Personality of the Muslim as Shaped by Islam in the Quran and Sunnah
شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة
خپرندوی
دار البشائر الإسلامية
د ایډیشن شمېره
العاشرة
د چاپ کال
١٤٢٣هـ - ٢٠٠٢م
ژانرونه
شخصية المسلم
كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة
بقلم
الدكتور محمد علي الهاشمي
دار البشائر الإسلامية
1 / 1
تعريف بالأديب والمفكر الإسلامي
الدكتور محمد علي الهاشمي
بقلم: الدكتور محمد حكمت وليد
ولد الأستاذ الدكتور محمد علي الهاشمي في مدينة حلب بسورية عام ١٩٢٥ لأسرة متوسطة الحال عريقة، لها نسب مكتوب متصل بآل البيت، ورضع منذ نعومة أظفاره حبّ الإسلام والدعوة الإسلامية.
أنهى دراسته الثانوية في حلب، وتقدم إلى مسابقة لاختيار معلمين سنة ١٩٥٢ كان الأول فيها، وعيّن معلمًا في مدينة حلب حتى عام ١٩٥٤، ثم تقدم إلى مسابقة أخرى لاختيار عدد من حملة الشهادة الثانوية من جميع أنحاء سورية، وابتعاثهم لدراسة اللغة العربية والتربية، فكان الناجح الوحيد بين المتقدمين لهذه المسابقة في مدينة حلب.
انتقل بعد ذلك إلى دمشق حيث أمضى دراسته الجامعية من عام ١٩٥٤ حتى عام ١٩٥٩ وحصل على الإجازة في الآداب وعلوم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة دمشق، وعلى الإجازة في التربية من كلية التربية بجامعة دمشق عام ١٩٦٠.
عُين بعد تخرجه مدرسًا في ثانويات حلب من عام ١٩٦٠، ولبث في التدريس فيها حتى عام ١٩٧٤ وحصل على شهادة الماجستير من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام ١٩٦٥ ثم على شهادة الدكتوراه عام ١٩٧٠ من الجامعة نفسها.
وقد نال الدكتور الهاشمي شهادة الدكتوراه لتحقيقه كتاب "جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام" لأبي يزيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، وهو منهل من مناهل الأدب العربي وسجلّ ضخم حافل من تراث العرب وحياتهم وأيامهم وخلائقهم ..
وقد تقصى الدكتور الهاشمي نسخ الجمهرة المخطوطة في مظانها في مكتبات العالم في الفاتيكان وإستانبول وحيدر أباد وعليكرة في الهند، وكذلك في المتحف البريطاني ومكتبة جامعة برتستون والمكتبة الوطنية في باريس، وكذلك نسخة العلامة حمد الجاسر ونسخة الحرم المكي، وقام بتحقيقها وضبط أصولها.
والجمهرة من أهم كتب التراث التي حفظت لنا نخبة من القصائد تعد من عيون شعر الجاهلية والإسلام، فيها الشعر السياسي، وفيها الحكمة والموعظة الحسنة، وفيها أيام العرب في جاهليتهم وإسلامهم، وفيها البيئة العربية، وفيها الكثير من الموضوعات التي تصور نفسية العربي وبيئته ومجتمعه وقيمه وأعرافه.
وبعد حصوله على شهادة الدكتوراه قام بالتدريس في كلية الآداب بجامعة حلب مدة سنتين، سافر بعدها إلى المملكة العربية السعودية بطلب من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث تعاقدت معه على التدريس في كلية اللغة العربية وكان ذلك عام ١٣٩٤هـ/١٩٧٤م وبقي فيها حتى عام ١٤٠٨هـ - ١٩٨٨م.
وفي رحاب الجامعة عرفه زملاؤه وطلابه أستاذًا قديرًا ومربيًا فاضلًا يغرس في طلابه حبّ العربية والإسلام .. ويجول معهم في حقول اللغة والأدب العربي، ويواصل فيهم روح الجد والبحث العلمي النزيه.
ولا غرو في ذلك على من تربى في أحضان الدعوة الإسلامية ونهل من مناهل فكرها الشامل للكون والإنسان والحياة .. وغدا مُعلمًا ومربيًا انعكست أخلاق القرآن الكريم على سلوكه وانعكس كل ذلك على تربيته لتلاميذه وأولاده وأهل بيته.
وبعد ما جال أديبنا في كتب التراث محققًا ومحلقًا في جمهرة أشعار العرب طاف مع الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري .. الصحابي الشاعر والأديب في كتاب يدرس حياته وشعره.
يقول حفظه الله: كنتُ أمضي في دراستي له والسرور يغمر نفسي فأُحس في العمل نشاطًا واسترواحًا ومتعة ذلك أنني كنتُ أستشرف أثناء هذه الدراسة الفترة المباركة المشرقة التي أضاءت فيها مشكاة الوحي، وأصاخت الدنيا إلى ترتيل الكتاب المنزل، ونَعِمَ الوجود وشاهد الزمان الرعيل الأول من صحابة رسول الله ﷺ، يبايعونه على إقامة صرح دولة الإسلام، وكان كعب بن مالك من هذا الرعيل.
