على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار
على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار
خپرندوی
دار الملتقى للطباعة والنشر والتوزيع
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٣٢ هـ - ٢٠١١ م
د خپرونکي ځای
سورية
ژانرونه
رسائل في فلسفة الحضارة
على عتبات الحضارة
بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار
تأليف
د. بتول أحمد جندية
إهداء إلى الهداة المهديين .. نجوم هذه الأمّة في الليالي المدلهمّة وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر!!
التصنيف والرقم الموضوعي: فلسفة الحضارة ٩٠١ العنوان: على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار المؤلف: د. بتول أحمد جندية عدد الصفحات: (١٠٩)، قياس: ١٤ ×٢٠ الإخراج الفني وتصميم الغلاف: د. بتول جندية الرقم الدولي: ... ISBN ... ٩٧٨٩٩٣٣٩٠٥٠٣٣ الطبعة الأولى: ٢٠١١م - ١٤٣٢هـ حقوق الملكية محفوظة للمؤلفة ويُرحب بنشر الكتاب وتصويره بإذن منها ويمكن الحصول على نسخة إلكترونية مجانية من موقع الكتاب: www.lets-rise.com سورية - حلب - طلعة الجامعة هاتف: +٩٦٣٢١ - ٢٢١٤٩٦٧ تلفاكس: +٩٦٣٢١ - ٢٢٨٩٣٤١ www. dar-almultaka.net E-mail: info@dar-almultaka.net
إهداء إلى الهداة المهديين .. نجوم هذه الأمّة في الليالي المدلهمّة وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر!!
التصنيف والرقم الموضوعي: فلسفة الحضارة ٩٠١ العنوان: على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار المؤلف: د. بتول أحمد جندية عدد الصفحات: (١٠٩)، قياس: ١٤ ×٢٠ الإخراج الفني وتصميم الغلاف: د. بتول جندية الرقم الدولي: ... ISBN ... ٩٧٨٩٩٣٣٩٠٥٠٣٣ الطبعة الأولى: ٢٠١١م - ١٤٣٢هـ حقوق الملكية محفوظة للمؤلفة ويُرحب بنشر الكتاب وتصويره بإذن منها ويمكن الحصول على نسخة إلكترونية مجانية من موقع الكتاب: www.lets-rise.com سورية - حلب - طلعة الجامعة هاتف: +٩٦٣٢١ - ٢٢١٤٩٦٧ تلفاكس: +٩٦٣٢١ - ٢٢٨٩٣٤١ www. dar-almultaka.net E-mail: info@dar-almultaka.net
ناپیژندل شوی مخ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لله الحمد أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، معلّمِ الإنسان ما لم يعلم، مَن نثرَ له في ملكوته علامات تهديه، وسننًا ترشده، والله بها غير ملزَم. والصلاة والسلام على هادي الهداة، وحاديهم إلى الخير، ومصلح الإنسانية الأعظم.
تظلّ الظاهرة الحضارية أضخم إنجازات الكائن البشري وأخطرها، ولأجل ذلك وقف منها موقفين متباينين: الرهبة والعجز، أو التفهم والتخطيط. وتحاول هذه الدراسة، مستعينة بالتكثيف، أن تبرهن أن الموقف الثاني هو الخيار الصحيح، وأن الظاهرة الحضارية، على خطرها، فعل إنساني، وأن لها نظامًا مطّردًا، وسننًا إلهية قابلة للتحليل والفهم والتسخير.
تنتمي هذه الدراسة إلى "فلسفة الحضارة"، وهي تعالج قضايا كلية تتعلق بقوانين الحضارة، وسنن وجودها وحركتها وتطورها
1 / 7
وانطفائها في علاقتها بالمتغيّر البشري، كما تهتم بتحديد مفهوم الحضارة، وتبحث في قضية الدور الحضاري، وشروط تخلق الظاهرة الحضارية وانهيارها.
