Orientalism and the Orientalists: Merits and Demerits
الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم
خپرندوی
دار الوراق للنشر والتوزيع
د خپرونکي ځای
المكتب الإسلامي.
ژانرونه
الاستشراق والمُسْتَشْرِقُونَ ما لهم وما عليهم
الدكتور مصطفى السباعي
دار الوراق للنشر والتوزيع - المكتب الإسلامي.
عدد الأجزاء: ١.
أَعَدَّهُ للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، غفر الله له ولوالديه.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 3
الاستشراق والمُسْتَشْرِقُونَ
(ما لهم وما عليهم)
الدكتور مصطفى السباعي
دار الوراق للنشر والتوزيع - المكتب الإسلامي
1 / 4
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإنَّ لمن المؤسف حقًّا أنْ يقف المسلم أمام تاريخه العظيم خجلًا، مُطأطئ الرأس، لا يدري كيف يوفِّقُ بين ما يعرفه عن تمسُّك الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - والتابعين وتابعيهم بهذا الدين، وتفانيهم في خدمته على كافة المستويات، وبين هذه الصورة القاتمة المظلمة في صفحات هذا التاريخ، فيقف هذا الموقف الذي لا يليق برجل العقيدة في حال من الأحوال.
والسبب في هذا - كما هو معلوم - أنه عبثت بتاريخنا أَيْدٍ خبيثة، ودوَّنتهُ أخرى غير أمينة، ولا يُراد من ذلك إلاَّ تشويه حقيقة تاريخ هذه الأُمَّة.
1 / 5
وتشكيكها في قدرتها على تأدية رسالتها، وحملها إلى البشر كلهم.
إننا حين نقرأ التاريخ الذي يتعلَّمه أبناؤنا، ويدرسونه في المدارس والجامعات، نرى - بوضوح - أثر هذه الحملة المسعورة ضد أمَّتنا المسلمة وتاريخها المُشرق، والذي رباهم المُسْتَشْرِقُونَ، وأرضعوهم من ألبانها، ونفثوا السموم في عقولهم حتى أصبحوا أدوات طَيِّعَةً في أيدي أسيادهم، يقولون بألسنتهم ما يشاءون، ويُنَفِّذون عن طريقهم كل ما يحلو لهم، ويمليه عليهم حقدهم الدفين.
ولنأخذ مثلًا على ذلك فترة الحُكم العثماني للوطن العربي، فنجد فيما يُحكَى عن هذه الفترة العجب العُجاب، فليس الأتراك المسلمون في نظر هؤلاء إلاَّ مُستعمرين لبلادنا مُمْتَصِّينَ لخيراتنا، وليست رابطة العقيدة التي حملوا لواءها إلاَّ قِناعًا، نَفَّذُوا من خلاله مآربهم وأطماعهم الاستعمارية.
وقد صوَّر لنا هؤلاء الحضارة الإسلامية تصويرًا كاذبًا مباينًا للواقع كل التباين، وما ذلك إلاَّ
1 / 6
ليُهَوِّنُوا من شأنها، ولِيَحْتَقِرُوا مُنجزاتها التي قدَّمتها للبشرية، ليهُون بعد ذلك الإسلام في نفوس أتباعه، وليحتقره أيضًا.
هذا ولم يقتصر اهتمام المُسْتَشْرِقِينَ والمستغربين على دراسة التاريخ الإسلامي وتشويهه، بل تعدَّاهُ إلى الدراسات الإسلامية من تفسير وحديث وفقه، فحرَّفُوا النصوص حينًا، وأساؤوا فهمها حين لم يجدوا المجال لتحريفها.
وإنه لمن المؤسف أيضًا أنْ تكون كتبهم قد بحثت في كل ما يتَّصل بالإسلام والمسليمن من تفسير وحديث وفقه وأدب وحضارة وسكان و...، فأصبحت كُتُبُهُمْ هذه المراجع الأولى لطلبة العلم المتخصصين في المعاهد والجامعات العالمية، وأصبح هؤلاء هم حملة آراء وأفكار أسيادهم كما تقدم.
لهذا كله - وغيره كثير - تصدَّى بعض علماء المسلمين الذين يغارون على هذا الدين وأُمَّة القرآن العظيم: تصدَّوْا لمحاولات المُسْتَشْرِقِينَ وفضحها وكشفها للناس على حقيقتها. هذه الرسالة - الصغيرة
1 / 7
في حجمها، العظيمة في معانيها - هي بعض ما كتبه والدي الشيخ مصطفى السباعي - طيَّب الله ثراه - حول هذا الموضوع، وكان ينوي توسيعه والزيادة فيه، لما لهذا البحث من أهمية بالغة وخطورة كبيرة.