وقد كان لأستاذنا الهاشمي أيضًا جولات في علم البلاغة والعروض وله مؤلفات في هذا الحقل.
أولها: المنهل العذب في الدراسة الأدبية والإعراب والبلاغة والعروض والقوافي.
وثانيهما: العروض الواضح وعلم القافية.
وله كذلك كتاب عن طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي المشهور وأحد أصحاب المعلقات، درس فيه حياته وشعره، وكذلك كتاب: عدي بن زيد العبادي، الشاعر المبتكر .. حياته وشعره.
ولم ينس الدكتور الهاشمي في غمرة انشغاله بالتدريس في رحاب جامعة الإمام .. سيّد البشر حبيبنا محمدًا ﷺ وخصه عام ١٩٧٧ بدراسة فريدة في بابها سماها: "شخصية الرسول ودعوته في القرآن الكريم" ويقول في اختياره لهذه الدراسة:
لا ريب أن الصورة الواضحة الصادقة لشخصية الرسول الكريم التي رسمت خطوطها ريشة القرآن المعجزة هي أصدق ما وصلنا عن الرسول ﷺ من أخبار وأصح وصف لحقيقة شمائله وأخلاقه، وأوثق تقرير لما كان عليه في حالاته جميعًا.
فلا غروَ إذًا أن تكون الصورة الوضيئة المشرقة لشخصية الرسول الكريم التي استخدمت خطوطها وألوانها من هذا الكتاب الصادق الموثوق، لا غرو أن تكون أصدق وأوضح وأوثق وأضفى صورة في التراث العربي على الإطلاق، وقد درس في هذا الكتاب شخصية الرسول البشر الذي يُعدّه ربه لحمل الرسالة، ودرس بعد ذلك شخصية الرسول النبي الذي يوحى إليه وقال: "إن الباحث يجد نفسه أمام حقيقة ضخمة هائلة، إنه أمام شخصية طلعت على الدنيا زادًا للإنسانية جديدًا، لا تزيده الأيام إلا جدة وكمالًا وحياةً، ولقد كان في توافر أسباب هذه العظمة الفريدة في شخص الرسول الكريم دليل قاطع على أن الله تعالى أراد أن يختار من البشر رسولًا يكون فريدًا في تكوينه الروحي والخلقي والفكري، بحيث يجمع الفضائل البشرية من أطرافها، ويحوز محاسن الكمال الإنساني من جوانبه كلها.
وبعدما جال كاتبنا في رياض التراث وتفيأ ظلال سيرة الرسول ﷺ في القرآن الكريم يبحر بنا إلى العصر الحديث ويصدر عام ١٩٨١ كتاب "شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنّة" وقد تلقى القراء والناشرون هذا الكتاب بالقبول الحسن وكتب له الذيوع والانتشار، وتعددت طبعاته وعمت فائدته، وقد ترجم إلى الإنكليزية وإلى التركية وطبع في تركيا نحو عشرين طبعة، وكل سنة يطبع مرتين أو ثلاثًا.
يقول أستاذنا الهاشمي في مقدمة هذا الكتاب: "إن الله لم ينزل هذا الدين من فوق سبع سماوات ليكون نظريات تستمتع العقول بمناقشتها، ولا ليكون كلامًا مقدسًا يتبرك الناس بتلاوته وهم لا يفقهون هديه ولا يدركون معانيه، وإنما أنزله الله ليحكم حياة الفرد ويقود حياة المجتمع وليكون نورًا يضيء طريق البشر .. وهذا ما صنعه رسول الله في صدر الدعوة إذ كانت أولى خطواته في درب الإسلام الطويل أن يصنع رجالًا يتجسد فيهم الإسلام، فإذا هم مصاحف تمشي على الأرض انتشروا في أنحاء الدنيا فرأى الناس فيهم نماذج فريدة من البشر يمثلون منهجًا للحياة فريدًا أيضًا.
والإنسانية اليوم والمسلمون على وجه الخصوص في أمسِّ الحاجة إلى صنع هذا النموذج الفريد من البشر الذي لا تطيب الحياة إلا به، ولا تسود القيم الإنسانية الرفيعة إلا بوجوده، ولا تتجلى حقيقة الإسلام اللألاءة إلا فيه.
فما هي تلك الصورة الجميلة لهذا النموذج الإنساني الفريد؟
هذا ما يجده القارئ في شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة وفيها يتحدث حديثًا مفصلًا عن المسلم مع ربه ونفسه ومجتمعه.
وقد أورد المؤلف في الكتاب أفكارًا مميزة قال في إحداها: فكما أن المسلم مؤمن يقظ مطيع أمر ربه كثير التلاوة للقرآن فهو كذلك يزاول الرياضة البدنية ويتقن لغة أجنبية .. وقد كان ابن الزبير ﵁ يتقن عددًا من اللغات دون أن تشغله هذه الصفات عن دينه وآخرته.
