Personal Qualities of the Quran Teacher
المقومات الشخصية لمعلم القرآن الكريم
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
د ایډیشن شمېره
-
ژانرونه
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ﷺ تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فيعدُّ المدرس هو الأداة الفاعلة والعنصر الرئيس في نطاق التعليم والتربية، ومعرفة الصفات التي ينبغي أن يتحقق بها ويرتقي إليها، تمكننا من الوقوف على الدور الهام والحساس الذي يمكن له أن يصنعه.
ونجد أن من بواكير الاهتمام بمعلم القرآن الكريم بعث عثمان ﵁ قراء مع المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار، لتكون المصاحف قدوة لأهل تلك الديار، يأتمون بها في قراءتهم وصلواتهم، وليكون القارئ المبعوث معلمًا لعامة أهل كل مصر القراءة وَفق مصحفهم.
وإن جاز أن تؤخذ بعض العلوم بلا معلِّم، فإن هذا الأمر لا يمكن حصوله أبدًا في تعلّم قراءة القرآن الكريم، لأن تعلمه متوقف على العرض والتلقي والمشافهة والإسناد، فلا بدَّ فيه من معلِّم يرجع إليه.
1 / 1
(قيل لأبي حنيفة ﵀ في المسجد حلقة ينظرون في الفقه، فقال: ألهم رأس؟ قالوا: لا، قال: لا يفقه هؤلاء أبدًا!) (١)، هذا مع الفقه فكيف مع القرآن؟!
ويتناول هذا البحث قِوامة معلم القرآن الكريم، وصفاته الذاتية، والعلمية، والتربوية، التي تؤهله للمشاركة بمقومات شخصية تميزه في درب خيرية تعلّم القرآن وتعليمه، دون التطرق لأهداف التعليم القرآني، أو طرائقه، أو أخلاق طلاب الحلق (٢) القرآنية، وغيرها من الآداب التي ينبغي توافرها في عملية التعليم.
والصفات التي يتحدث عنها البحث، هي بعض من صفات لازمة، ينبغي تحققها في معلم القرآن الكريم، وهي غير مقصورة على المتصدي للتعليم في الحلقات، بل هي متأكدة في حق كل متعاط لهذه العملية الشريفة، بصورة جماعية، أو فردية.
وذلك أن المعلم هو محور التعليم والدرس والتربية، فمهما وضعت من مناهج متقنة، وهيئت من ظروف ملائمة، ووفرت من وسائل معينة، كل ذلك لا يغني عن الأداة الفاعلة في العملية التعليمية، وهو المدرس الكفء في الموقع المناسب، لأن عناصر التعليم قد تكون في غاية المواصفات المتقنة، لكنها تنحدر وتهبط على يد المدرس غير المؤهل، أو توجَّه من قبله توجيهًا نافرًا، أو تهمل ولا يفاد منها.
_________
(١) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم: ٤٦.
(٢) كانت تسمى إلى وقت قريب بالكتاتيب، ويطلق عليها في معظم البلدان الإفريقية (خلاوي)، وفي بعض بلدان المغرب (حذقات)، وفي موريتانيا (محاظر) .
1 / 2
فلا غرو أن تكون دراسات جادة في تأصيل شخصية المعلم، وبيان دوره الفعَّال.
ولقد حرَص الخلفاء وعلية القوم ووعاة الناس - قديمًا - على اختيار المدرس الناجح لأبنائهم، ونجد - اليوم - في عالم الناس من يحرص على التحاق ولده في المدرسة النموذجية، التي فيها نخبة من المدرسين الأكفاء، لأن ثمرة التعليم وجناه مترتبة على تأهل المدرس بالصفات اللائقة، وأخذه بها في مسيرته المباركة.
إن تأهيل المدرس بالمقومات التي تصل به إلى المستوى المناسب من إقامة الدين - وهو أحد حملته ونقلته - فالطلاب عيونهم مفتوحة على هذا الموجه، فيحسِّنون ما حسَّن، ويعيبون ما قبَّح، وقد يتأثر التلميذ - أحيانًا - بمدرِّسه أكثر مما يتأثر بوالده، والطبع - كما يقال - سرَّاق؛ لذلك ربط بعض السلف بين العلم والدين، وكانوا يتعلمون من معلميهم - أيضًا - الدلَّ والسمت والخلق.
ويسهم هذا البحث إسهامًا متواضعًا في بيان بعض الصفات الأساسية لمعلِّم القرآن الكريم، ويشير إلى وسائل مفيدة - أيضًا - لمدرس القراءات القرآنية من باب التتميم والإفادة.
