Proximate Fatwas of Ibn Taymiyyah
تقريب فتاوى ابن تيمية
خپرندوی
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٤١ هـ
د خپرونکي ځای
السعودية
ژانرونه
مقدمة المؤلف
بِسْم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الْمُبدئ الْمُعيد، الفعال لِمَا يُريد، وصلى اللّه على نبيِّنا محمد صاحب الخُلُق الرشيد، والقول السديد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فلقد كانت لي عنايةٌ بكتب ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ منذ وفَّقني الله في طلب العلم، وقد أُولعت به كما أُولع به غيري؛ لِمَا يمتلكه هذا الإمام من العلم الواسع، والحق الساطع، والتحقيق المتين، والنظر الثاقب.
وحينما أتيت إلى هذا السفر الكبير الضخم، والجبل الرفيع الصعب: رأيت الهمة تُنازعني، والإرادة تُخالفني، والوقتَ يُعاتبني؛ فالأشغال والأعمال كثيرةٌ، فدخول "مجموع الفتاوى" بينها قد يُعكر عليها، ويصرف الهمة عنها.
وهذا ما حدث بالفعل، فقد عزمت وصممت، وأقدمت وما باليت، وظننت -وصدق ظني- أنَّ كل عمل وشغل وعلم لن يكون أفضل وأنفع مما سأقدم عليه.
فاستعنت بالله تعالى على تيسير "مجموع الفتاوى" وغيرها من الكتب، وتسهيلها على طلاب العلم، وعملي فيها قريب من الاختصار والتهذيب.
وقد حاولت بكلّ جهدي أنْ أسهلها للناس، وقد أمضيتُ زمنًا طويلًا في ذلك.
ومجموع الفتاوى فيها من الصعوبة والإطالة ما لا يخفى، وكثيرًا ما يذكر
1 / 5
ابن تيمية ﵀ في المسألة الواحدة مسائل كثيرة ويُطيل في تفصيلها، مما تُسبب تشتت عقل القارئ.
وخذ مثالًا على ذلك: سئل الشيخ ﵀ عن طواف الحائض والجنب والمحدث.
فذكر في ثنايا الجواب مسائل عدة منها:
١ - حكم قراءة القرآن للحائض وللنفساء قبل الغسل وبعد انقطاع الدم.
٢ - حكم لبث الحائض والجنب في المسجد.
٣ - الفرق بين الحائض والجنب.
٤ - حكم ارتكاب المحظورات للضرورة.
٥ - قاعدة: لا ينبغي أنْ يُنظر إلى غلظ المفسدة المقتضية للحظر إلا ويُنظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن؛ بل الموجبة للاستحباب أو الإيجاب.
٦ - حكم ومعنى تحلل المحصر.
٧ - حكم الْقَضَاء عَلَى الْمُحْصَرِ؟
٨ - هل يُباح للمرأة الزنى بالإكراه؟
٩ - هل يُباح للرجل الزنى بالإكراه؟
١٠ - ما الحكم إذا أمكن العبد أن يفعل بعض الواجبات دون بعض؟
١١ - الحكمة من عدم الصوم مع الحيض.
١٢ - الحكمة من عدم وجوب الصلاة للحائض.
١٣ - الدليل على طهارة المني.
١٤ - الدليل على عدم وجوب الوضوء من لمس النساء.
١٥ - الدليل على طهارة النجاسات الخارجة من غير السبيلين.
1 / 6
١٦ - الفرق بين الطواف والصلاة.
١٧ - هل سجود التلاوة من الصلاة التي تشترط لها الطهارة؟
١٨ - حكم الطهارة لصلاة الجنازة؟
١٩ - مزايا الطواف.
٢٠ - معنى قول من قال من العلماء: إن طواف أهل الآفاق أفضل من الصلاة بالمسجد.
٢١ - أمثلةٌ لقاعدة: العمل المفضول في مكانه وزمانه يقدم على الفاضل.
٢٢ - حكم العمرة؟
٢٣ - هل يجب على المتمتع سعيان؟
٢٤ - بيانُ أفضلية جنس الطواف على جنس قراءة القرآن.
٢٥ - بيانُ أن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، ولا يحتج بها على الأدلة الشرعية.
٢٦ - علامات المقلد، وأنه لا يجوز له الإفتاء.
٢٧ - الرد على من قال بأن من نسي طواف الإفاضة حتى عاد إلى بلده أنه يجزئه طواف القدوم.
٢٨ - حكم طواف الوداع والمبيت بمنى والرمي؟
٢٩ - حكم طَوَاف الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ.