وفي الحديث الذي رواه زيد بن ثابت ﵁ أن النبي ﷺ قال له: يا زيد تعلم لي كتاب يهود فإني والله ما آمن يهود على كتابي قال زيد فتعلمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذفته فكنت أكتب لرسول الله إذا كتب إليهم وأقرأ كتبهم إذا كتبوا إليه، وفي حديث أخرجه الترمذي قال لي رسول الله ﷺ: أتحسن السريانية؟ فإنها تأتيني كتب قلت لا قال: فتعلمها .. فتعلمتُها.
ثم يختار أستاذنا الهاشمي إحدى الشخصيات الإسلامية البارزة في العصر الحديث هو الشاعر عمر بهاء الدين الأميري ﵀، ويقوم بدراسته عام ١٩٨٦ من خلال ديوانين من دواوينه العديدة، يُطوّفان في أسمى آفاق الإنسانية، ويصفان أدق خلجات النفوس ويرسمان أقرب المشاهد إلى القلوب هما ديوان (أب) وديوان أمي اللذين -كما يقول- شدّ بهما إلى قيثارة الشعر العربي الحديث وترين جديدين عزف عليهما أجمل الألحان وأسمعنا ألوانًا من شريف المعاني وبديع البيان.
رثى الشاعر والدته بأصدق الشعر وأجمله وعندما يقرب اليوم الأربعون لوفاتها يمهد نفسه للصبر الجميل وهو يتأهب لزيارة ضريحها .. وذلك بإجراء حوار طويل بين عقله وعاطفته ينتصر فيه الرضى بقضاء الله وقدره، وإن كانت عينه دامعةً هتانه:
رويد دموعك يا مقلتي ... أأبغي لها صفقة خاسره ..
وهل برُّها أن تَعُدَّ عيوني ... اللياليَ ساهدة ساهره
معاذ مقام الهوى أن تزيل ... جوى فقدها عبرة سائره
ولكن ستبقى خلايا كياني ... لأمي ذاكرة شاكره
غدًا سوف أسعى إلى رمسها ... وأنشق أعرافها العاطره
وأمسك دمعيَ لو أستطيعُ ... وأرسلُ من روحيَ الزاخره
ضراعة صبٍ يرى في الرضى ... سُمُوا فكل الدنى عابره
ويبقى رضى الله يربو ويحبو ... طمأنينة بالندى زاخره
لقد كان حقًا كما وصفه أستاذنا الهاشمي شاعر الأبوة الحانية والبنوّة الباره .. والفن الأصيل ..
ثم انتقل الدكتور محمد علي الهاشمي في أوائل العام الجامعي ١٤٨هـ - ١٩٨٨م إلى التدريس في كلية الآداب للبنات في الرياض، وبقي فيها حتى بلوغه السن القانونية في أوائل عام ١٤١٦هـ - ١٩٩٦م ولا يزال يشرف على رسائل الدراسات العليا فيها.
ولا ينسى في غمرة التحولات الحضارية الهائلية في عصر الكومبيوتر الفضائيات وهو يُدرّس في كلية البنات أن يبلور شخصية المرأة كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة، وصاغها بأسلوب مشرق يجمع بين أصالة الفكرة وجمال العرض وقوته ..
وما لاقاه هذا الكتاب من الانتشار والقبول الحسن في الأوساط العربية والإسلامية يشير إلى ظمأ تلك القلوب إلى مصادر المعرفة الإسلامية الحقيقية الصافية .. فقد طبع الكتاب خمس طبعات خلال أربع سنوات وقد تمت ترجمته إلى التركية وطبعت منه عشرات الآلاف من النسخ كما تمت ترجمته إلى الإنكليزية والفرنسية.
ولا غروَ في ذلك فإن هذا الكتاب يُجلّي العناية البالغة التي أولاها الإسلام المرأة في تكوين شخصيتها تكوينًا كاملًا، شاملًا كل جانب من جوانب شخصيتها الفردية والأسرية والاجتماعية حتى بلغت في تكوينها الشأو الرفيع الذي لم تبلغه المرأة في تاريخها إلا في هذا الدين.
وقد أذيعت معظم مواضيع هذا الكتاب بصوت المؤلف في حلقات متتابعة من إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية، ويقول الشيخ أمين سراح: ما من عائلة تركية مسلمة متمسكة بدينها إلا ولها جلسات تقرأ فيها من كتابي شخصية المسلم وشخصية المرأة المسلمة ويقول كثير من الشباب الأتراك أن كتاب شخصية المرأة المسلمة ساهم في النهضة النسائية في تركية والوعي الذي ظهر عند المرأة المسلمة والذي تمثل في انتخابات حزب الرفاه في حينها.
