Protection of Non-Muslims in Islam
إرهاب المستأمنين وموقف الإسلام منه
خپرندوی
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
ژانرونه
إرهاب المستأمنين وموقف الإسلام منه إعداد
د. بدر بن ناصر البدر
الأستاذ المشارك بقسم القرآن وعلومه
كلية أصول الدين - جامعة الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (١) . ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (٢) . ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (٣) .
أما بعد:
_________
(١) سورة آل عمران، الآية: ١٠٢.
(٢) سورة النساء، الآية الأولى.
(٣) سورة الأحزاب، الآيتان: ٧٠-٧١.
1 / 1
فقد جاء دين الإسلام محققًا مقاصد عظيمة يجب أن يتعلمها كلّ مسلمٍ ومسلمة، هي حفظ الضرورات الخمس، والتي يُسميها العلماء مقاصد الشريعة حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال. وما فتئ العلماء العارفون يبنون الأحكام والمسائل المرتبطة بهذه المقاصد العظيمة، فلّما غاب العلم وتفشى الهوى والجهل وكثرت الشبهات، ظهرت الفتن والهرج والقتل، دون مراعاة لهذه المقاصد، ومن أجل ذلك فإنّ كلَّ عملٍ تخريبي يستهدف الآمنين مخالف لأحكام شريعة ربّ العالمين، والتي جاءت بعصمة دماء المسلمين والمعاهدين، فكيف إذا كان ذلك في بلدٍ مسلمٍ آمن، هو مهبط الوحي والرسالة والنور الذي يشع في جنبات الأرض كلها!! لا شك أن ذلك أشدّ حرمة بإجماع علماء المسلمين العارفين، فضلًا عمّا في ذلك من هتك لحرمة الأنفس والأموال المعصومة، وهتك لحرمة الآمنين المطمئنين في مساكنهم، وإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار.
1 / 2
إنه يخطئ من يعتقد أو يظن بأن المسلمين لا يقبلون دخول الكفار إلى بلادهم إلا إذا كانوا يرغبون في الإسلام، كما يخطئ أيضًا من يرمي المسلمين بأنهم يحملون سيوفهم في أيديهم ليسلوها في وجه كل من لا يدين بدينهم مما يجعل غير المسلمين لا يأمنون على أنفسهم ولا يثقون بأن تطأ أرجلهم بلادهم، لكن الحقيقة تخالف هذا الاعتقاد، فالجوار بين العرب قبل الإسلام كان له شأن كبير، وكانت الدماء تسيل دون حماية المستجير وحفظه، وكانوا يفتخرون بهذا ويعتزون بحمايته، ثم لما جاء الإسلام أقره ورعاه بذمته وذمة المسلمين، فأمن الرسل والمعاهدين عهدا مؤبدا أو مؤقتا، وأمن أيضًا من يدخل بلاد المسلمين لمصلحة، سواء للتجارة أو لطلب الصلح والموادعة، أو يحمل رسائل أو مبالغ الجزية أو لسماع القرآن والتعرف على مبادئ الإسلام وتعلم أحكامه والوقوف على غاياته وأهدافه، فيدخل آمنا مطمئنا ويعود كذلك إلى بلاده.
1 / 3
وهذا ما رغبت الكتابة فيه إن شاء الله تعالى، وذلك من خلال هذا المؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب والعنف والتطرف الذي تشرف عليه جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، السباقة إلى كل خير، ذات الجهود المشكورة والأعمال المباركة.
أما عنوان البحث فهو (إرهاب المستأمنين وموقف الإسلام منه)، وذلك حسب الخطة الآتية:
- المقدمة.
- المبحث الأول: تعريف الإرهاب وتحريمه في الإسلام.
- المبحث الثاني: تعريف الأمان وأركانه وصيغه.
- المبحث الثالث: الأدلة على مشروعية الأمان من الكتاب والسنة.
- المبحث الرابع: الفرق بين الأمان والذمة والهدنة.
- المبحث الخامس: الواجب على المسلمين تجاه المستأمنين.
- المبحث السادس: الواجب على المستأمنين في بلاد المسلمين.
- الخاتمة.
- ثبت المصادر والمراجع.
وقد التزمت في كتابته ما يأتي:
- عزوت الآيات إلى سورها، ذاكرًا اسم السورة ورقم الآية.
- خرَّجت الأحاديث، مكتفيًا بالصحيحين أو بأحدهما إن كان الحديث فيهما، فإن لم يكن خرَّجته باختصار من غيرهما.