تسعى الدراسات الحضارية اليوم إلى تصدر قائمة اهتمامات المفكرين العرب، فبعد قرن كامل من التجريب وجدت الأمة أن الحصيلة عاجزة عن أن تقدم إجابات جوهرية فيما يتعلق بقضية النهوض الحضاري، وتفسير العلل الحقيقية وراء المأزق الذي تعيشه هذه الأمة، بالإضافة إلى أن سلسلة التجارب الفاشلة، والانكسارات المتلاحقة، وما كرسته من خيبات، أفقدت الثقة في الاجتهادات التي قُدِّمت، والاختبارات التي تم تطبيقها!! وتحاول هذه الدراسة مواجهة الظاهرة الحضارية في ذاتها بالتجرد عن سلطان المأزق الذي يوجه الدراسات العربية غالبًا ويقودها في المسار الخاطئ، لأن الأزمات الحضارية تعرض تجليات خادعة لحقيقتها، وإشكالياتُها تنبع من صميم قانون التخلّق الحضاري، وتقدّم غير شروطه، فما يكون علة يصير نتيجة، وتنعكس المعادلة في المنقلب!
يمكن وصف هذه الدراسة بأنها عتبة للدخول إلى عالم الحضارة الرحب، وأسهم دالّة إلى قوانينها الكبرى، وخطوة أولى في مشروع ضخم آمل - بعون المولى - تمامه. وقد تمّ إنجاز هذه الدراسة مع مطلع عام ٢٠٠٩، ولم يُيسَّر لي نشره إلا اليوم، وقد تهيّأ لي خلال هذه المدة أن أنجز حلقة أخرى في هذه السلسلة هي بحث علمي محكّم (١)
_________
(١) البحث بعنوان: الانحطاط وأزمة الفعالية - تنقيب عن العلل والآثار. منشور في مجلة بحوث جامعة حلب، العدد ٦٨، لعام ٢٠١٠.
1 / 8
حاولت فيه الاستعانة بهذه القوانين للكشف عن أسباب انهيار الحضارة الإسلامية، وملابسات انحطاطها منذ هجمة المغول وحتى سقوط الخلافة. وتأتي أهمية نتائج هذين البحثين من استجابتهما لمتطلّبات المرحلة الحضارية التي تعيشها هذه الأمة المتحرّقة إلى ما ينتشلها من وهدة الانحطاط التي علقت فيها، وأضاعت السبيل إلى ذلك، فتواكلت على الأسباب المفقودة، وغفلت عن خزّان طاقتها الولودة، وأقعدتها آلامها والمحن، ناسية أن لا شيء يجعلنا أقوياء مثل الألم.
تفيد الدراسة من كثير من النظريات والآراء المتوافرة فيما يتعلق بقضية الحضارة، إلا أنها تقدم تصورها الخاص الذي لا يهتم بتبرير أي من تلك الآراء، وإنما تستعين في تقديم رؤيتها بالتواصل المباشر مع أحداث التاريخ، والغوص في عمق الظواهر الاجتماعية والثقافية، وقراءة التجارب الحضارية المتنوعة، لا سيما الإسلامية والغربية واليابانية .. من دون الوقوع في أسر إحداها، لأن غايتها الكشف عن القوانين المطلقة التي تحكم الحركة التاريخية في التجارب الحضارية المختلفة ومهما تباينت مقولاتها الفكرية، ولأن غرضها أن تكون مرجعية عامة لفكر النهضة؛ عربيًا وإسلاميًا، وحجة ملزِمة لفرقاء الأمة مهما اختلفت مشاربهم واتجاهاتهم، بيد أن ما جاء فيها لا يخرج عن السنن الإلهية المنثورة في كتاب الله تعالى، وقوانينه الكونية التي لا تتخلّف. ولأجل ذلك حرصت الدراسة على
1 / 9
عدم الانفصال عن الواقع الحي والمراقبة الدقيقة له؛ لئلا تتورط في مزالق المثالية أو التصورات النظرية القبلية.
وقد استعانت الدراسة من أجل تحقيق هذه الأغراض بالتكثيف لضبط حدود البحث، ولذلك فهي تُعنى باستخلاص القوانين والكليات في المتن، وتترك الأمثلة والتوضيحات للحواشي إلا إذا دعت ضرورة للخروج عن هذا النسق.