إن أستاذنا الهاشمي ابن دعوة الإسلام عاصرها في نشأتها وتربى في أحضانها .. وعاش في صفوفها خادمًا لدينه وأمته .. وشاهدًا بأم عينيه العودة في حال ازدهارها وقد استوت على سوقها واشتد عودها، ورأى كذلك ما تلاقيه الدعوة من أشواك وعثرات على الطريق.
ولم يمنعه حبه للدعوة وإخلاصه لها من تحديد تلك العثرات في نقد ذاتي موضوعي، ففي حياة الإسلاميين إيجابيات كثيرة لا ينكرها مُنصف ولا يُماري فيها عاقل عادل، ولكن لهم إلى جانب هذه الإيجابيات سلبيات لا سبيل إلى إنكارها أو المغالطة فيها، فهم بشر من بني آدم وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون كما قال رسول الله ﷺ في الحديث الحسن الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وقد كان سيدنا عمر يقول: "رحم الله أمرأً أهدى إلى عمر عيوبه".
وقد سطر أستاذنا الهاشمي ذلك في كتيب سماه (سلبيات يجب أن تختفي من حياة الإسلاميين) وعدد منها التعصب للرأي أو عالم أو جماعة، أو التعصب للبلد وأهله .. والضن بالنصيحة خشية الإحراج، وقلة النقد الذاتي.
وقال: إن من علامات نضج الجماعات ومن الدلائل القاطعة على سلامة تفكيرها إقبالها على النقد الذاتي من تلقاء أنفسها وترحيلها بالنقد يصدر من غيرها وتقبله بصدور رحبة ونفوس سعة رضية ولا ريب أن هذا يسير بالدعوة نحو الأفضل.
وقد حضر أستاذنا الهاشمي عدة مؤتمرات عالمية وأدبية في المملكة العربية السعودية والبلاد العربية والإسلامية وله بحوث ودراسات ومضَ بها الخاطر في فترات متباعدة وفي مناسبات مختلفة منها ما نشر في الصحف أو أذيع في الإذاعة والتلفاز، وقد جمعها في كتاب: "ومضات الخاطر" وهي بحوث ودراسات إسلامية واجتماعية وأدبية فاضت بها نفوس المؤلف فجاءت متنوعة الموضوعات ملونة الشكل والصورة والأسلوب.
وفي الختام أقول: إنك قد تختلف مع بعض الأفكار والطروحات والمواقف لكاتبنا وأديبنا وأستاذنا الهاشمي ولكنك لا تملك إلا أن تكبر فيه تواضعه وإخلاصه وإيمانه بأفكاره، وبالتالي لا يمكنك إلا أن تحبه.
_________
رابطة أدباء الشام
http://www.odabasham.net/show.php?sid=326
http://www.odabasham.net/show.php?sid=4698
1 / 2
شخصية المسلم
كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة
1 / 3
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الطبعة العاشرة
١٤٢٣هـ - ٢٠٠٢م
1 / 4
شخصية المسلم
كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة
بقلم
الدكتور محمد علي الهاشمي
دار البشائر الإسلامية
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أحمدك اللهم وأستعينك وأستهديك، وأصلي وأسلم على رسولك الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
1 / 6
مقدمة
أما بعد، فإن اهتمامي في موضوع تجلية شخصية الإنسان المسلم كلما أراد له الإسلام أن يكون، يعود إلى سنين لا تقل عن عشر، إثر ملاحظتي على كثير من المسلمين إفراطا في جانب وتفريطا في جانب آخر، أو اهتماما بأمور وتساهلا بأمور أخرى؛ كأن تجد الواحد منهم يحرص على الصلاة في الصف الأول، ولكنه قد لا يأبه للرائحة الكريهة تنبعث من فمه، أو تفوح من أردانه (١)، أو تجده طائعا لله مخبتا خاشعا، ولكنه مقصر في صلة رحمه. وقد تجده منصرفا إلى العبادة والعلم، ولكنه مقصر في تربية أولاده، غافل عما يقرأون ومن يرافقون، أو تجده معنيا بأولاده، ولكنه عاق لوالديه، قاس في معاملتهما. وقد تجده برا بوالديه، ولكنه يظلم زوجته ويسيء عشرتها، أو تجده خسن العشرة لزوجه وأولاده، ولكنه يسيء معاملة جاره، وقد تجده منصرفا إلى شؤونه الخاصة مهتما بما يعود عليه بالنفع، ولكنه مقصر في علاقاته الاجتماعية واهتمامه بأمر المسلمين، أو تجده متدينا صالحا، ولكنه يتساهل بآداب الإسلام في السلام أو الطعام والشراب ومجالسة الناس ومحادثتهم ...
ومن عجب أن تجد هذا النقص في بعض من يحسبون على الدعوة الإسلامية واتجاهها العملي المتميز الذي يكسب رجاله في الغالب حسا إسلاميا مرهفا، وفهما دقيقا لأحكام الإسلام وآدابه وقيمه، وانصياعا صادقا
_________
(١) أي أكمامه.