1 / 4
- لم أترجم للأعلام الوارد ذكرهم في البحث، خشية الإطالة، ولئلا أتجاوز ما حُددت به كتابة البحوث في هذا المؤتمر.
- عزوت الأقوال إلى أصحابها ووثقتها من كتب أصحابها، فإن لم أستطع وثقتها من المصادر والمراجع الأخرى.
- ذكرت تفاصيل المصادر والمراجع في ثبت مستقل في آخر البحث.
وبكل حال فإنني لا أدعي الإحاطة بكتابتي في هذا الموضوع ولا شمول البحث فيه، لما يعتريني من النقص والقصور والخلل، ثم لتشعب الموضوع وسعته.
أسأله ﵎ أن يمنحنا الفقه في الدين، وأن يرزقنا اتباع سنة سيد الأولين والآخرين، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
كما أساله - تعالى - أن يجزي القائمين على جامعتنا وأخص بالذكر منهم معالي مديرها ووكلاءها خير الجزاء، وأن يرزقنا كلنا الإخلاص والتوفيق في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. .
1 / 5
المبحث الأول تعريف الإرهاب وتحريمه في الإسلام قال ابن منظور: (رهب بالكسر يرهب رهبة ورهبًا بالضم ورهبًا بالتحريك، أي: خاف، ورهب الشيء رهبًا ورهبًا ورهبة خافه. . . وترهب غيره إذا توعده. . . وأرهبه ورهبه واسترهبه أخافه وفزعه) (١) .
_________
(١) لسان العرب (رهب) ١ / ٤٣٦.
1 / 6
وفي هذه الأزمنة على وجه الخصوص اختلفت آراء الناس جماعات وأفرادًا في بيان المراد بالإرهاب، من المنظور الصحيح المعتدل، كما بذلت في هذا الشأن جهود مشكورة من أهل العلم والإنصاف في بيان المراد من هذا المصطلح، ولعل أدقها وأوفاها وأشملها ما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته ١٦ التي عقدت في الفترة: ٢١-٢٧ شوال ١٤٢٢ هـ، حيث عرف المجتمعون الإرهاب - من الناحية الشرعية - بأنه: " العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول، بغيًا على الإنسان في دينه ودمه وعقله وماله وعرضه، ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد، يقع تنفيذًا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم أو أحوالهم للخطر، ومن صنوفه إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة، أو تعريض أحد الموارد الوطنية أو الطبيعية للخطر. فكل هذا من صور الفساد في الأرض التي نهى الله ﷾ المسلمين عنها بقوله: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي
1 / 7
الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: ٧٧) ".
1 / 8
الإرهاب جريمة من أكبر الجرائم في نظر الشرع الإسلامي، وتعد الحرابة والبغي بغير حق من الجرائم المسماة في الشرع، والتي يتكيف بها الإرهاب في بعض صوره التطبيقية، ومع ذلك فقد أغلظ الله العقوبة على من يحترف هذه الجريمة ويسلك سبيلها. وإذن فلا أقل من أن يعاقب الإرهابي في قياس النظر الشرعي بعقوبة المحاربين، لأن فعله مهما كان فإنه لن يخرج عن كونه فسادًا في الأرض، فيكون مشمولًا بمعنى قوله تعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ في الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة:٣٣-٣٤) . فهذه الآية تحدد بكل وضوح وجلاء الجزاء الشرعي للمحاربين الساعين في الأرض بالفساد، في الدنيا والآخرة. قال مالك والشافعي وأبو
1 / 9
ثور وأصحاب الرأي: نزلت هذه الآية فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، يعنون بذلك أن هذه الآية ليست خاصة بالمرتدين ولا باليهود، كما يرى بعض العلماء من المفسرين وغيرهم، ولكنها تتناول بعمومها كل من أجرم جرائم الحرابة سواء كان من المسلمين أم من غيرهم، فيحكم عليه بموجب حكمها.