1 / 3
تمهيد:
١ - فضل تعلم القرآن وتعليمه، وعناية السلف به:
إن الاشتغال بكتاب الله العظيم حفظًا، وفهمًا، وعملًا، وتعليمًا من أفضل القربات وأزكاها عند الله، وقد بُعث النبي ﷺ رسولًا يتلو آيات الله، معلمًا ومزكيًا لنفوس الصحب الكرام، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: ٢) .
وحث ﵊ على الوصاة بكتاب الله (١)، وقال: " خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه" (٢) .
قال أبو عبد الرحمن السلمي - راوي الحديث عن عثمان ﵁: (فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا)، فكان يعلِّم من خلافة عثمان إلى إمرة الحجاج (٣) .
_________
(١) كما في حديث طلحة بن مصرِّف قال: (سألت عبد الله بن أبي أوفى أوصى النبي ﷺ؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية، أُمروا بها ولم يوص؟، قال: أوصى بكتاب الله) رواه البخاري (٥٠٢٢) (فتح الباري: ٨ / ٦٨٥) .
(٢) رواه البخاري (٥٠٢٧) (الفتح: ٨ / ٦٩٢)، وأبو داود (١٤٥٢) سنن أبي داود: ٢ / ١٤٧، والترمذي (تحفة الأحوذي: ٨ / ٢٢٢) والنسائي في فضائل القرآن: ٨٧، وغيرهم.
(٣) أخلاق حملة القرآن للآجري: ١٩. ويرى ابن كثير أن مدة تعليمه القرآن استمرت سبعين سنة، وذهب ابن الجزري إلى أنها أكثر من أربعين سنة. انظر فضائل القرآن لابن كثير: ٦٤، والنشر في القراءات العشر: ١ / ٣. وقال الحافظ ابن حجر: (بين أول خلافة عثمان وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة
أشهر، وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج العراق ثمان وثلاثون سنة، ولم أقف على تعيين ابتداء إقراء أبي عبد الرحمن وآخره، فالله أعلم بمقدار ذلك) . فتح الباري: ٨ / ٦٩٥.
1 / 4
وعن عقبة بن عامر ﵁ قال: خرج رسول الله ﷺ ونحن في الصفة، فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان (١)، أو إلى العقيق (٢)، فيأتي منه بناقتين كوماوين (٣)، في غير إثم ولا قطع رحم؟ "، فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله ﷿ خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل" (٤) .
ومما يدل على حرص السلف على تعلم القرآن وعنايتهم به ما ذكره أبو هريرة ﵁ لما وكله النبي ﷺ بحفظ زكاة الفطر، وسرقة الشيطان منها ثلاث ليال، من قول الشيطان له: (دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها) يقصد آية الكرسي، قال الراوي:
(وكانوا أحرص شيء على الخير) (٥) .
وعن عبادة بن الصامت ﵁ قال: (كان رسول الله ﷺ يُشغَل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله ﷺ دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن) (٦) .
_________
(١) من أودية المدينة الرئيسة، يسيل من جنوبها، ويلتقي مع وادي العقيق شمالًا. انظر المعالم الأثيرة في السنة والسيرة: ٤٩ - ٥٠.
(٢) أشهر أودية المدينة الشريفة، وهو واد مبارك.
(٣) الناقة الكوماء: مشرفة السنام عاليته، (النهاية لابن الأثير: ٤ / ٢١١) .
(٤) رواه مسلم (٨٠٣) صحيح مسلم: ١ / ٥٥٢ - ٥٥٣.
(٥) فتح الباري: ٤ / ٥٦٨.
(٦) رواه أحمد (الفتح الرباني: ١٨ / ٩) .
1 / 5
قال أبو الفضل الرازي: (وعلى الحفظ والتحفظ (١) كان الصدر الأول ومن بعدهم، فربما قرأ الأكبر منهم على الأصغر سنًا وسابقة، فلم يكن الفقهاء منهم، ولا المحدِّثون، والوعَّاظ يتخلفون عن حفظ القرآن والاجتهاد على استظهاره، ولا المقرَّبون منهم عن العلم بما لم يسعهم جهله منه) (٢) .
٢ - نشأة التخصص في الإقراء:
ظهر التخصص في القراءة من عصر النبوة، بقوله صلى الله عيه وسلم: "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب" (٣)، وقال عن أبي ﵁: (أقرؤهم أبي بن كعب) (٤)، وقال عمر: (أقضانا علي، وأقرؤنا أبي) (٥) .