1 / 7
لهديه القويم، ولكنه الآنشغال أو الغفلة أو اللامبالاة، توقع بعض الإسلاميين في مثل هذه الهنات والمخالفات من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
ودفعني اهتمامي بتجلية شخصية المسلم كما أراد لها الإسلام أن تكون إلى تتبع النصوص المتعلقة بالإنسان وتوجيهه وتكوينه، لأضع بين أيدي المسلمين، وخصوصا العاملين منهم، دراسة وافية شاملة تجلي تلك الشخصية، وتبرز ما تميزت به من صفات وعادات وأخلاق، لتكون نبراسا لأولئك المقصرين في بعض الجوانب، ليسموا بأنفسهم إلى المرتقى السامق الوضيء الذي أراده لهم دينهم الحق.
وهالني ما رأيت، لقد رأيت البون شاسعا، والمسافة بعيدة جدا بين ما أراده الإسلام للمسلمين، وما أرادوه هم لأنفسهم، إلا قليلا منهم، ممن صحت عقيدتهم، وحسن إسلامهم، وصفت قلوبهم، وسمت نفوسهم، ونشطت هممهم، فأقبلوا على دينهم بصدق وشغف وحرارة، ينهلون من نبعه الصافي النمير، ويزدادون كل يوم جديدا من هديه المتألق الألاء.
إن من يتاح له الاطلاع على هدي الله ورسوله للإنسان في مظانهما من كتاب الله وحديث رسول الله ﷺ، ليدهش من غزارة النصوص واستيعابها وشمولها لكل صغيرة وكبيرة من قضايا الإنسان المتصلة بربه وبنفسه وبالناس من حوله، وكلها توجيه وتكوين وبناء لشخصية الإنسان المسلم في كل جانب من جوانبها، وتأهيل لها للحياة الفردية والاجتماعية المثلى.
ومن هنا يبدو الإنسان المسلم كما أرادت له هذه النصوص أن يكون، إنسانا اجتماعيا راقيا فذا، تضافرت على تكوينه هذا التكوين الفريد مجموعة من مكارم الأخلاق، نطقت بها آيات الكتاب الكريم وأحاديث السنة المطفرة، وجعلت التحلي بها دينا يحرص المرء عليه، ويبتغي به من ربه المثوبة والأجر.
1 / 8
ورحت أجمع تلك النصوص من كتاب الله وسنة الرسول ﷺ، وأصنفها حسب أبوابها وموضوعاتها، حتى إذا تم لي هذا التصنيف اتضحت معالم البحث، وانتظمت في الأقسام التالية:
١ - المسلم مع ربه.
٢ - المسلم مع نفسه.
٣ - المسلم مع والديه.
٤ - المسلم مع زوجته.
٥ - المسلم مع أولاده.
٦ - المسلم مع أقربائه وذوي رحمه.
٧ - المسلم مع جيرانه.
٨ - المسلم مع إخوانه وأصدقائه.
٩ - المسلم مع مجتمعه.
ولقد تبين لي من خلال مصاحبتي تلك النصوص، وتأملي ما تضمنته من هدي عال قويم، أن رحمة الله بعباده كانت كبيرة، إذ انتشلهم من وهدة الضلال، ورفعهم إلى علياء الهداية، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم رسالاته وشرائعه، ليبقى البشر دوما على المحجة البيضاء، لا يخبطون في ظلماء، ولا يتيهون في عماية، ولا تغم عليهم مسالك السبيل القصد.
وكم بدت لي حاجة الإنسان لنفحات الهداية والتربية والتأدب كبيرة، ليستطيع أن يمارس إنسانيته، ويقوم بالدور الكبير الذي عهد الله إليه أن يقوم به في هذه الحياة، إذ لولا تلك النفحات القدسية الهادية الراشدة لغلب على الإنسان الارتكاس في حمأة الأثرة والأنانية والإضرار بالناس، والتمرغ في وحل الضغينة والحقد والاستغلال والسيطرة والظلم، وما إلى ذلك من ذميم العادة وسيء الأخلاق.
1 / 9
وإننا لواجدون مصداق ذلك في سلوك الطفل، إذ يقف بين يدي والديه، فيجهد نفسه في إثبات صلاحه واستقامة سلوكه وفضله على أخيه، ويحرص كل الحرص على تعرية أخيه من تلك الفضائل التي حلى جيده بها، وهو في ذلك يود أن يحقق ذاته، ويؤكد ميله الفطري إلى التغلب على أخيه والتفوق عليه في كل شيء.
وهذه الخليقة في الإنسان طبيعة فطرية، بها قوام الإنسان وصلاح أمر الدنيا، ما دامت سوية معتدلة؛ ذلك أنها تدفع الإنسان إلى استخراج أعمق وأحسن ما فيه من خير، وهو، إذ ينسب هذا الخير إلى ذاته، ينعم بشعور الرضا يغمر أرجاء نفسه، فيذا هو يندفع قذمأ إلى المزيد من العطاء.