٣٠ - هل طَهَارَة الْحَدَثِ شرطٌ أو واجبةٌ فِي الطَّوَافِ؟
هذه المسائل كلُّها جاءت في الفتوى، فكيف يستطيع العقل ضبط أصل المسألة وجوابها في ثنايا هذه المسائل الكبيرة المتناثرة؟
وخذ مثالًا آخر: سُئِلَ رحمه الله تعالى [٢٤٨/ ٢٦]: أَيُّمَا أَفْضَلُ لِمَن كَانَ بِمَكَّةَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَو الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ وَيعُودَ؟
1 / 7
وَهَل يُسْتَحَبُّ لِمَن كَانَ بِمَكَّةَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ أَو فِي غَيْرِهِ أَو الطَّوَافُ بَدَلَ ذَلِكَ؟
وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ: هَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ؟
فأجاب عن هذا السؤال بأكثر من خمسين صفحة، ذكر فيها عشرات المسائل الشائكة، التي قد يصدع منها رأس المتأمل فيها، ويشق ربط أولها بآخرها، وفيها من الغموض والعسر الشيء العظيم.
ويكفي أن تعلم أنه قال في (ص ٢٦٧): هنا ثلاث مسائل مرتبة: أحدها الاعتمار فى العام أكثر من مرة، ثم الاعتمار لغير المكي، ثم كثرة الاعتمار للمكي.
ففصَّل المسألة الأولى في ثلاث صفحات، وفي المسألة الثانية في أكثر من عشرين صفحة! وأكثرها لا يتعلق بالمسألة نفسها!
فكنت أجد صعوبة بالغة في تهذيبها، وجمع متفرقها، ووضع كل كلام في مكانه المناسب له، وشرح غامضه.
وفي بحث له طويل جدًّا، تحدَّث عن العقيدة، وعن تحريم شدّ الرحال لزيارة القبور، وفي ثنايا البحث قرر أنّ السَّلَام الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ النبي ﷺ مَأْمُورٌ بِهِ العبد فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِن السَّلَامِ الْمُخْتَصِّ بِقَبْرِهِ، ثم استطرد في بعض مسائل الصلاة والسلام عليه وعلى غيره، وحكم ابتداء السلام ونحوها من المسائل الفقهية، في نحو خمس صفحات! ثم تدارك استطراده فقال: وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ. اهـ. (^١)
وهذا مثال آخر: تكلم في المجلد الرابع عشر عن مسألة الحمد والشكر، ثم استْطرد أثناء الحديث عنها فذكر مسائل التوحيد والشفاعة، والرد على الذين
_________
(^١) (٢٧/ ٤٠٧ - ٤١٢).
1 / 8
يطلبون الشفاعة من الأموات، في قرابة أربعين صفحة، ثم لما انتهى منها قال: وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصودُ هُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ إذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِن الرُّكُوعِ .. إلخ (^١).
وفي المجموع والمستدرك عليه الكثيرُ من التصحيفات والأخطاء، وقد وقفت على ما يقربُ من خمسمائةِ تصحيف وخطأ، لم أجد مَن نَبَّه على كثيرٍ منها، وعدمُ تصحيحِها يُوْقِعُ القارئ في لَبْسٍ ويظن أنَّ كلام الشيخ فيه تناقض.
مثال ذلك: ما جاء في "الفتاوى": إِذَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ أَو الْمَرْأَةُ أَنْ يَغْتَسِلَ ويُصَلّيَ خَارجَ الْحَمَّامِ فَعَلَا ذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ يَمكُن ذَلِكَ؛ مِثْل أَنْ لَا يَسْتَيْقِظَ أَوَّلَ الْفَجْرِ وَإِن اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَاءِ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَإِن طَلَبَ حَطَبًا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ أَو ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ فَاتَ الْوَقْتُ: فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ، أَو إن اشْتَغَلَ بِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ مِن الْبِئْرِ خَرَجَ الْوَقْتُ، أَو إنْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لِلْغُسْلِ خَرَجَ الْوَقْتُ: فَهَذَا يَغْتَسِلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. اهـ. (^٢)
هذا الكلام فيه تناقض ظاهر، لكن إذا عرفنا أن صواب العبارة هي: مِثْل أَنْ يَسْتَيْقِظَ أَوَّلَ الْفَجْرِ؛ أي: بحذف (لا) وقد حُذفت في الفتاوى المصريّة، وكذلك قوله: "أو إن اشتغل باستقاء … " خطأ يُخلّ بالمعنى، والصواب: "وإن اشتغل … "، بالعطف.
مثال آخر: قال ﵀: وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّا نُوجِبُ عَلَى
_________
(^١) الفتاوى (١٤/ ٣٧٦ - ٤١٥).
(^٢) الفتاوى (٢١/ ٤٤٦ - ٤٤٧).
1 / 9
أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِن الْمُعَاوَضَةِ بِالْبَيْعِ وَالْعِمَارَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآخَرُ فِي الْعُرْفِ؛ مِثْلُ عِمَارَةِ مَا استهدم، هَذَا فِي شَرِكَةِ الْأمْلَاكِ، فَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ؛ فَإِنَّ مَقْصودَهَا هُوَ التَّصَرُّفُ، فَتَرْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ قَد يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِن تَرْكِ عِمَارَةِ الْمَكَانِ المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ.
وَمَن تَرَكَ بَيْعَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ فنَاكَ يُمْكِنُ الشَّرِيكَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ وَهُنَا غَرَّهُ وَضَيَّعَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ مَالِهِ.