وبعث النبي ﷺ إلى رِعل وذكوان وعصية وبني لحيان سبعين رجلًا من الأنصار، قال أنس ﵁ (كنا نسميهم القراء في زمانهم) (٦) .
_________
(١) وهو بذل الجهد في حفظ القرآن، طائفة بعد طائفة.
(٢) فضائل القرآن وتلاوته وخصائص تلاته وحملته: ٣٣.
(٣) رواه البخاري (٣٧٥٨) (الفتح: ٧ / ١٢٧)، والحاكم في المستدرك: ٣ / ٢٢٥، وصححه ووافقه
الذهبي، وغيرهما.
(٤) رواه الترمذي (تحفة الأحوذي: ١٠ / ٢٩٤)، وابن ماجه (١٥٤) في السنن: ١ / ٥٥.
(٥) رواه البخاري (٤٤٨١) (الفتح: ٨ / ١٧)، وأحمد في المسند: ٥ / ١١٣.
(٦) رواه البخاري (٤٠٩٠) (الفتح: ٧ / ٤٤٥) .
1 / 6
قال الحافظ ابن حجر: (قد بيَّن قتادة في روايته (أي عن أنس) أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، وفي رواية ثابت: ويشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن بالليل ويتعلمون) (١) .
وكان أخذ الصحابة القرآن الكريم من النبي ﷺ على طبقتين:
أ - طبقة أخذت عنه مباشرة كابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وأُبيّ، وزيد، وغيرهم من المكثرين.
ب - طبقة أخذت عن الصحابة كابن عباس، وعبد الله بن السائب، وغيرهم من صغار الصحابة رضي الله عن الجميع.
ومضى الأمر في المئة الأولى الهجرية على أن عامة الناس يقرؤون بما في المصاحف الموجهة إليهم، وَفق ما أقرأهم الصحابة والتابعون.
ثم اشتهر بعد ذلك طائفة من القراء تجردوا للقراءة، واعتنوا بضبطها أتم عناية، وداوموا عليها فنسبت لهم، وأضيفت إليهم، قال الداني: (وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد) (٢) .
ثم كان عمل أبي بكر أحمد بن موسى المعروف بابن مجاهد البغدادي
(ت: ٣٢٤ هـ)، معلمًا بارزًا في تاريخ الإقراء، إذ انتخب قراءة سبعة من قراء الأمصار - وهي مكة والمدينة، والكوفة والبصرة، والشام - وهي
_________
(١) فتح الباري: ٧ / ٤٤٧.
(٢) مقدمة (جامع البيان في القراءات السبع): ٦١، ونحوه في النشر لابن الجزري: ١ / ٥٢.
1 / 7
الأمصار التي خرج منها علم النبوة من القرآن وتفسيره، والحديث، والفقه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (١) .
وقد استقلت بعض البلدان بكتب خاصة في علم القراءة، فبعد المائة الخامسة الهجرية، اشتهرت الشاطبية في الشام، واشتهر كتاب (العنوان في القراءات السبع) لأبي طاهر إسماعيل بن خلف الأنصاري (ت: ٤٥٥ هـ)، بمصر، وانتشر كتاب (الإرشاد) للقلانسي (ت: ٥٢١ هـ) في العراق، ونظمه كثير من أهل بغداد وواسط (٢) .
ويظهر أن أهل المغرب والأندلس لم يعتنوا إلا بالقراءات السبع تأليفًا، وتعليمًا.
وتنوع مستوى حلقات تعليم القرآن على مر العصور، فمنها ما كان خاصًا بتعليم أولاد الخلفاء والأمراء، والخاصة (٣) .
ومنها ما كان خاصًا بتعليم عموم الصبيان (٤) .
ومنها حلق جمعت بين أصناف المتعلمين من فقهاء، ومتأدبين من أهل التجارة (٥) .
_________
(١) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: ١٣ / ٣٩٠.
(٢) انظر منجد المقرئين ومرشد الطالبين: ١٧٨.
(٣)، (٣) انظر القراءات القرآنية في بلاد الشام: ١٨، ٢٣.
(٤) انظر منجد المقرئين: ٦٢ - ٦٣.
1 / 8
الفصل الأول: المقومات الذاتية
التمسك بمنهج السلف في الإعتقاد
...