1 / 10
ولا بد من لفت النظر إلى أمرين مهمين، أولهما: إن الحرابة جريمة لها تأثير في الأمن العام، بما تشتمل عليه من إدخال الرعب والخوف على النفوس بصورة غير محددة. ورعاية الأمن العام من المصالح العامة التي يناط حفظها ورعايتها بولاة أمور المسلمين. والمصالح العامة يعبر عنها الفقهاء بحقوق الله، أخذًا من مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ . . .] الآية. فجعل الجناية على الأمن العام حربًا لله ورسوله، فمواجهة الإرهاب والحرابة وما يشبه ذلك يكون من الواجبات التي تلزم ولاة الأمور، وعلى عامة المسلمين أن يكونوا من ورائهم في تحقيق ذلك الواجب. قال القرطبي ﵀: " وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق، وجب على الإمام قتالهم. . . ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين. ثم ذكر بعد ذلك: وإجماع أهل العلم على أنه إن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الإمام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى " (١) . وثانيهما: أن التطبيق العملي لهذا الحد يسهم
_________
(١) الجامع لأحكام القرآن ٦ / ١٥٥ - ١٥٦.
1 / 11
بدون شك إسهامًا كبيرًا في تحقيق الأمن للناس، وبالمقابل ينعكس إهماله وتضييعه كسائر حدود الشرع سلبًا على الأمن والاستقرار، ويفتح الطريق لتفاقم الجريمة في المجتمع.
وقد يدعي بعض أعداء الإسلام زورًا أن هذا الدين يتبطن في تعاليمه أشياء تحث على اعتماد منهج العنف في التغيير، وأنه يحرض أتباعه على ممارسة أساليب إرهابية في قمع أعدائهم وإخضاعهم لسلطانه، وينشر دعوته بهذه الطريقة، ويستدلون على هذه الدعوى عادة ببعض الآيات والأحاديث التي تأمر المسلمين بالجهاد في سبيل الله. ويصرون على تصوير حقيقة الإسلام بهذا الواقع عبر أجهزة الإعلام الغربية خاصة، ومن خلال الخبر والرأي والتحليل. وهذا مخالف لحقيقة دين الإسلام، كيف لا وقد حصر الله ﷾ رسالة نبيه الخاتم محمد ﵊ في الرحمة للعالمين، فقال في كتابه العزيز: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء - ١٠٧) .
1 / 12
ومن تأمل موقف النبي ﷺ مع قومه إثر عودته من الطائف، أو موقفه في صلح الحديبية، تبين له ما في ذلك من الدلائل على حرص النبي ﷺ على إيصال الهداية إلى الناس، وتفضيل الأجواء السلمية الآمنة لنشر الدعوة بينهم.
1 / 13
المبحث الثاني تعريف الأمان وأركانه وصيغه قال ابن منظور: " استأمن إليه: دخل في أمانه، وقد أمنه وآمنه، والمأمن: موضع الأمن، والأمن: المستجير ليأمن على نفسه " (١)، وقال الجوهري: " الأمان والأمانة بمعنى، وآمنت غيري من الأمن والأمان " (٢) .
فالأمان يعتمد على ركنين أساسيين، هما المؤمن والمستأمن، فالمستأمن: هو من طلب الأمان لنفسه ليدخل بلاد المسلمين مدة معلومة.
والمؤمن: هو الذي يعطي الأمان، والأصل في هذا أنه الإمام أو نائبه، لأنه ينظر إلى ما فيه مصلحة المسلمين، ويجوز أن يكون المؤمن من أفراد الرعية من المسلمين المكلفين ذكورًا كانوا أو إناثًا، والحر والعبد في ذلك سواء، هذا ما عليه جمهور أهل العلم، وخالف أبو حنيفة في أمان العبد، فإنه لا ينعقد عنده إلا أن يكون مأذونًا له في القتال.
أما صيغ الأمان فغير مقيدة بصيغة معينة، وليس له لفظ خاص به، بل يكفي في ذلك أي لفظ يؤدي المقصود، سواء كان صريحًا كآجرتك وأمنتك أو لا بأس عليك أو لا فزع أو لا خوف ونحوه، أو كناية بنية كقوله: كن كيف شئت، أو أنت على ما تحب، ويصح أيضًا بالمكاتبة والمراسلة ونحو ذلك (٣) .
_________
(١) لسان العرب ١٣ / ٢٢.
(٢) الصحاح ٥ / ٢٠٧١.
(٣) ينظر لما سبق: حاشية ابن عابدين ٣ / ٢٤٧، ٢٢٦- ٢٢٧.