وبعد .. فلا يسعني إلا أن أحمد الله جل ثناؤه لما أفاض عليّ من تيسيره، وأيّدني به من هدايته، وأنعم عليّ من أسباب خدمة هذه الأمة العظيمة بعلم أو عمل، راجية أن يتجاوز عني أسوأ عملي، وأن يقيل ضالّ علمي، وأن يقبله مني خالصًا لوجهه الكريم.
بتول
1 / 10
امتحان المفاهيم
الزمن، التاريخ، الحركة، التطور، الأمة، الثقافة، الحضارة، المدنية، الدولة، النهضة .. مجموعة من المصطلحات والمفاهيم تُقدَّم من خلالها فلسفة الحضارة، وتشترك في التعبير عن الحركة المتعلقة بكل من المتغيِّرَين الزمنيّ والبشريّ في صورتهما الجماعية لا الفردية. ومع أن هذا الاشتراك يسمح بشيء غير يسير من التداخل والخلط الطبيعيين، فإن تمايزًا ما ينبغي أن يلحظ ويولى من العناية ما يستحق لتفادي ما قد يجر إليه الخلط من نتائج مغلوطة في أي مشروع جاد للكلام على الحضارة تنظيرًا وتخطيطًا وتوجيهًا.
الزمن هو الفضاء الذي تتحقق فيه الظاهرة التاريخية، وفي أفق قوانينه تتخلق الحضارة. والتاريخ هو الخط البياني لسيرورة الزمن، وهو خزّان الأحداث الماضية؛ ما كان، وقانون ما سيكون، فالتاريخ؛ قانونًا، يتحقّق في صورة التاريخ؛ أحداثًا؛ أي التاريخ/العبرة. والحركة صفة ملازمة للزمن ومنعكسة على الوجودَين المادي والمعنوي، وتتحقق في مستويين: عامٍّ قاهر ذي اتجاه حتمي، وخاص متفاوت فردي أو جماعي. والتطور تقويم نسبي للحركة.
وداخل رحلة الزمن يتحقق الوجود الإنساني الجماعي من خلال مفهوم الأمة، والأمة هي التعيُّن الحيويّ لقيم كلية جماعية، وتجسيد إنساني لموقف خاص واحد من الوجود والحياة، تتبناه مجموعة بشرية، ويُعبَّر عنه بكلمة "ثقافة"، والثقافة علامة فارقة على كل تجمع بشري متماسك (مجتمع، أمة)، وهي في الوقت نفسه صانعة لهذا المجتمع ومانحة له هويته وتماسكه. ويبدو أن لقب الحضارة هو وصف قيمة
1 / 11
يُطلَق على ثقافة ما أو أمة من الأمم لتمايز نوعي في طبيعة قيمها ووجودها المادي والمعنوي، وقوة تأثيرها في محيطها. وعندما يغدو هذا التمايز كميًا فإن الحضارة تدخل في طور المدنية، فالمدنيّة مرحلة من مراحل الحضارة، وليست هي الحضارة، وإذا كان الغالب في الحضارة أن تكون روحية بمعنى قيميّة، أو مبدئية، فإن المدنيّة تكون في الغالب مادية نفعية. والدولة هي أداة من أدوات تحقق الحضارة وهي المظهر السياسي لها، وليست هي الأمة، ولا فيها تختصر الحضارة (١).
إن مصطلح النهضة هو - لا شك - منبئ عن مرحلة لاحقة للسقوط، أي هي مرحلة من مراحل الحضارة تعقب الضعف والانحلال، وجمرة توقّد لبعثها من جديد، ولكنها غير لازمة، وإنما هي خيار بشري ومظهر لإرادة تحرير جبارة.
لقد جر الخلط بين "الزمن" و"الحضارة" إلى الجبرية وتعطيل الإرادة البشرية، وافتراض عدم القدرة على مواجهة حركة الزمن القاهرة. ذلك كما الخلط بين "التاريخ" و"الحضارة"، إذ إن أحداث "التاريخ" ليست صورًا آلية قابلة للاستعارة والنسخ، وإنما هي نماذج وعلامات على قوانين كلية داخلية قابلة للفهم والحوار والتوظيف. ولمّا ذابت الحدود بين "الثقافة" و"الحضارة" ولد الفكر الاستعماري، أو
_________
(١) قد يبرز التعيّن المادي للأمة في بعض النماذج الحضارية في شكل الدولة نفسها، كما هو الحال في مفهوم المواطنة في الدول الغربية الحديثة، ولكن هذا لا يلغي أن الغرب بمختلف دوله وولاءاته القومية، يخضع لنموذج حضاري واحد يستمد منه مقولاته الكلية ومرجعياته المشتركة.