الفصل الأول
المقومات الذاتية
تعتبر الصفات الذاتية لمدرس القرآن الكريم عماد شخصيته - بعد توفيق الله له -، لأنها تشير إلى مكنون ضميره، ومسلكه بوجه عام.
وسوف أقتصر في هذا الفصل على ذكر أربع منها، لما لها من دور مهم في صقل شخصية المدرس.
١ - التمسك بمنهج السلف في الاعتقاد:
يعد الالتزام بأصل الاعتقاد الذي كان عليه السلف الصالح، وبراءة المرء من المحدثات والبدع من أكبر منن الله عليه.
وسلامة الاعتقاد مطلب شرعي، ومن أول المهام التي ينبغي أن يتحقق بها المعلم، ومدرس القرآن الكريم.
ذلك أن رجل العقيدة سهم يندفع في تحقيق أهدافه، وهو إنسان ملأت عقيدته نفسه، فهو يعيش من أجلها، ويرضى بكل أذى في سبيلها، ويبذل جهده وكل غال ورخيص في ظلها، فرجل العقيدة أعظم ذخر نقدمه للعقيدة، وأكبر رصيد نعده في سبيل نصرتها (١) .
_________
(١) انظر المسؤولية للدكتور محمد أمين المصري: ٤٠.
1 / 9
إن سلامة الاعتقاد من المقوِّمات الأساسية للمعلم، الذي يتصدَّى للتعليم والتربية في حلقات القرآن، لأن ذلك يثمر الاستقرار القلبي، فيصبح اعتقاده القلبي متوافقًا مع قوله اللفظي، وسلوكه العملي (١)، ومن كانت هذه سيرته فإنه يستطيع أن يحقق أبرز أهداف الحلقات القرآنية، بغرس بذرة الإيمان في نفوس الناشئة، وبناء لبنة عقيدة التوحيد الباسقة المظللة، بحيث يقع القرآن على أصل الإيمان مع نقاء الفطرة، فتنمو الثمرة، وتأتي أكلها، فيحصل النفع بإذن الله.
ولا يفوتني وأنا أتحدّث عن هذه الصفة، والسمة البارزة لمعلمي الخير أن أشير إلى أن أئمة القراءة الأوائل كانوا على هذا المنهج الواضح الذي لم يتكدر ولم يرنُق. فنجد الإمام الحافظ المقرئ أحمد بن محمد بن عبد الله، أبا عمر الطلمنكي (ت: ٤٢٩ هـ) - وهو أول من أدخل القراءات إلى الأندلس كما يرى ابن الجزري (٢) - على هذه الطريقة التالدة، وألَّف في هذا المهيع كتابه (أصول السنة) (٣)، وقد نقل عنه ابن تيمية وابن القيم نقولًا وافرة في كتبهما.
ونجد الإمام المقرئ عثمان بن سعيد، أبا عمرو الداني: (ت: ٤٤٤هـ)، ألَّف (الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)،
_________
(١) مهارات التدريس في الحلقات القرآنية (بتصرف): ٦٨.
(٢) غاية النهاية: ١ / ١٢٠، والنشر: ١ / ٣٤.
(٣) يعتبر هذا الكتاب من المفقود من مؤلفات الطلمنكي. والمراد بكتب (السنة): الكتب الحاضَّة على اتباعها والعمل بها، وترك ما حدث بعد الصدر الأول من البدع والأهواء. انظر الرسالة المستطرفة للكتاني: ٣٧.
1 / 10
التي تنضح بمعتقد أهل السنة والجماعة، وتمتاز بسبك الأدلة في مواضعها، كما أنها خلت من مصطلحات علم الكلام (١) .
كما أنه ﵀ مزج في منظومته الموسومة بـ (الأرجوزة المنبِّهة) - وهي قصيدة رجزية تقع في نحو (١٣٠٠) بيت - بين أصول القراءة ومتعلقاتها، وبين أصول الدين، فذكر من صفات الشيوخ الذين يؤخذ عنهم العلم ما يلي (٢):
فاقصد شيوخ العلم والرواية ... ومن سما بالفهم والدراية
واتَّبع السنة والجماعة ... وقام لله بحسن الطاعة
وقال (٣):
وجانبِ الأراذِل المبتدعة ... واعمَلْ بقول الفرقة المتَّبِعة
وقال في بيان بعض مسائل العقيدة (٤):
ومن عقود السنة الإيمان ... بكل ما جاء به القرآن
وبالحديث المسند المرويِّ ... عن الأيمَّة عن النبيِّ
فمن صحيح ما أتى به الأثر ... وشاع في الناس قديمًا وانتشر
نزول ربنا بلا امتراءِ ... في كل ليلة إلى السماء
من غير ما حدٍّ ولا تكييف ... سبحانه من قادر لطيف
ونجد الإمام المقرئ الحسن بن أحمد بن عبد الله، أبا علي البغدادي الحنبلي (ت: ٤٧٧ هـ)، - صاحب كتاب (بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها
_________
(١) انظر من مقدمة المحقق: ص ٨.