وهذه الجملةُ بهذه الصيغة لا يكون لها معنى.
وصوابها: .. قَد يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِن تَرْكِ عِمَارَةِ الْمَكَانِ المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ، وَمِن تَرْكِ بَيْع الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ.
وهناك أمثلة أخرى تجدها في هذا التهذيب بحول الله تعالى.
ولا ريب أن التلخيصَ أحسن وسيلةٍ للفهم والضبط، ولا يُمكن ضبط الكتب المطولة والصعبة إلا به، أو بكثرة فراجعتها وتكرارها.
ومن أهداف التقريب: تسهيل "مجموع الفتاوى" خاصة على طلاب العلم، وأنا أزعم أن كثيرًا من طلاب العلم -أو أكثرهم- لم يقرأها كاملة، وذلك لصعوبتها وطولها وعسرها، وتهذيبُها والتعليقُ على كثير من المواضع شرحًا وتصحيحًا وترجيحًا يفتح لهم أمل قراءتها والوقوف على دررها، وما لا يُدرك كله لا يُترك جلّه.
ولقد واجهت صعوبةً بالغة في هذا التقريب والتعليق عليه وشرح الغامض والمشكل فيه، فقد كان الكتاب الورقيّ بين يدي، والكتاب الإلكتروني في الحاسب الآلي أمامي، فأقرأ هنا، وألخص هنا!
وأنا أمَام أكثر من أربعين مُجلّدًا- "مجموع الفتاوى"، و"المستدرك"، و"الاختيارات"، و"مختصر الفتاوى المصريّة"، وكيرِها من كتبِه وكتب تلاميذِه-
1 / 10
فيها مِن الطول والتشعب والردود، وكنت أمكث في أحايين كثيرة أكثر من ساعة كاملة في وريقات قليلة، لفهمها فهمًا صحيحًا، ثم تهذيبها، والتعليق عليها، والنظر في التعارض في أقوالِه أو الأقوال المنسوبة إليه.
ولكن اللذة والأنس والسعادةَ التي ذقتها أثناء قراءتي له أنستني آلام المعاناة التي عانيتُها، والصعوبات التي واجهتها.
بل والله إني كنتُ أقول كثيرًا في نفسي أثناء القراءة -وبُحْت به لبعض خاصتي- كيف سيكون حالي بعد أنْ أنتهي من هذه الفتاوى؟
فقد كنت أعيش أحسن أيامي، وأمتع أوقاتي، وألذ ساعاتي، فكيف بحالي إن انتهيت منها؟ وكيف سأصبر على مفارقة هذه اللذائذ والمتع.
وكنت أشفق على نفسي عن حالي بعد الفراق، فلم أجد صديقًا يُغنيني- بعد كتاب الله تعالى- عن كل الأصدقاء والجلساء مثله.
وكنت في سائر الكتب المطولة والمختصرة إذا بدأت القراءة أتشوق لإنهائها، وقد تفتر الهمة، وتضعف العزيمة، فآخذها بالحزم والصبر والمصابرة، إلا فتاوى شيخ الإسلام ﵀، فإني كلما أنهيت مجلّدًا ازددت نشاطًا وأنسًا، وسعادةً وراحة، وهمتي في ازدياد عجيب، وعزيمتي تقوى، فسبحان من جعل فيما كتب ابن تيمية البركة التي لا تنضب.
وإنما أقول هذا لأنقل للقارئ المتعة التي سيجدها عند قراءته لهذا الكتاب.
طريقتي في العمل:
١ - حافظت على كلامه ولم أتصرف فيه إلا بإشارة إلى التصرف، إلا اليسير جدًّا؛ كأن يذكر كلامًا ويقول فيه: فإنَّ .. فأقتصر على "إنَّ"، أو يقول: بأن ..؛ فأغيرها لـ"إنَّ" وذلك حين بتر كلامه عن ما قبله.
1 / 11
وما بين المعقوفتين يكون من تصرفي لبيان مراد الشيخ ﵀ إذا لم أضع حاشية عليها.
٢ - نقلتُ بعض كلامه إلى مكانه المخصص، وكثيرًا ما يستطرد الشيخ فيذكر مسائل لا تتعلق بالباب، أو يُسأل سؤالًا طويلًا يُذكر فيه الكثير من الأسئلة المختلفة، كما في السؤال الذي ذُكر في [٢٢/ ٢٦٤ - ٢٦٥] فيُجيب الشيخ عن جميعها، فأنقل كلُّ كلام إلى ما يُناسبه.
٣ - لا أذكر إلا الكلام المهم والذي يحتاج إليه غالب الناس من طلاب العلم وغيرهم، وأما الفتاوى المعروفة لكل أحد، أو الاستدلالات الكثيرة التي يُغني عنها أحدها فقد تركتها.