وقد سبق أنْ نشرت بعض محتويات هذه الرسالة (١) في مجلة " حضارة الإسلام " وكتاب " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي "، وقد وافته المنية قبل أنْ يُحقِّق ما كان يأمله، فأصبحت أمانة في عنق العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، والغيورين عليها.
فرحمه الله رحمة واسعة، وأمطره سحائب الرحمة والرضوان، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.
حسان مصطفى السباعي
_________
(١) وقد طبعتها منفردة سَنَةَ ١٩٦٨ م مكتبة دار البيان - الكويت، من غير أنْ نعلم، وكم كنا نرغب إعلامنا بذلك، فإنَّ صاحب الشعور الطيِّب والرغبة الحسنة لا يَضُرُّهُ مثل هذا الإخبار.
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستشراق والمُسْتَشْرِقُونَ بحث لم يعن أحد من الكاتبين بأمرهما عناية علمية واسعة تبحث عن تاريخ الاستشراق وأهدافه ومراميه وحسناته وسيِّئاته، وعن المُسْتَشْرِقِينَ وطوائفهم وأعمالهم وما أصابوا وما أخطأوا فيه من أبحاث ومؤلفات، وكل ما كتب في هذا الموضوع لا يخلو عن أنْ يكون تمجيدًا لهم مثل كتاب " المُسْتَشْرِقُونَ " للأستاذ نجيب العقيقي، أو أنْ يكون كشفًا موجزًا عن أهدافهم التبشيرية والاستعمارية، وأهم بحث في هذا الشأن محاضرة قيِّمة للأستاذ محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية في الجامع الأزهر ألقاها في قاعة المحاضرات الكبرى الأزهرية.
وقد أفرط منا أناس في الثقة بهم والاعتماد
1 / 9
عليهم والثناء المطلق على جهودهم ويُمَثِّلُ هؤلاء المعجبين بهم الدكتور طه حسين من أوائل تلاميذ المُسْتَشْرِقِينَ في تاريخنا الأدبي المعاصر، حيث يقول في مقدمة كتابه " الأدب الجاهلي ":
«وكيف تتصوَّر أستاذًا للأدب العربي لا يلم ولا ينتظر أنْ يُلِمَّ بما انتهى إليه الفرنج (المُسْتَشْرِقُونَ) من النتائج العلمية المختلفة حين درسوا تاريخ الشرق وأدبه ولغاته المختلفة، وإنما يلتمس العلم الآن عند هؤلاء الناس، ولا بُدَّ من التماسه عندهم؛ حتى يتاح لنا نحن أنْ ننهض على أقدامنا، ونطير بأجنحتنا، ونسترِدَّ ما غلبنا عليه هؤلاء الناس من علومنا وتاريخنا وآدابنا».
ولا ريب في أنَّ هذا الكلام يمثِّل دورًا من أدوار العبودية الفكرية التي مررنا بها في مطلق نهضتنا العلميَّة والفكريَّة الحديثة، وهذا العبودية تتمثَّل في كتاب الدكتور طه حسين نفسه " الأدب الجاهلي " الذي كان ترديدًا مخلصًا لآراء غُلاة المُسْتَشْرِقِينَ المُتعصِّبين ضد العرب والإسلام أمثال «مارجليوث» الذي نقل آراء كلها في كتابه " الأدب
1 / 10
الجاهلي " ونسبها إلى نفسه وليس له في الكتاب رأي جديد نتيجة بحث عِلْمِيٍّ قام به أو تعب في سبيله.
ويمثِّل هؤلاء أيضًا الأستاذ أحمد أمين في كتابيه " فجر الإسلام " و" ضُحى الإسلام " وقد بيَّنتُ ما في فصل «الحديث» من كتاب " فجر الإسلام " من سرقة لآراء المُسْتَشْرِقِينَ دون أنْ ينسبها إليهم في كتابي الذي صدر حديثًا " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ".
ومن هؤلاء أيضًا الدكتور علي حسن عبد القادر في كتابه " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي " وهو ترجمة حرفية لما كتبه جولدتسيهر في كتابيه " دراسات إسلامية " و" العقيدة والشريعة في الإسلام " وكذلك كان كسابقيه غير أمين حين نسب هذه الآراء إلى نفسه ولم ينسبها إلى أساتيذه المُسْتَشْرِقِينَ.