(٢) الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات وعقد الديانات بالتجويد والدلالات: ١٦٨.
(٣) المصدر السابق: ١٧٤.
(٤) المصدر السابق: ١٧٨، ١٩٤.
1 / 11
القراء وإيضاح الأدوات التي بني عليها الإقراء) - ألف كتابه (المختار في أصول السنة) (١) الذي اختصر فيه كتاب (الشريعة) للآجري، وكتاب التوحيد من صحيح البخاري.
ونجد الإمام الحافظ المقرئ الحسن بن أحمد بن الحسن، أبا العلاء الهمذاني العطار (ت: ٥٦٩ هـ)، صاحب كتاب (غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار) - ألَّف (فتيا في الاعتقاد وذم الاختلاف) (٢) .
ولا أطيل بذكر الأمثلة في هذا، وإنما قصدت الإلماع إلى منهج هؤلاء الأئمة، ليكونوا نبراسًا على الطريق لمعلم القرآن الكريم، فيتبع آثارهم.
_________
(١) حققه الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، وصدر عن مكتبة العلوم والحكم بالمدينة في طبعته الأولى عام (١٤١٣ هـ) .
(٢) حققه عبد الله بن يوسف الجديع، وصدر عن دارالعاصمة بالرياض عام (١٤٠٩ هـ) .
٢ - إخلاص النية: إن أهم الأمور التي يجب على كل مكلف أن يأخذ نفسه بها، ويقيم أعماله عليها، هو إخلاص القصد لله في سائر أحواله الظاهرة والباطنة، فكيف بمن انتصب لتعليم كتاب الله العزيز؟ قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة: ٥)، وقال ﷺ: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (٣) . _________ (٣) رواه البخاري (١) (الفتح: ١ / ١٥)، ومسلم (١٩٠٧) صحيح مسلم: ٣ / ١٥١٥ بلفظ: (إنما الأعمال بالنية)، وغيرهما.
٢ - إخلاص النية: إن أهم الأمور التي يجب على كل مكلف أن يأخذ نفسه بها، ويقيم أعماله عليها، هو إخلاص القصد لله في سائر أحواله الظاهرة والباطنة، فكيف بمن انتصب لتعليم كتاب الله العزيز؟ قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة: ٥)، وقال ﷺ: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (٣) . _________ (٣) رواه البخاري (١) (الفتح: ١ / ١٥)، ومسلم (١٩٠٧) صحيح مسلم: ٣ / ١٥١٥ بلفظ: (إنما الأعمال بالنية)، وغيرهما.
1 / 12
وقد ابتلى الله تعالى العباد بالشريعة، ليظهر منهم حسن العمل، فقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الملك: ٢) وفسر الفضيل بن عياض حسن العمل بقوله: (أخلصه وأصوبه)، وقال: العمل لايقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، الخالص: إذا كان لله، والصواب: إذا كان على السنة (١) .
لذلك يعد العمل الخالي من النية الصالحة كالجثة الهامدة، التي لا روح فيها، وقد فرض الله تعالى عبودية على المسلم في كل عمل يعمله، ومما لامراء فيه أن تعليم القرآن الكريم من أجل القرب وأعظمها أجرًا، حتى فضله بعض السلف على الجهاد في سبيل الله (٢)، فمن مقتضى هذه العبودية في هذا العمل أن تُجرد النية لله في تعليمه، ويُفرد بحسن الطاعة والقصد، ويُصفَّى عن ملاحظة المخلوقين، كما قال القشيري: (الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين) (٣) .
وكلما أخلص المرء لله لم يتعثر في سيره، وأُعطي توفيقًا بقدر ما في قلبه من الصدق والإخلاص، قال الإمام الرباني محمد بن واسع البصري: (إذا أقبل العبد بقلبه على الله، أقبل الله بقلوب العباد عليه) (٤) .