مثال ذلك: (سُئِلَ رحمه لله: عَن رَجُلٍ قَالَ: إذَا دَعَا الْعَبْدُ لَا يَقُولُ: يَا اللهُ يَا رَحْمَنُ؟)
وجواب هذا السؤال لا يجهله الصغار والعامة فضلًا عن طلاب العلم، وقد أجاب الشيخ عنه في صفحة كاملة، بيَّن فيها أنه "لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا دَعَا رَبَّهُ يَقُولُ: يَا اللهُ يَا رَحْمَنُ وَهَذَا مَعْلُوم بِالِاضْطِرَارِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ" (^١).
مثال آخر: سُئِلَ: عَمَّا إذَا أَبْدَلَ قَمْحًا بِقَمْحِ؟
فَأَجَابَ: إذَا أَبْدَلَ قَمْحًا بِقَمْحِ كَيْلًا بِكيْلِ مِثْلًا بِمِثْل: جَازَ. وَإِن كَانَ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَجُزْ (^٢).
والأمثلة من هذه الأسئلة السهلة التي يعرفها صغار طلاب العلم كثيرة.
والفتاوى لن يقرأها إلا من كان عنده علم واطلاع، فالمسائل السهلة الواضحة سيكون قد عرفها من قبل، أو يجدها بعد ذلك عند غيره من أهل العلم.
_________
(^١) (٢٢/ ٤٨٧).
(^٢) (٢٩/ ٤٢٤).
1 / 12
٤ - إذا كانت الفتوى أو البحث مجرد ذكر خلاف العلماء دون ترجيح فإني لا أذكره كله؛ بل لا أذكر إلا تقريراته وترجيحاته، وقد أذكر الخلاف في مواضع قليلة إذا كان المقام يستدعى ذلك.
٥ - صححت الأخطاء المطبعية التي وقفت عليها.
٦ - اختصرتُ بعض الأسئلة اختصارًا لا يُخل بالمقصود.
٧ - قسّمت الفوائد وجعلتها في فقرات؛ وذلك ليسهل فهمها واستيعابها، والشيخ ﵀ قد يكتب بحثًا في مائتي صفحةٍ أو يُقاربها -كما فعل في إثبات أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن! -.
وفي هذا البحث وغيره من التشعبات والاستطرادات ما الله به عليم، فانتقيت أهم ما خلص إليه، والدرر التي ذكرها في ثنايا بحوثه وفتاويه.
٨ - اقتصرتُ على أهم الفوائد، وسقتها كما جاءت دون التصرف فيها، إلا بحذف حرف ونحوه.
٩ - ذكرتُ بعض الأسئلة؛ لما فيها من الأهمية.
١٠ - أطلتُ في بعض الفوائد المهمة، والتي لا يكفي القليل منها عن الكثير.
١١ - علقت على بعض الكلام المهم، ورجحت وشرحت في كثير من المواضع، وذكرت تخريج بعض الأحاديث والحكم عليها.
١٢ - جمعت ما تفرق من كلامه في المسألة الواحدة في مكان واحد قدر الإمكان.
مثال ذلك: لم يُذكر في باب الحيض إلا القليل من مسائله، وكثير منها ذُكرت في أبواب أخرى.
فقد تكلم عن مسائل كثيرة في المجلد التاسع عشر في كِتَاب أُصُولِ الْفِقْهِ.
1 / 13
وتكلم عن الصفرة والكدرة وحكم قراءة الحائض للقرآن في كتاب الحج في المجلد السادس عشر.
فاسْتللت [¬*] هذه المسائل من هناك وألحقتها في باب الحيض.
وجمعت أقواله في كلِّ مسألةٍ في موضع واحد؛ وبهذا يسهل على الباحث الرجوع إلى كلّ كلامه الذي تكلم به عن أيّ مسألة ونحوها.
١٣ - اقتصرت على أهم الأدلة والحجج التي يسوقها تأييدًا لرأيه.
والشيخ ﵀ قد يسوق عشرات الأدلة العقلية والنقلية لتأييد قول مشهورٍ، ويكون دليله صحيحًا واضحًا، ولكنه يزيد أحيانًا في التأكيد والحجج.
مثال ذلك: من المعلوم أنَّ الطمأنينة في الصلاة واجبة، ودليلها حديث المسيئ صلاته، وهو حديث صحيح صريح في وجوبها، لكن الشيخ استطرد في ذكر الأدلة في أكثر من أربعين صفحة!! (^١)
وقد اقتصرت على أهم الأدلة فيها، والتي فيها لطائف وفوائد تُغني عن غيرِها.
والشيخ قد ينسى بعض الأمور من طول استطراده وتفصيلِه، مثال ذلك: قوله ﵀: وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا قَبْرَ نَبِيِّنَا ﷺ لِقَوْلِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: -وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ السَّفَرَ الْمَشْرُوعَ إلَيْهِ هُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ، وَهَذَا السَّفَرُ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ … إلخ (^٢).
ثم أطال في تقرير ذلك ولم يذكر الوجه الثاني.
١٤ - رجعتُ إلى عدّة مصادر في كتابي هذا، منها: "المجموعة العليّة من كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"، و"مختصر الفتاوى المصرية"، و"الفتاوى الكبرى"، و"اقتضاء الصرط المستقيم"، و"الاستقامة"،
_________
(^١) (٢٢/ ٥٢٩ - ٥٧٢).