والدكتور علي حسن عبد القادر يشغل الآن منصب - مدير المركز الثقافي الإسلامي بلندن على ما بلغني ولقد كانت لي معه قصة أجد من الخير ذكرها هنا، لما فيها من العبرة .. وهي التي كانت سببًا في تأليفي لكتاب " السُنَّة ومكانتها في التشريع
1 / 11
الإسلامي ". وقبل أنْ أروي قصَّتي معه أحب أنْ أعترف بفضله ودماثة خلقه واعترافه بالحق حين يظهر له ..
لما كنا طلابا في السَنَةِ الثانية والثالثة في قسم تخصص المادة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع «العالمية من درجة أستاذ» في كلية الشريعة، وكان ذلك عام ١٩٣٩، عيَّنت مشيخة الأزهر في عهد الشيخ المراغي ﵀، الدكتور علي حسن عبد القادر أستاذًا لنا يدرّس تاريخ التشريع الإسلامي، وكان قد أنهى دراسته في ألمانيا حديثًا، وهو مُجازٌ من كلية أصول الدين في قسم التاريخ، ومكث في ألمانيا أربع سنوات حتى أخذ شهادة الدكتوراه في قسم الفلسفة على ما أذكر.
كان أول درس تلقَّيناه عنه أنْ بدأه بمثل هذا الكلام:
«إني سأدرِّسُ لكم تاريخ التشريع الإسلامي، ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها، وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عامًا فلم أفهم الإسلام، ولكني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا»، فعجبنا - نحن الطلاب - من مثل
1 / 12
هذا القول وقلنا فيما بيننا: لنستمع إلى أستاذنا لعلَّه حقًا قد علم شيئًا جديرًا بأنْ نعلمه عن الإسلام مِمَّا لا عهد للأزهر به، وابتدأ درسه عن تاريخ السُنَّة النبوية ترجمة حرفية عن كتاب ضَخْمٍ بين يديه، علمنا فيما بعد أنه كتاب جولدتسيهر «دراسات إسلامية» وكان أستاذنا ينقل عبارته ويتبنَّاها على أنها حقيقة علميَّة، واستمر في دروسه نناقشه فيما يبدو لنا - نحن الطلاب - أنه غير صحيح، فكان يَأْبَى أنْ يخالف جولدتسيهر بشيء مِمَّا ورد في هذا الكتاب، حتى إذا وصل في دروسه إلى الحديث عن الزُهْرِي، واتِّهامه بوضع الأحاديث للأمويين، ناقشتُهُ في ذلك - بحسب معلوماتي المُجْمَلَة عن الزُهْرِي من أنه إمام في السُنَّة، وموضع ثقة العلماء جميعًا - فلم يرجع عن رأيه، مِمَّا حملني على أنْ أطلب منه ترجمة ما قاله جولدتسيهر عن الزُهْرِي تمامًا، فترجمه لي في ورقتين بخط يده، وبدأت أرجع إلى المكتبات العامَّة للتحقيق في سيرة الزُهْرِي وفي حقيقة ما اتَّهَمَهُ به هذا المستشرق. ولم أترك كتابًا مخطوطًا في مكتبة الأزهر وفي دار الكتب المصريَّة من كتب التراجم إلاَّ رجعت إليها ونقلت منها ما
1 / 13
يتعلق بالزُهْرِي، واستغرق ذلك ثلاثة أشهر كنت أشتغل فيها منذ مغادرتي كلية الشريعة بعد الدرس حتى أواخر الليل، فلما تجمَّعت لدي المعلومات الصحيحة، قلت لأستاذنا الدكتور عبد القادر: لقد تبيَّن لي أنَّ جولدتسيهر قدر حَرَّفَ نصوص الأقدمين فيما يتعلق بالزُهْرِي، فأجابني بقوله: لا يمكن هذا؛ لأنَّ المُسْتَشْرِقِينَ - وخاصة جولدتسيهر - قوم علماء منصفون لا يحرّفون النصوص ولا الحقائق! ..