على أن هذه الخليقة إذا تضخمت لدى المرء، وغالى الإنسان فيها، انقلبت إلى علة مرضية خطيرة كريهة، إذ يبرز الإنسان المصاب بها مغرورا دعيا، يتيه عجبا على أقرانه، وإنه لأبعد ما يكون عما يدعيه لنفسه من فضائل ومكرمات.
وهنا تبرز قيمة الدين والتربية والأخلاق في كبح جماح المريض بهذه العلة، والكفكفة من غلواء إعجابه بنفسه، وتسديد خطوه نحو الاعتدال والتعقل والتواضع.
والدين هو النبع الثر الدافق لكل فضيلة ومكرمة في هذه الحياة، وما احتوته مبادئ التربية ونصت عليه أصول الأخلاق، من قيم رفيعة، وعادات حسنة، وسلوك قويم، إنما تحدر إلى الإنسانية عبر القرون من ذلك المعين الإلهي المغدق الفياض.
والذي يبدو واضحا في حياة البشر أنهم أدنى إلى الهبوط والتفلت منهم
إلى الصعود والتماسك؛ إذ الهبوط دوما أسهل من الصعود، والتفلت أشهى
1 / 10
من التماسك، ولا بد من وازع يزعهم كلما رانت على قلوبهم الغفلة، وحادت بهم الأقدام عن الصراط المستقيم.
ومن هنا كان لزاما على أرباب الفكر وحملة الأقلام أن ينشطوا في تجلية قيم الدين الرفيعة، وعرضها سائغة ميسرة ذلولا للناس، ويبينوا لهم الصورة المشرقة الوضيئة السمحة التي أراد الله لعباده أن يتخلقوا بها في هذه الحياة، لتكون الحياة جميلة ممتعة هنيئة.
إن الله لم ينزل هذا الدين من فوق سبع سموات ليكون نظريات تستمتع العقول بمناقشتها، ولا ليكون كلاما مقدسا يتبرك الناس بتلاوته وهم لا يفقهون هديه ولا يدركون معانيه، وإنما أنزله الله ليحكم حياة الفرد، وينظم حياة الأسرة، ويقود حياة المجتمع، وليكون نورا يضيء طريق البشر، ويخرجهم من الظلمات إلى النور:
﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (١).
وفي ظلال هذه الهداية ينضر العيش، وتطيب الحياة، ويهنأ الأحياء، وأولى الخطوات نحو هذه الحياة الراشدة الهنيئة إيجاد الفرد المسلم الصادق الذي تتمثل فيه صورة الإسلام الوضيئة المشرقة، يراها الناس فيرون الإسلام، ويتعاملون معها فيزدادون إيمانا به وإقبالا عليه.
وهذا ما صنعه رسول الله ﷺ في صدر الدعوة، إذ كانت أولى خطواته في درب الإسلام الطويل أن يصنع رجالا يتجسد فيهم الإسلام، فإذا هم مصاحف تمشي على الأرض، انتشروا في أنحاء الدنيا، فرأى الناس فيهم
_________
(١) المائدة: ١٥ - ١٦.
1 / 11
نماذج فريدة من البشر، يمثلون منهجا للحياة فريدا أيضا، فلما رأوا المنهج الفريد مجسدا في الفرد المؤمن الصادق أقبلوا يدخلون في دين الله أفواجا. والإنسانية اليوم، والمسلمون على وجه الخصوص، في أمس الحاجة إلى صنع هذا النموذج الفريد من البشر الذي لا تطيب الحياة إلا به، ولا تسود القيم الإنسانية الرفيعة إلا بوجوده، ولا تتجلى حقيقة الإسلام اللألاءة إلا فيه.
فما هي تلك الصورة الجميلة لهذا النموذج الإنساني الفريد؟ هذا ما يجد القارئ الجواب عنه في الصفحات التاليات.
والله أسأل أن يتقبل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به، ويجعله زادا لي يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
الرياض في ٢٧ من جمادى الآخرة ١٤٠١ هـ
١ من أيار (مايو) ١٩٨١ م
محمد علي الهاشمي
1 / 12
١ - المسلم مع ربه
مؤمن يقظ:
إن أول ما يتطلبه الإسلام من المسلم أن يكون مؤمنا بالله حق الإيمان، وثيق الصلة به، دائم الذكر له والتوكل عليه، يستمد منه العون مع أخذه بالأسباب، ويحس في أعماقه أنه بحاجة دوما إلى قوة الله وعونه وتأييده، مهما بذل من جهد، ومهما اتخذ من أسباب.
والمسلم الحق الصادق يقظ القلب، مفتح البصيرة، متنبه إلى بديع صنع الله في الكون، موقن أن يده الخفيه العليا هي التي تسير أمر الكون وشؤون الناس، ومن هنا هو ذاكر دوما لله، يرى آثار قدرته غير المحدودة في كل ومضة من ومضات الحياة، وفي كل مشهد من مشاهد الكون، فيزداد إيمانا به، وذكرا له، وتوكلا عليه:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ...﴾ (١).