1 / 14
قال ابن قدامة: "إذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان، وادعى أنه رسول قبل منه، ولم يجز التعرض له؛ لقول النبي ﷺ لرسولي مسيلمة: «لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما» . ولأن العادة جارية بذلك، وإن ادعى أنه تاجر، وقد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا، لم يعرض له إن كان معه ما يبيعه؛ لأنهم دخلوا يعتقدون الأمان، أشبه ما لو دخلوا بإشارة مسلم، قال أحمد: " إذا ركب القوم في البحر، فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو ويريدون بلاد الإسلام لم يعرضوا لهم، ولم يقاتلوهم، وكل من دخل بلاد المسلمين من أرض الحرب بتجارة بويع، ولم يسأل عن شيء" (١) .
_________
(١) الشرح الكبير ١٠ / ٣٥٨، والحديث رواه أبو داود في سننه ٢ / ٧٦ وأحمد في مسنده ١ / ٣٩١.
1 / 15
المبحث الثالث الأدلة على مشروعية الأمان من الكتاب والسنة الأصل في الأمان قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (١) . قال ابن جرير الطبري: " يقول تعالى ذكره لنبيه وإن استأمنك - يا محمد - من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم أحد ليسمع كلام الله منك، وهو القرآن الذي أنزل الله عليه، [فَأَجِرْهُ] يقول: فأمنه ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ وتتلوه عليه: ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ يقول ثم رده بعد سماعه كلام الله إن هو أبى أن يسلم، ولم يتعظ بما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن إلى: [مَأْمَنَهُ] يقول: إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك، حتى يلحق بداره وقومه من المشركين " (٢)، وقال ابن كثير: " يقول - تعالى - لنبيه ﷺ عليه: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم [اسْتَجَارَكَ] أي: استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله، أي: القرآن تقرؤه عليه وتذكر له
_________
(١) سورة التوبة، الآية ٦.
(٢) جامع البيان ١١ / ٣٤٦.
1 / 16
شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله: ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ أي: وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي: إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده " (١) .
_________
(١) تفسير القرآن العظيم ٢ / ٣٣٧.
1 / 17
والدليل عليه من السنة ما رواه علي ﵁ أن النبي ﷺ قال: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منهم صرف ولا عدل» . رواه البخاري ومسلم (١) . ورويا أيضًا عن أم هانئ ﵂ أنها قالت: «يا رسول الله، قد أجرت أحمائي وأغلقت عليهم، وإن ابن أمي أراد قتلهم، فقال لها رسول الله ﷺ: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، إنما يجير على المسلمين أدناهم» (٢) .، وأجارت زينب بنت رسول الله ﷺ ورضي الله عنها أبا العاص بن الربيع، فأمضاه ﵊ لها (٣) .، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه ﷺ أنه قال: «يد المسلمين على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم» (٤) .
_________
(١) رواه البخاري - كتاب فضائل المدينة - باب حرم المدينة ٣ / ٤٦، ومسلم - كتاب الحج - باب فضل المدينة ٢ / ٩٩٩.
(٢) رواه البخاري - كتاب الصلاة - باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به ١ / ١٠٠، ومسلم - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب استحباب صلاة الضحى ١ / ٤٩٨.
(٣) رواه عبد الرزاق في المصنف - كتاب الجهاد - باب الجوار ٥ / ٢٢٤-٢٢٥، والبيهقي في السنن الكبرى - كتاب السير - باب أمان المرأة ٩ / ٩٥.
(٤) رواه أحمد في المسند ٢ / ١٨٠، وابن خزيمة في صحيحه ٤ / ٢٦.
1 / 18
المبحث الرابع الفرق بين الأمان والذمة والهدنة لابن القيم - رحمه الله تعالى - كلام نفيس في الفرق بين هذه المصطلحات الثلاثة وما يترتب عليها من أحكام، حيث يقول:" الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد؛ وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان، وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابًا فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة، ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ الصلح، فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد، وقولهم: هذا في ذمة فلان أصله من هذا، أي: في عهده وعقده، أي: فألزمه بالعقد والميثاق، ثم صار يستعمل في كل ما يمكن أخذ الحق من جهته، سواء وجب بعقده أو بغير عقده، وهكذا لفظ الصلح عام في كل صلح، وهو يتناول صلح المسلمين، بعضهم مع بعض وصلحهم مع الكفار، ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال،
1 / 19
لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، ولكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة، وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رسل وتجار ومستجيرون، حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاؤوا دخلوا فيه، وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها، وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به، ولم يعرض له قبل وصوله إليه فإذا وصل مأمنه عاد حربيًا كما كان" (١) .
_________
(١) أحكام أهل الذمة ٢ / ٨٧٣.
1 / 20