وهذه معلمة مهمة لمدرس القرآن الكريم، ينبغي له ترسمها والحرص عليها، ليمسِّك الناس بالكتاب، ويحببهم إليه، ويحملهم على حسن الأدب معه، وجودة تلاوته.
_________
(١) معالم التنزيل للبغوي: ٨ / ١٧٦.
(٢) انظر النشر: ١ / ٤.
(٣) التبيان في آداب حملة القرآن: ٢٤.
(٤) سير أعلام النبلاء: ٦ / ١٢١.
1 / 13
وقد رأيت من بعض مشايخي في تعليمهم القرآن صدقًا وإخلاصًا ظاهرًا؛ بحيث بورك لهم في أعمالهم وأعمارهم، وصرف الله قلوب الناس إليهم، وازدحم عليهم الطلاب من كل أفق، لأنهم عاملوا ربَّهم بهذه الخصلة، فأعطاهم بحسن قصدهم وطهارة نفوسهم أفضل عطاء، وجعلهم بحق من أهل الخيرية التي أشار لها النبي ﷺ بقوله: "خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه" (١) .
ولعظم هذا الأمر وأهميته في مقاصد المكلفين، وفيما يتعبدون به ربهم، تمنّى ابن أبي جمرة الأندلسي (ت: ٦٩٥ هـ) على أهل العلم أن يتفرغ بعضهم لهذا الموضوع، كي يعلم الناس مقاصدهم، فقال: (وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك) (٢) .
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذه الصفة لمعلم القرآن الكريم، أن بعض القراء يكره قراءة طلابه على غيره من القراء ممن ينتفع بهم.
قال النووي ﵀ (وهذه مصيبة يبتلى بها بعض المعلمين الجاهلين، وهي دلالة بينة من صاحبها على سوء نيته، وفساد طويته، بل هي حجة قاطعة على عدم إرادته بتعليمه وجه الله تعالى الكريم، فإنه لو أراد الله تعالى بتعليمه لما كره ذلك، بل قال لنفسه: أنا أردت الطاعة بتعليمه وقد حصلت، وهو قصد بقراءته على غيري زيادة علم، فلا عتب عليه.
_________
(١) سبق تخريجه ص: ٥.
(٢) المدخل لابن الحاج: ١ / ٣.
1 / 14
قال: وقد صحَّ عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه قال: وددت أن الخلق تعلَّموا هذا العلم - يعني علمه وكتبه - على أن لا ينسب إليَّ حرف منه) (١) .
وتأتي أهمية تصفية النية من الشوائب، وإخلاصها لله تعالى في فاعلية العملية التعليمية والتربوية من كونها أساسًا لقبول عمل المدرس ورفع عمله الصالح، ومن الجانب الآخر أن المدرس قدوة لطلابه، فإذا كان خالي الوفاض أو مكدَّر المورد في هذه الصفة، فكيف يستطيع أن يؤثر في تلاميذه، ويحقق أهدافه التعليمية والتربوية؟.
_________
(١) التبيان في آداب حملة القرآن: ٢٨، ونحوه في المجموع شرح المهذب: ١ / ٦٤.
٣ - التدين الصادق: يعتبر الالتزام بأحكام الشرع الحنيف علامة فارقة ومميزة بين المسلم الصادق وبين مدعي الإسلام. وينبغي لمن فضَّله الله تعالى وشرَّفه بحمل كتابه، أو شيء منه أن يكون من أهل القرآن بحق، الذين هم أهل الله وخاصته، وممن قال الله ﷿ فيهم ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾ (البقرة: ١٢١) أي يعملون به حق عمله (٢) . وقال عكرمة: يتبعونه حق اتباعه من قولهم: تلا، أي: تبع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا﴾ (٣) . _________ (٢) أخلاق حملة القرآن: ٢٤. (٣) تفسير القرآن للسمعاني: ١ / ١٣٢.
٣ - التدين الصادق: يعتبر الالتزام بأحكام الشرع الحنيف علامة فارقة ومميزة بين المسلم الصادق وبين مدعي الإسلام. وينبغي لمن فضَّله الله تعالى وشرَّفه بحمل كتابه، أو شيء منه أن يكون من أهل القرآن بحق، الذين هم أهل الله وخاصته، وممن قال الله ﷿ فيهم ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾ (البقرة: ١٢١) أي يعملون به حق عمله (٢) . وقال عكرمة: يتبعونه حق اتباعه من قولهم: تلا، أي: تبع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا﴾ (٣) . _________ (٢) أخلاق حملة القرآن: ٢٤. (٣) تفسير القرآن للسمعاني: ١ / ١٣٢.