عندئذٍ أزمعت على إلقاء محاضرة في الموضوع في دار جمعية الهداية الإسلامية - قرب سراي عابدين قديمًا - وأرسلتْ إدارة الجمعية بطاقات الدعوة لهذه المحاضرة إلى علماء الأزهر وطلاَّبه، فاجتمع يومئذ عدد كبير منهم ما بين أساتذة وطلاب، ومن بينهم أستاذنا الدكتور عبد القادر - الذي رجوته حضور هذه المحاضرة، وإبداء رأيه فيما أقول، فتفضل مشكورًا بالحضور، وأصغى إلى المحاضرة كلها التي كانت تدور حول ما كتبه جولدتسيهر عن الإمام الزُهْرِي، وختمتها بقولي: هذا هو ما أراه في هذا الموضوع، وهذا هو رأي علمائنا في
1 / 14
الزُهْرِي، فإنْ كان لأستاذنا الدكتور عبد القادر مناقشة حول الموضوع إنْ لم يقتنع بما ذكرته، فأرجو أن يتفضل بالكلام، فنهض الدكتور - حَفِظَهُ اللهُ -، وقال بصوت سمعه الحاضرون جميعًا: إني أعترف بأني لم أكن أعرف من هو الزُهْرِي حتى عرفته الآن، وليس لي اعتراض على كل ما ذكرته، وانفضَّ الاجتماع، ثم دخلنا غرفة الأستاذ السيد محمد الخضر حسين ﵀ رئيس الجمعية الأستاذ الأكبر للجامع الأزهر فيما بعد - فكان مِمَّا قاله أستاذنا الدكتور - حَفِظَهُ اللهُ -، - وكان ذلك بحضور السيد الخضر حسين ﵀: إنَّ بحثك هذا فتح جديد في بحوث المُسْتَشْرِقِينَ، وأرجو أنْ تعطيني نسخة من هذه المحاضرة لأبعث بها إلى المجلاَّت العلميَّة التي تُعْنَى ببحوث المُسْتَشْرِقِينَ في ألمانيا، وإني أعتقد أنها ستحدث دَوِيًّا في أوساط المُسْتَشْرِقِينَ، فشكرته على ذلك واعتبرته تشجيع أستاذٍ لتلميذه.
وبعد أيام دعاني لزيارته في البيت، فكان مِمَّا اتفقنا عليه أنْ نتفرغ معًا في الصيف لترجمة كتاب
1 / 15
جولدتسيهر والرَدِّ عليه، ولكني اعتقلت بعد ذلك من قبل السلطات العسكرية الإنجليزية في القاهرة في بدء قيام الحرب العالمية الثانية وأقصيت عنها سبع سنوات، وفي خلال هذه الفترة أصدر الدكتور عبد القادر كتابه " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي " ولم يتح لي الاطلاع عليه إلاَّ بعد ثلاث سنوات حين أفرج عنِّي في أواسط الحرب الأخيرة.
هذه قصتي مع الدكتور علي حسن عبد القادر وهي التي كانت سببًا في تأليف هذا الكتاب. لم أجد مانعًا من ذكرها لما فيها من العبرة، وأظن أن الدكتور عدل عن رأيه السابق في المُسْتَشْرِقِينَ وخاصة جولدتسيهر، وبدَّلَ رأيه في أمانته وإخلاصه للحق وعدم تحريفه للنصوص.
ويقابل هذا الاتجاه المفرط في الثقة ببحوث المُسْتَشْرِقِينَ اتجاه يحمل على المُسْتَشْرِقِينَ واتجاهاتهم المغرضة المفرطة في التعصُّب، ويُمَثِّلُهُ قول أحمد فارس الشدياق في كتابه " ذيل الفارياق ": «إنَّ هؤلاء الأساتيذ (المُسْتَشْرِقِينَ) لم يأخذوا العلم عن شيوخه، وإنما تطفَّلُوا عليه تطفُّلًا، وتوثَّبُوا فيه توثُّبًا، ومن تَخَرَّجَ فيه بشيء فإنما تَخَرَّجَ على القسس، ثم أدخل رأسه في أضغاث أحلام، أو
1 / 16
أدخل أضغاث أحلام في رأسه، وتوهَّمَ أنه يعرف شيئًا وهو يجهله، وكل منهم إذا درس في أحدى لغات الشرق أو ترجم شيئًا منها تراه يخبط فيها خبط عشواء، فما اشتبه عليه منها رقعه من عنده بما شاء، وما كان بين الشبهة واليقين حدس فيه وخَمَّنَ فرجَّح منه المرجوح، وفضَّل المفضول».
وفي الحق أنَّ كلًا من الثناء المطلق والتحامل المطلق يتنافى مع الحقيقة التاريخية التي سجَّلها هؤلاء المُسْتَشْرِقُونَ فيما قاموا به من أعمال، وما تطرَّقوا إليه من أبحاث، ونحن من قوم يأمرهم دينهم بالعدل حتى مع أعدائهم ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (١).
تاريخ الاستشراق:
لا يعرف بالضبط من هو أول غربي عني بالدراسات الشرقية ولا في أي وقت كان ذلك ولكن المؤكَّد أنَّ بعض الرهبان الغربيِّين قصدوا الأندلس في إبَّان عظمتها ومجدها، وتثقَّفُوا في مدراسها، وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف
_________
(١) [المائدة: ٨].