(^٢) (٢٧/ ٣٤٧).
[¬*] تعليق الشاملة: في المطبوع «فاسْتليت»
1 / 14
و"الاختيارات"، و"الإنصاف"، و"الآداب الشرعيّة"، و"الفروع"، و"كتب ابن القيم"، وغيرها من الكتب، ورجوعي إليها عند الحاجة.
والله تعالى أسأل أن ينفع ويُبارك به، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه، وطلبًا لمرضاتِه، وخدمةً لدينِه.
وفي ختام هذه المقدمة: أتقدم بالشكر الجزيل لطالب العلم الجاد والحريص: محمد بن عبد الله المسعر على ما بذله من جهد في مراجعة هذا التقريب وصفِّه. وأشكر المشايخ الفضلاء الذين ساهموا مساهمة كبيرة في مراجعة الكتاب وتصحيحه، جعل الله ذلك في ميزان حسناتهم.
كما أتقدم بالشكر والعرفان لدار ابن الجوزي على حرصهم على نشر العلم وإخراج الكتاب بصورة طيبة، والحمد لله ربِّ العالمين.
أحمد بن ناصر الطيار
خطيب جامع/ عبد الله بن نوفل بالزلفي
وداعية في وزارة الشؤون الإسلامية.
البريد الالكتروني:
ahmed0411@gamail.com
رقم الجوال: ٠٥٠٣٤٢١٨٦٦
1 / 15
مقدمة المراجع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أجلِّ وأنْفَس ما كتبه المتأخرون، وهو من أصحاب الفنون المختلفة في علوم الشريعة وغيرِها؛ حيث ما ترك فنًّا إلا وله فيه تأليف قيِّمٌ غالبًا.
وهو -رحمه الله تعالى- أعلم الناس في زمانه بالكتاب والسُّنَّة، وأوسع الناس اطِّلاعًا على أقوال السلف الصالح.
وهو بهذا يأخذ بمنهج أئمة السُّنَّة والجماعة كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالكٍ، والإمام الشافعيّ، والإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى.
ومن أجلِّ وأكبر ما وصل إلينا مِن علم شيخ الإسلام ابن تيمية، ما جمعه العلامة عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد رحمهما الله تعالى في "مجموع الفتاوى" و"المستدرك" عليه.
وقد عاق، كِبَرُ حجمه، وكثرة أجزائه، وتناثر مسائله كثيرًا من طلاب العلم عن قراءته والاستفادة منه.
ومثل هذا الكتاب بحاجة إلى اختصارٍ يستفيد منه العامة والخاصة من العلماء على وجه لا يخل بالمقصود.
1 / 17
وقد عمد شيخنا أحمد الطيار -نفع الله به وزاده من فضله- حرصًا منه على تسهيل العلم لطلابه إلى اختصار هذا الكتاب ليقربه إليهم بلا إطالة تمل، ولا اختصار يخل، وذلك في زمن زهَدَ فيه الكثير من الناس في القراءة الجادّة.
وقد اطلعت على بعض المختصرات التي اختصرها شيخنا ومن ذلك اختصار مدارج السالكين، وهو في قرابة مائةٍ وأربعين صفحة وهو غير مطبوع، ومنها أيضًا هذا المختصر الذي نحن بصدده الذي أسأل الله أن ينفع به ويجعله خالصًا لوجهه الكريم.
والاختصار في الحقيقة بشكلٍ عام قد يكون من مظاهر ضعف الحياة العلمية، ولكن الحاجة تدعو إليه في بعض الأحيان؛ فمثل وقتنا الحالي قد لا يتمكن كثير من طلاب العلم من قراءة بعض المطولات لكثرة الالتزامات والأشغال والله المستعان.
وهذه بعض الأعمال التي قمت بها:
- تصحيح الأخطاء الإملائية.
- تخريج الأحاديث مع بيان صحتها وضعفها، في كثير من المواضع.
- وضع عناوين رئيسية مرتبة تسهل على القارئ قراءته -وقد بلغت هذه العناوين قرابة مائة وأربعين عنوانًا-، وتحت كل عنوان أبوابٌ كثيرة، فقد يكون هناك بعض الفقرات التي لا تتعلق بسابقتها فيتشتت القارئ ولا يستطيع ترتيب بعض المسائل -في ذهنه- التي لا تتعلق بالباب.
مثال ذلك: وجدت مسائل في كتاب الزكاة تتعلق بكتاب البيع [٥٣/ ٢٥] وهي مسألة جواز المزارعة وغيرها من المسائل التي جاءت عرضًا في غير موضعها فنقلتُها إلى الباب الذي يخصها؛ ليسهل على القارئ فهم واستيعاب المسألة.
1 / 18
هذه أبرز الأعمال التي قمت بها.
