لم أتجاوز معك حدود الله، فاقرأ وتوكل عليه، وكما أوصى القرآن الكريم بالقراءة، كذلك قال الإنجيل: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
فالإنسان يحتاج إذن إلى خبز آخر، هو خبز المعرفة. وهذا الخبز لا تجده إلا في معاجنه الخاصة، أي الكتب. فالدول اليوم تحشد كل قواها؛ لتنور عقول شعوبها، ولا حيلة إلى ذلك غير حمل الرعية على القراءة، فتوصلوا أخيرا إلى توجيه مكتبات نقالة تطوف القرى في الضواحي، وأعالي الجبال. وتدعو الناس إلى المطالعة بالمجان.
أعرفت أن أول من حض الناس على مؤاخاة الكتب والدفاتر، هو ناطق بالضاد مثلك، وهو أبو الكتاب العربي؟! إنك تدرس شخصية هذا العبقري وأدبه؛ فهو الذي انبرى إلى الدفاع عن الكتاب منذ ألف ومائتي سنة.
ذاك هو الجاحظ الذي اجتمع في شخصه الضدان: الحلاوة والبشاعة. رووا عنه أنه كان يستأجر دكاكين الوراقين ليلا؛ ليقرأ ما فيها من كتب، وقالوا: إنه لم يعثر بورقة إلا لمها وقرأها ولو كانت على مزبلة ... أعرفت إذن إلى ماذا أدعوك؟ إلى المطالعة صيفا، فاجعل لكل شيء وقتا، ولا تنس الكتاب من وقت يومي، ثم لا تخرم الميعاد. إن الكتاب حبيب لا يطرح نفسه عليك ولكنه دائما في انتظارك. ينتظر منك غمزة ليجيئك. عبدك بين يديك، كما كانت تقول المرحومة ستك في حكاية «خاتم لبيك».
وبعد، يا عزيزي، فالكتاب هو الذي عمل العظماء وخلق العبقريين. أليست الدنيا كلها هي كتاب الله الأعظم! وقد قالوا: لكل أجل كتاب، ولكل إنسان كتاب يحمله بيمينه حين يقف بين يدي ربه! فتمرن أنت منذ اليوم لتحمله جيدا وتكون من العارفين. فالكتب هي سجلات المعرفة الماثلة دائما بين يديك، أما السينما التي لا تخلف مواعيدها فهي معرفة أيضا، ولكنها معرفة عابرة ضائعة بعد حين، كما قال الشاعر:
كل علم خارج القرطاس ضاع
ناپیژندل شوی مخ