مطيع أمر ربه:
فلا بد أن يكون المسلم الصادق مطيعا لله في أمره كله، مخبتا،
_________
(١) آل عمران: ١٩٠.
1 / 13
خاشعا، وقافا عند حدوده، ممتثلا أمره ولو خالف هواه، منصاعا لهديه ولو جاء على غير مزاجه، ومحك إيمان المسلم هذا الآنصياع والامتثال لأمر الله ورسوله في كل كبيرة وصغيرة من غير تحفظ ولا احتراس ولا استثناء:
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» (١).
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (٢).
إنه الاستسلام المطلق لحكم الله ورسوله، والطاعة الكاملة المطلقة أيضا، وبدونهما لا يكون إيمان، ولا يتحقق إسلام. ومن هنا ينتفي من حياة المسلم الصادق الآنحراف عن هدي الله، والمجانبة لأمر رسوله، سواء أكان ذلك في شخص المسلم أم في أسرته وأطرافه، ممن له عليهم التوجيه والمسؤولية والسلطان.
يشعر بمسؤوليته عن رعيته:
ذلك أنه ما من تقصير أو تهاون أو تفريط في جنب الله ورسوله، يقع فيه أحد أفراد أسرة هذا المسلم إلا وهو مسؤول عنه:
«كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته ...» (٣).
وهذه المسؤولية التي يحسها المسلم الصادق من جراء تفريط أحد أفراد أسرته تخز جنبه، فلا يطيق عليها صبرا، ويسارع في إزالة أسبابها مهما تكن النتائج، فما يصبر على هذه المسؤولية، وما يطيق السكوت عليها إلا رجل في إيمانه ضعف، وفي دينه رقة، وفي رجولته خور.
_________
(١) رواه النووي في الأربعين.
(٢) النساء:٦٥.
(٣) متفق عليه.
1 / 14
راض بقضاء الله وقده:
والمسلم الصادق راض دوما بقضاء الله وقدره، يضع نصب عينه حديث رسول الله ﷺ:
«عجبا لأمر المسلم! إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (١).
ذلك أن المسلم الصادق يعتقد في أعماقه أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، وأن ما يصيبه في هذه الحياة ما كان ليخطئه، لأنه قدر مقدور، لا قبل له بدفعه، وأن رضاه بقضاء الله وقدره يكسبه الثواب الجزيل من الله، ويكتبه عنده من المؤمنين الطائعين الفائزين.
ومن هنا كان أمره كله خيرا، إن أصابته سراء لهج لسانه بالشكر الجزيل لربه الكريم المنعم المتفضل، وإن أصابته ضراء صبر امتثالا لأمره، ورضي بقضائه وقدره، وفي كلا الحالين خير له، أي خير.
أواب:
وقد تغشى نفس المؤمن أثارة من غفلة، فتزل به القدم، أو يقع في تقصير، لا يليق بالمؤمن البصير المطيع الخابت الخاشع، ولكنه سرعان ما يتذكر ويتنبه وينتفض من غفلته، وينخلع من زلته، ويستغفر من تقصيره، ويؤوب إلى حمى ربه الآمن مخبتا نادما مستغفرا:
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (٢).
_________
(١) رواه البخاري.
(٢) الأعراف: ٢٠١.
1 / 15
فالغفلة لا ترين على قلب خفق بحب الله وتقواه، ولكنها ترين على القلوب التي أعرضت عن أمره وهداه. وقلب المسلم الصادق متفتح دوما إلى الاستغفار والتوبة والإنابة، مستروح أبدا نسمات الطاعة والهداية والتقى والرضوان.
همه مرضاة ربه:
والمسلم الصادق يبتغي في أعماله كلها وجه الله، همه مرضاة ربه في كل خطوة من خطواته، وفي كل عمل من أعماله، لا مرضاة الناس، بل قد يضطر أحيانا إلى إغضاب الناس في سبيل مرضاة الله، مستهديا في ذلك كله بقول الرسول الكريم:
«من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» (١).
ومن هنا هو يزن أعماله بميزان مرضاة الله ﷿، فما رجحت به كفة هذا الميزان قبله وارتضاه، وما شالت به الكفة أعرض عنه وجفاه. وبذلك تستقيم مقاييس المسلم، وتتضح أمام عينيه معالم الطريق القصد والسبيل القويم، فلا يقع في متناقضات مضحكة سخيفة، كأن تراه يطيع الله في أمر ويعصيه في آخر، أو يحل الشيء عاما ويحرمه عاما؛ إذ لا مجال للتناقض ما دامت المنطلقات صحيحة، والمنهج بينا، والمقاييس ثابتة.