ومن أهم مميزات هذا المختصر؛ أني قد سبرت بعض المسائل التي اختصرها شيخنا فكنت أتعجب منها، فقد يختصر مائة صفحة في عشر صفحات أو أقل، فكنت أرجع إلى أصل المسألة في الفتاوى فأجد أن شيخنا اختصر المسألة اختصارًا بديعًا، حيث يختصر زبدة المسألة، وقد يقتصر على بعض الأدلة التي تكون أصلًا في المسألة ويترك باقي الأدلة؛ لأن الأدلة التي اختارها تفي بالغرض.
والمجلد التاسع يقع في ثلاث مائة وتسع عشر صفحة وقد اختصره الشيخ بنحو إحدى وعشرين صفحة!.
وقد يقتصر على ردٍّ أو ردَّين لشيخ الإسلام على بعض المعارضين له.
وقد يُسأل شيخ الإسلام عن مسالة فيستطرد ويذكر مسائل قد لا تتعلق بالسؤال، وقد تصل هذه المسائل إلى عشرين مسألة في جواب واحد، فكان شيخنا يقتصر على جواب المسألة مع ذكر دليلها أو تعليلها إن وجد.
والله أسأل أن ينفع بهذا العمل ويجعله خالصًا متقبلًا.
محمد بن عبدالله بن محمد المسعر
٢٧/ ٤/ ١٤٣٨ هـ
جوال: ٠٥٣٣٣٣٢٤٠٦
1 / 19
العلم والعلماء
(العلم، وفضله، وأقسامه، وفضائل الأعمال، ودرجاتها، وأقسام الناس في ذلك)
١ - قال معاذ بن جبل ﵁ (^١): (عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجد الله ويوحد، يرفع الله بالعلم أقوامًا يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم، وينتهون إلى رأيهم).
فجعل البحث عن العلم من الجهاد. [١٠/ ٣٩]
٢ - العلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي؛ فالضلال العمل بغير علم، والغي اتباع الهوى. قال تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)﴾ [النجم: ١، ٢]، فلا ينال الهدى إلا بالعلم، ولا ينال الرشاد إلا بالصبر. [١٠/ ٤٠]
٣ - رَأسُ الْفَضَائِلِ: الْعِلْمُ، وَكُلُّ مَن كَانَ أَفْضَلَ مِن غَيْرِهِ مِن الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ: فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩]. [٤/ ٤٠٨]
٤ - كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا بد للسالك إلى الله من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه.
_________
(^١) قال ابن تيمية ﵀ في (٤/ ١٠٩): وَيُرْوَى مَرْفُوعًا وَهُوَ مَحْفُوظٌ عَن مُعَاذٍ.
1 / 21
وقال: العارف يسير إلى الله عزَّوجلَّ بين مشاهدة المنة (^١)، ومطالعة عيب النفس. [المستدرك ١/ ١٤٣]
٥ - لا ريب أن الذين أوتوا العلم والإيمان أرفع من الذين أوتوا الإيمان فقط، كما دل عليه الكتاب والسُّنَّة.
والعلم الممدوح هو الذي ورَّثَه الأنبياءُ.
وطلب العلم الواجب لكونه معيَّنًا (^٢) على كل أحد: إما لكونه محتاجًا إلى جواب مسائل في أصول دينه أو فروعه، ولا يجد في بلده من يجيبه، وإما لكونه فرضٌ على الكفاية ولم يقم به من يُسْقِطُ الفرض؛ فيجوز السفر لطلب ذلك بدون رضى الوالدين، فلا طاعة لهما في ترك فريضة. [المستدرك ١/ ١١ - ١٣]
٦ - ينبغي أن يخفض صوته عند المعلم، قال الشيخ تقي الدين: من رفع صوته على غيره علم كل عاقل أنه قلة احترام له. [المستدرك ٥/ ٢٢٧]
٧ - أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ. [١٠/ ٢٧٠]
٨ - الْعِلْمُ الْمَشْرُوعُ وَالنُّسُكُ الْمَشْرُوعُ مَأْخُوذٌ عَن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَمَّن بَعْدَهُم فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا وَإِن كَانَ صَاحِبُهُ مَعْذُورًا بَل مَأجورًا لِاجْتِهَادِ أَو تَقْلِيدٍ. [١٠/ ٣٦٢]
٩ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ أَو مَشْرُوعٌ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيِّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ شَرِيعَةً بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ، لَكِنْ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَبٌّ بِدَلِيل شَرْعِيِّ وَرُوِيَ لَهُ فَضَائِلُ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ جَازَ أَنْ تُرْوَى إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهَا كَذِبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَقَادِيرَ الثَّوَابِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَإِذَا رُوِيَ فِي مِقْدَارِ الثَّوَابِ حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كَذِبٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَذَّبَ بِهِ.
_________
(^١) أي: منة الله عليه بالعافية والخير والصلاح.
(^٢) قال في الحاشية: كذا في الأصل. وغالبًا ما تستعمل كلمة متعيَّنًا في مثل هذا.
1 / 22
وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ يُرَخِّصُونَ فِيهِ وَفِي رِوَايَاتِ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ.
وَأَمَّا أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّ هَذَا عَمَلٌ مُسْتَحَبٌّ مَشْرُوعٌ بِحَدِيث ضَعِيفٍ فَحَاشَا للهِ.