1 / 15
وذكر العلماء أن من شرط مقرئ القرآن وصفته أن يكون ثقة مأمونًا، ضابطًا، متنزهًا من أسباب الفسق ومسقطات المروءة (١) .
قالوا: وليتمسك بالكتاب والسنة في جميع تصرفاته الظاهرة والباطنة، فهذا أصل كل خير، ومنبع كل فضيلة (٢) .
فينبغي لحامل القرآن ومعلمه أن يكون ملتزمًا بالفرائض والواجبات، ومحافظًا على المندوبات بحسب الاستطاعة، مجتنبًا للمحرمات، مبتعدًا عن المكروهات بقدر الطاقة، سواء ما كان من ذلك بالقول أو الفعل، ظاهرًا وباطنًا.
وأن يكون مراقبًا لربه في سره وعلانيته، راجيًا ثوابه، خائفًا من عقابه، متأملًا في تصرفاته، محاسبًا نفسه على هفواته وزلاته، حريصًا على ما يصلح دينه، ويسدد نقصه، ويصلح خطأه قدر الإمكان (٣) .
ذكر الآجري بسنده عن ابن مسعود أنه قال: (ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، ونهاره إذا الناس مفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون) (٤) .
قال الآجري ﵀ (هذه الأخبار كلها تدل على ما تقدَّم ذكرنا له من أن أهل القرآن ينبغي أن تكون أخلاقهم مباينة لأخلاق من
_________
(١) انظر منجد المقرئين: ٥٨، وغيث النفع في القراءات السبع: ١٩.
(٢) غيث النفع: ٢٤.
(٣) المدارس والكتاتيب القرآنية وقفات تربوية وإدارية: ١٣.
(٤) أخلاق حملة القرآن: ٤٢.
1 / 16
سواهم ممن لم يعلم كعلمهم، إذا نزلت بهم الشدائد لجؤوا إلى الله فيها، ولم يلجؤوا فيها إلى مخلوق، وكان الله أسبق إلى قلوبهم، وقد تأدبوا بأدب القرآن والسنة، فهم أعلام يقتدى بفعالهم) (١) .
ومما ينبغي لمعلم القرآن الاعتناء به، المحافظة على تلاوة القرآن ومداومتها، دون الاكتفاء بالتسميع للطلبة عن المراجعة، وهذا من المواطن التي قد تقع فيها غفلة بعض المدرسين، بحيث يجتزئ بسماعه القرآن دون تلاوته هو له؛ مما يوقعه بشيء من هجر القرآن، ويترتب عليه ضعف محفوظه.
ذكر عبد الصمد بن يزيد البغدادي - خادم الفضيل بن عياض - أنه سمع الفضيل يقول: (أُنزل القرآن ليُعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملًا) (٢) .
وقال الحسن ﵀ (إن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه، وإن لم يكن يقرؤه) (٣) .
ومما يجب على المعلم أن يأخذ نفسه به، وينشِّئ طلبته عليه، البعد عن الأساليب المبتدعة في القراءة، التي أحدثت بعد القرون المفضلة، نحو قراءة القرآن بأصوات الغناء، أو بطريقة الترعيد، أو الترقيص، أو التطريب، أو باللحون الخاصة بالأعاجم، لأن القرآن عربي، فيسلك به مذاهب العرب في لحونهم ونغماتهم، أو التشبه بإيقاعات التراتيل الكنائسية، والأنغام اليهودية والنصرانية، فإن مطلق التشبه بهم حرام، فكيف به في هذا المقام؟
_________
(١) المصدر السابق: ٤٢ - ٤٣.
(٢) المصدر السابق: ٤٣.
(٣) فضائل القرآن لأبي عبيد: ٦٣.
1 / 17
ويحذر من الانزلاق إلى النُّواح حتى لا يتشبه بأهل النوح من الذين لا يؤمنون بقدر الله.
ويدخل في هذا النوع من الطرق المبتدعة مشابهة ألحان الروافض في نياحاتهم التي يقيمونها في عاشوراء، فإنها يجتمع فيها وصفان من الأوصاف المعتبرة في التحريم: أنها ألحان أعجمية، وأنها من ألحان أهل النوح (١) .
فإذا رُئي معلم القرآن يعتاد هذه الطرائق ويرغب فيها، فهو دليل على عدم اتباعه للقرآن، وانتفاعه به.