إن الذين تراهم في المسجد مصلين خاشعين، ثم تراهم في السوق يتعاملون بالربا، أو تراهم في البيت أو الشارع أو المدرسة أو المنتدى لا يقيمون شرع الله على أنفسهم وزوجاتهم وأولادهم ومن يعولون، يعانون نقصا واضطرابا في فهمهم وتصورهم لحقيقة هذا الدين المتكامل الذي
_________
(١) رواه الترمذي والقضاعي وابن عساكر، وسنده حسن.
1 / 16
يقود المسلم في أعماله كلها إلى حقيقة كبرى، وهي مرضاة الله ﷿، فيجعله يزن كل قضية بميزان رضاه، ومن هنا يبدو هؤلاء أنصاف مسلمين، وقد لا يكون لهم من الإسلام سوى الاسم، وهذا الازدواج في الشخصية من أخطر ما ابتلي به المسلمون في هذا العصر.
مؤد الفرائض والأركان والنوافل:
والمسلم الصادق يؤدي فرائض الإسلام وأركانه أداء كاملا حسنا، لا تهاون فيه ولا تساهل ولا ترخص.
يقيم الصلوات الخمس:
فهو يقيم الصلوات الخمس بأوقاتها؛ إذ الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين (١)، وهي أجل الأعمال وأفضلها كما في الحديث الذي رواه ابن مسعود ﵁، قال: سألت رسول الله ﷺ: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»، قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» (٢). ذلك أن الصلاة صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن شواغل الحياة، ويتجه بكيانه كله إلى ربه، يستمد منه الهداية والعون والتسديد، ويسأله الثبات على الصراط المستقيم.
فلا غرو أن تكون الصلاة أجل الأعمال وأفضلها؛ لأنها المورد الثر الذي يتزود منه المسلم تقواه، ولأنها المنهل العذب النقي الذي يغسل بنميره خطاياه:
فعن أبي هريرة ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى
_________
(١) انظر إحياء علوم الدين ١/ ١٤٧.
(٢) متفق عليه.
1 / 17
من درنه شيء؟» (١)، قالوا: لا يبقى مم درنه، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» (٢).
وعن جابر ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر جار على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات» (٣).
وعن ابن مسعود ﵁ أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي ﷺ، فأخبره، فأنزل الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ (٤)، فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم» (٥).
وعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر» (٦).
وعن عثمان بن عفان ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله» (٧).
والأحاديث والآثار والأخبار في بيان فضل الصلاة وأهميتها وخيرها على المصلين كثيرة متنوعة، لا تتسع لها هذه الصفحات.
_________
(١) أي وسخه.
(٢) متفق عليه.
(٣) رواه مسلم.
(٤) هود: ١١٤.
(٥) متفق عليه.
(٦) رواه مسلم.
(٧) رواه مسلم.
1 / 18
يشهد الجماعة في المسجد:
ويحرص المسلم التقي على الجماعة الأولى في المسجد ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ ذلك أن رسول الله ﷺ أخبر أن «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» (١).
وأخبر الرسول ﷺ أن المسلم «إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة (٢)، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة» (٣). وبشر الرسول الكريم المصلي الحريص على الجماعة بالجنة في كل غدوة من غدواته إلى المسجد أو روحة إليه، فقال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا، كلما غدا أو راح» (٤).
ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أحرص ما يكونون على صلاة الجماعة، وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود ﵁:
من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما فليحافط على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم ﷺ سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف
_________
(١) متفق عليه.
(٢) لهذا كان عبد الله بن عمر ﵄ يقارب بين خطوه، وهو في طريقه إلى المسجد، لتزداد خطواته فتزداد بها حسناته.
(٣) متفق عليه.
(٤) متفق عليه.
1 / 19
عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى (١) بين الرجلين حتى يقام في الصف (٢).
ويبلغ اهتمام الرسول ﷺ بأمر الجماعة في المسجد أن يهم بتحريق بيوت تاركي الجماعة من غير عذر، إذ يقول:
«والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب، فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم» (٣).
فلا عجب بعد ذلك أن نجد مثل سعيد بن المسيب لا يرى خلال ثلاثين سنة قفا أحد في المسجد لأنه كان دائما في الصف الأول قبل الأذان، وأمثال سعيد كثير في تاريخ المسلمين.
ولم يكن بعد الدار عن المسجد ليعيق الصحابة الكرام عن حضور الجماعة كلما سمعوا النداء، لما كان للجماعة من أهمية بالغة في نفوسهم، بل إنهم كانوا يسرون ببعد بيوتهم عن المسجد ليكتب لهم ممشاهم إلى المسجد، وتحسب لهم خطواتهم إليه في صحيفة أعمالهم:
فعن أبي بن كعب ﵁ قال: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحدا أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة! فقيل له: لو اشتريت حمارا لتركبه في الظلماء وفي الرمضاء (٤)، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله ﷺ: «قد جمع الله لك ذلك كله» (٥).
_________
(١) أي يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله.
(٢) رواه مسلم.
(٣) متفق عيه.
(٤) أي شدة الحر.
(٥) رواه مسلم.
1 / 20