كَمَا أَنَّهُم إذَا عَرَفُوا أَنَّ الْحَدِيثَ كَذِبٌ فَإِنَّهُم لَمْ يَكونوا يَسْتَحِلُّونَ رِوَايَتَهُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنُوا أَنَّهُ كَذِبٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: مَن رَوَى عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِين (^١). [١٠/ ٤٠٨]
١٠ - الْعَالِمُ الْفَاجِرُ يُشْبِهُ الْيَهُودَ، وَالْعَابِدُ الْجَاهِلُ يُشْبِهُ النَّصَارَى، وَمِن أَهْلِ الْعِلْمِ مَن فِيهِ شَيءٌ مِن الْأَوَّلِ، وَمِن أَهْلِ الْعِبَادَةِ مَن فِيهِ شَيءٌ مِن الثَّانِي. [١٠/ ٤٠٨]
١١ - مَن عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. [١٠/ ٥٠١]
وَحُسْنُ الْقَصْدِ مِن أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ وَدَرْكِهِ.
وَالْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ مِن أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ قَائِدٌ وَالْعَمَلَ سَائِقٌ، وَالنَّفْسَ حَرُونٌ، فَإِنْ وَنَى قَائِدُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِسَائِقِهَا، وَإن وَنَى سَائِقُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِقَائِدِهَا، فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ حَارَ السَّالِكُ وَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَسْلُكُ، فَغَايَتُهُ أَنْ يستطرح لِلْقَدَرِ، وَإِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ حَارَ السَّالِكُ عَن الطَّرِيقِ فَسَلَكَ غَيْرَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ تَرَكَهُ، فَهَذَا حَائِرٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ مَعَ كَثْرَةِ سيْرِهِ، وَهَذَا حَائِرٌ عَن الطَّرِيقِ زَائِغٌ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ. [١٠/ ٥٤٤]
١٢ - عَن أَبِي حَيَّانَ التيمي قَالَ: "الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ":
أ- فَعَالِمٌ باللهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللهِ.
ب- وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ لَيْسَ عَالِمًا باللهِ.
ج- وَعَالِمٌ باللهِ وَبِأَمْرِ اللهِ.
_________
(^١) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
1 / 23
فَالْعَالِمُ باللهِ الَّذِي يَخْشَاهُ، وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ الله الَّذِي يَعْرِفُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. [١٠/ ٥٤٥]
١٣ - رِوَايَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ مَعَ بَيَانِ كَوْنِهَا كَذِبًا جَائِزٌ.
وَأَمَّا رِوَايَتُهَا مَعَ الْإِمْسَاكِ عَن ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمَل فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. [١٠/ ٦٧٩]
١٤ - الْعِلْمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أ- "عِلْمٌ باللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ" وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَفِي مِثْلِهِ أَنْزَلَ اللهُ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَنَحْوَهُمَا.
ب- وَ"الْقِسْمُ الثَّانِي": الْعِلْمُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِمَّا كَانَ مِن الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا يَكُونُ مِن الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ [من] (^١) الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ، وَفِي مِثْل هَذَا أَنْزَلَ اللهُ آيَاتِ الْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَصِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ج- وَ"الْقِسْمُ الثَّالِثُ": الْعِلْمُ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارحِ، مِن الْإِيمَانِ باللهِ مِن مَعَارِفِ الْقُلُوب وَأَحْوَالِهَا، وَأَقْوَالِ الْجَوَارحِ وَأَعْمَالِهَا.
وَهَذَا الْعِلْمُ يَنْدَرجُ فِيهِ الْعِلْمُ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَيَنْدَرجُ فِيهِ الْعِلْمُ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا الْعِلْمُ يَنْدَرجُ فِيهِ مَا وُجِدَ فِي كُتبِ الْفقَهَاءِ مِن الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِن جُزْءٍ مِن جُزْءٍ مِن عِلْمِ الدِّينِ (^٢)، كَمَا أَنَّ الْمُكاشَفَاتِ الَّتِي يَكُونُ لِأَهْلِ الصَّفَا جُزْءٌ مِن جُزْءٍ مِن جُزْءٍ مِن عِلْمِ الْأُمُورِ الْكَوْنِيَّةِ.
_________
(^١) ما بين المعقوفتين من المستدرك (١/ ١١ - ١٣).
(^٢) فالذي يعكف على كتب الفقه والأحكام، لم يَحُزْ إلا على الجزء اليسير من العلم والدين، وهذا بخلاف فهم كثير من طلاب العلم أن الفقه هو أهم العلوم وأنفعُها! فاكتفوا بهذا العلم وتوسعوا فيه، وتركوا العلوم الأخرى المهمة.
1 / 24
وَالنَّاسُ إنَّمَا يَغْلَطُونَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ لِأَنَّهُم يَفْهَمُونَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَعْرِفُونَ حَقَائِقَ الْاُمُورِ الْمَوْجُودَةِ.