1 / 17
العلوم وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات ..
ومن أوائل هؤلاء الرُهبان، الراهب الفرنسي «جربرت» Jerbert الذي انتخب بَابَا لكنيسة روما عام ٩٩٩ م بعد تعلُّمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، و«بطرس المحترم» ١٠٩٢ - ١١٥٦ Pierre Aénéré و«جيرار دي كريمون» ١١١٤ - ١١٨٧ Gérard de Grémone .
وبعد أنْ عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلَّفات أشهر علمائهم، ثم أسست المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة «بادوي» العربية، وأخذت الأديرة والمدارس العربية تدرس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية - وهي لغة العلم في جميع بلاد أوروبا يومئذٍ - واستمرَّت الجامعات العربية تعتمد على كتب العرب وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسة قرابة ستة قرون.
ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللغة العربية، وترجموا القرآن وبعض الكتب العربية العلميَّة والأدبية، جتى جاء القرن الثامن عشر - وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار
1 / 18
العالم الإسلامي والاستيلاء على ممتلكاته فإذا بعدد من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق، ويصدرون لذلك المجلاَّت في جميع الممالك الغربية، ويغيرون على المخطوطات العربية في البلاد العربية والإسلامية، فيشترونها من أصحابها الجهلة، أو يسرقونها من المكتبات العامة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم، وإذا بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنتقل إلى مكتبات أوروبا، وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمسين ألف مجلدًا، وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام ١٨٧٣، وتتالى عقد المؤتمرات التي تلقى فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضارته وما تزال تعقد حتى هذه الأيام.
ميدان الاستشراق:
بدأ الاستششراق كما رأينا بدراسة اللغة العربية والإسلام، وانتهى - بعد التوسع الاستعمارري الغربي
1 / 19
في الشرق - إلى دراسة جميع ديانات الشرق وعاداته وحضارته وجغرافيته وتقاليده وأشهر لغاته، وإنْ كانت العناية بالإسلام والآداب العربية والحضارة الإسلامية هي أهم ما يعنى به المُسْتَشْرِقُونَ حتى اليوم؛ نظرًا للدوافع الدِّينِيَّةِ والسياسية التي شجعت على الدراسات الشرقية كما سنذكره فيما بعد.
دوافع الاستشراق:
١ - الدافع الديني:
لا نحتاج إلى استنتاج وجهد في البحث لنتعرف إلى الدافع الأول للاستشراق عند الغربيِّين وهو الدافع الديني. فقد بدأ بالرهبان - كما رأينا - واستمر كذلك حتى عصرنا الحاضر - كما سنرى - وهؤلاء كان يهُمُّهُمْ أنْ يطعنوا في الإسلام ويُشَوِّهُوا محاسنة ويُحَرِّفُوا حقائقه ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدِّينِيَّةِ أنَّ الإسلام - وقد كان يومئذٍ الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيِّين - دين لا يستحق الانتشار، وأنَّ المسلمين قوم هُمَّجٌ لصوص وسفَّاكُو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية، ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي. ثم اشتدَّتْ حاجتهم إلى هذا الهجوم في
1 / 20
العصر الحاضر بعد أنْ رأوا الحضارة الحديثة قد زعزعت أسس العقيدة عند الغربيِّين، وأخذت تشكُّكَهُم بكل التعاليم التي كانوا يتلقونها عن رجال الدين عندهم فيما مضى، فلم يجدوا خيرًا من تشديد الهجوم على الإسلام لصرف أنظار الغربيِّين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدسة، وهم يعلمون ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى ثم الحروب الصليبية ثم الفتوحات العثمانية في أوروبا بعد ذلك في نفوس الغربيِّين من خوف من قوة الإسلام وكرهٍ لأهله، فاستغلُّوا هذا الجو النفسي، وازدادوا نشاطًا في الدراسات الإسلامية.
وهناك الهدف التبشيري الذي لم يتناسوه في دراساتهم العلميَّة، وهم قبل كل شيء رجال دين، فأخذوا يهدفون إلى تشويه سُمعة الإسلام في نفوس رُواد ثقافتهم من المسلمين؛ لإدخل الوهن إلى العقيدة الإسلامية، والتشكيك في التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية وكل ما يتَّصل بالإسلام من علم وأدب وتراث.
٢ - الدافع الاستعماري:
لما انتهت الحروب
1 / 21