روى زياد بن لبيد الأنصاري قال: ذكر النبي ﷺ شيئًا، فقال: "وذاك عند أوان ذهاب العلم"، قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: "ثكلتك أمّك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء؟ " (٢) .
والمقصود من ذكر صفة التدين الصادق لمعلم القرآن، التنبيه على أن يواطئ قوله وعمله ما يحمل من كلام الله، ليكون القرآن العظيم حجة له، لا عليه، وليرفعه الله به، وينفع بتعليمه.
_________
(١) انظر جمال القراء وكمال الإقراء: ٢ / ٥٢٨ - ٥٢٩، والتمهيد في علم التجويد لابن الجزري:
٥٥ - ٥٧، ولطائف الإشارات لفنون القراءات: ١ / ٢١٨، وسنن القراء ومناهج المجودين: ٩٤، ٩٩.
(٢) رواه أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب العلم (٥٢): ١٥ - ١٦، وأحمد في المسند: ٤ / ١٦٠،
وابن ماجه (٤٠٤٨) في السنن: ٢ / ١٣٤٤.
1 / 18
٤ - حسن الخلق
إن من المبادئ المهمة التي ينبغي لمعلم القرآن أن يعتني بها، ويعرف حدودها وثمراتها الأخروية والدنيوية هو حسن الخلق، ويتأكد هذا الخلق في حقه من جانبين:
(أ) أنه من حملة كتاب الله، فهو حائز لهذا الإرث الشرعي، الذي كان خلقُ من نزل عليه ﷺ القرآن، وأثنى عليه ربه تعالى بأعظم خلة يتحلى بها بشر، فقال: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ (القلم:٤) .
(ب) أنه متصدر لتعليم الناس ومخالطتهم، وسينتج عن هذا التعليم وتلك المخالطة أمور ينبغي أن يقابلها بحسن المسايسة وتدبير الأمر لأن كل من خالط الناس وجد منهم ما يكره.
فلذلك لما بعث النبي ﷺ معاذًا إلى اليمن معلمًا لهم ومفقهًا وقاضيًا، أوصاه بقوله: (وخالق الناس بخلق حسن) (١)، (فإنه يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن، ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناس به، ولا يخالطهم، وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية، أو التقصير فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًا، لا يقوى عليه إلاّ الكمّل من الأنبياء والصدقيين) (٢) .
_________
(١) رواه أحمد: ٥ / ١٥٣، والترمذي عن أبي ذر (تحفة الأحوذي: ٦ / ١٢٢)، وغيرهما.
(٢) جامع العلوم والحكم لابن رجب: ١ / ٤٥٤.
1 / 19
وقد نبه العلماء المعلِّم على بعض الأخلاق التي ينبغي التحلي بها، ومنها: (ينبغي للمعلِّم أن يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها، والخلال الحميدة، والشيم المرضية التي أرشده الله إليها من الزهادة في الدنيا، والتقلل منها، وعدم المبالاة بها وبأهلها، والسخاء والجود، ومكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة، والحلم والصبر والتنزه عن دنيء الاكتساب، والسكينة والوقار، والتواضع والخضوع، واجتناب الضحك، والإكثار من المزح) (١) .
وذكر ابن جماعة من الآداب التي ينبغي للعالم أن يأخذ بها نفسه:
(معاملة الناس بمكارم الأخلاق من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وكظم الغيظ، وكف الأذى عن الناس، واحتماله منهم، والإيثار وترك الاستئثار، والإنصاف وترك الاستنصاف، وشكر التفضل (٢)، وإيجاد الراحة (٣)، والسعي في قضاء الحاجات، وبذل الجاه في الشفاعات، والتلطف بالفقراء، والتحبب إلى الجيران والأقرباء، والرفق بالطلبة، وإعانتهم وبرهم) (٤) .
وبهذه الخصال المحمودة، والصفات الجميلة يظهر أن لفظ (حسن الخلق) واسع المدلول، متعدد الجوانب والمظاهر.
وهذا الشمول الذي يحويه (الخلق الحسن) يعد من أبرز وسائل تقوية الروابط الاجتماعية بين المعلم والمتعلم، في حين أن سوء الخلق يؤثر في هذه
_________
(١) التبيان في آداب حملة القرآن: ٢٩.
(٢) أي: شكر صاحب الفضل والمعروف.
(٣) للمتعلم في تحصيله ودرسه، وفي مسكنه.
(٤) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم: ٢٣.
1 / 20