فَرُبَّ رَجُلٍ يَحْفَظُ حُرُوفَ الْعِلْمِ الَّتِي أَعْظَمُهَا حِفْظُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ وَلَا يَكُونُ لَهُ مِن الْفَهْمِ؛ بَل ولا مِن الإيمَانِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَلَى مَن أُوتِيَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يُؤْتَ حِفْظَ حُرُوفِ الْعِلْمِ. [١١/ ٣٩٦ - ٣٩٨]
١٥ - حُسْنُ الْمَسْأَلَةِ نِصْفُ الْعِلْمِ، إذَا كَانَ السَّائِلُ قَد تَصَوَّرَ السُّؤَالَ. [٨/ ٣٧٧]
١٦ - مِن فِقْهِ الرَّجُلِ قِلَّةُ وُلُوعِهِ بِالْمَاءِ. [٢١/ ٢٩٨]
١٧ - لَا رَيْبَ أَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ مَن يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ كَمَا تَلَقَّى الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عَن النَّبِيِّ ﷺ، وَتَلَقَّاهُ عَنْهُم التَّابِعُونَ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ اتِّبَاعُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ بِإِحْسَانٍ، فَكَمَا أَنَّ الْمَرْءَ لَهُ مَن يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ وَنَحْوَهُ، فَكَذَلِكَ لَهُ مَن يُعَلِّمُه الدِّينَ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ.
وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ.
كُلُّ مَن أَفَادَ غَيْرَهُ إفَادَةً دِينِيَّةً هُوَ شَيْخُهُ فِيهَا، وَكُلُّ مَيِّتٍ وَصَلَ إلَى الْإِنْسَانِ مِن أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَآثَارِهِ مَا انْتَفَعَ بِهِ فِي دِينِهِ فَهُوَ شَيْخُهُ مِن هَذِهِ الْجِهَةِ، فَسَلَفُ الْأُمَّةِ شُيُوخُ الْخُلَفَاءِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ.
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى شَيْخٍ يُوَالِي عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَيُعَادِي عَلَى ذَلِكَ؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يُوَالِيَ كُلَّ مَن كَانَ مِن أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَن عُرِفَ مِنْهُ التَّقْوَى مِن جَمِيعِ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَخُصُّ أَحَدًا بِمَزِيدِ مُوَالَاةٍ إلَّا إذَا ظَهَرَ لَهُ مَؤِيدُ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، فَيُقَدِّمُ مَن قَدَّمَ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ، وَيُفَضِّلُ مَن فَضَّلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
1 / 25
١٨ - الْعِلْمُ لَا بُدَّ فِيهِ مِن نَقْلٍ مُصَدَّقٍ، وَنَظَرٍ مُحَقَّقٍ.
وَأَمَّا النُّقُولُ الضَّعِيفَةُ لَا سِيَّمَا الْمَكْذُوبَةُ فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ النَّظَرِيَّاتُ الْفَاسِدَة وَالْعَقْلِيَّات الجهلية الْبَاطِلَةُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا. [١٢/ ٦٣]
١٩ - لَمْ يَبْقَ مَسْأَلَةٌ فِي الدِّينِ إلَّا وَقَد تَكَلَّمَ فِيهَا السَّلَفُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُم قَوْلٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَو يُوَافِقُهُ، وَقَد بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الصَّوَابَ فِي أَقْوَالِهِمْ أَكْثَرُ وَأَحْسَنُ، وَأَنَّ خَطَأهُم أَخَفُّ مِن خَطَأِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ أَكْثَرُ خَطأً وَأَفْحَشُ، وَهَذَا فِي جَمِيعِ عُلُومِ الدِّينِ.
٢٠ - لَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ يَفْتَحُ عَلَى قُلُوب أَوْليَائِهِ الْمُتَّقِينَ، وَعِبَادِهِ الصَّالحِينَ، بِسَبَبِ طَهَارَةِ قُلُوبِهِم مِمَّا يَكْرَهُهُ، وَاَتِّبَاعِهِمْ مَا يحِبُّهُ، مَا لَا يَفْتَحُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ. [١٣/ ٢٧]
وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ: "إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ"، وَفِي الْأَثَرِ: "مَن عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ الله عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ".
وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ:
أ- فَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُجَرَّدَ الزُّهْدِ وَتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ وَرِياضَةِ النَّفْسِ تُوجِبُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِلَا سَبَبٍ آخَرَ.
ب- وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: لَا أَثَرَ لِذَلِكَ؛ بَل الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ الْعِلْمُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَو الْعَقْلِيَّةِ.
ج- وَأَمَّا الْوَسَطُ: فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مِن أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ مُعَاوَنَةً عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ؛ بَل هُوَ شَرْطٌ فِي حُصُولِ كَثِيرٍ مِن الْعِلْمِ وَلَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ كَافِيًا.
فَمَن ظَنَّ أَنَّ الْهُدَى وَالْإِيمَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ طَرِيقِ الْعِلْمِ مَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ
1 / 26