1 / 12
على العكس انحطت الهمم وانعدم الطموح، ورضي الضعيف بفتات الحضور الحضاري. وأيضًا فإن اختصار "الحضارة" في المرحلة "المدنية" هو استسهال وانخداع بظاهر الأمور وانبهار بالنتائج وغفلة عن الأسباب والمحرِّك والشروط. وعلى الرغم من التطابق الظاهر بين دواعي الانبعاث الحضاري الأولي، وشروط النهوض الانعكاسي، فإن التعقيد والاضطراب الغالبين على مرحلة النهوض يثيران إشكاليات مرحلية حرجة لا تثيرها بساطة الانبعاث الأولي. والوعي بخصوصية المرحلة من أول مبررات النجاح أو الفشل في أي مشروع نهضوي.
1 / 13
اتجاه الزمن وتقويم الحركة
تتفاوت آراء فلاسفة التاريخ في تحديد اتجاه حركته، وتقويمها، فرأي مال إلى الاعتقاد بالتقدم الصاعد (١)، وأن الإنسانية تتجه عن طريق التراكم إلى تطور متتابع صاعد، وأن الجديد يفْضُل القديم لزومًا.
وقد أسهم هذا الرأي في إثارة إشكاليات الحضارة العالمية أو العولمة، وقضية التراث والمعاصرة، وصراع القديم والجديد، بحسم مبدئي لصالح الجديد والمعاصر، بما أن الإنسان كلما كبر ازداد علمًا وحكمة، وكذلك هي الإنسانية في حركتها التاريخية! لا نختلف في أن التراكم برهان ممكن لقياس التطور، إلا أنه مقياس كمي صامت عن أية دلالة نوعية، إذ إن المتأخر لا يتبنى كل ما جاء به المتقدم، والتراكم بحد ذاته هو فعل طبيعي لا
_________
(١) تبنّى هذا الرأي فلاسفة اليونان قديمًا، وبيكون وديكارت من بعدهم، وهذا التوجه هو الذي مهّد لفكرة التطور الديالكتيكي بصورتيها؛ المثالية، والمادية، وقد كان لآراء داروين في التطور الطبيعي والبقاء للأصلح أثر كبير في تعزيز الثقة بالتطور الصاعد، الذي تمثل عند نيتشه في فكرة السوبرمان، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص ١٤٦، ١٥٢. كما أن نفوذ هذا الاتجاه قد اتسع مع ضغط العولمة، وسيطرة المركزية الغربية، واعتبار الغرب القمة التي استطاعت الإنسانية أن تبلغها في مسيرتها التاريخية، ينظر: نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، ص٤٠. ويلتقط أدونيس هذا الموقف ويصير من أهم المروجين لنظرية التطور الصاعد في الحقل الأدبي، وسيكون لتنظيراته المستندة إلى هذا الوعي أثرها في تحديد مفهوم الحداثة والموقف من التراث، يقول: "إن الوضع الجديد متقدم، نوعيًا، في حركته العامة، على الوضع الماضي"، أدونيس، علي أحمد سعيد: الثابت والمتحول، ٣/ ٥٦.
1 / 15
بشري، على الرغم من أنه يتحقق بمسبِّب بشري، أما الفعل البشري والحضاري الحق فهو "الاختيار"، والاختيار فعل نفي وإثبات مفتوح المصادر يخضع لمؤثرات متنوعة؛ بيئية وذاتية وضرورية، قديمة وحديثة على السواء، وينتقي من مجمل المتراكم عبر الزمن والتاريخ. ومن إيجابيات التراكم أنه يقدم "للاختيار" مساحة أوسع من التجارب والخبرات، ولكن من طبائع النوع البشري المؤسفة أنه لا يتعظ بالتجارب السابقة ولا بخبرات الآخرين إلا بقدر ما يعتقد ويرغب، أما قيمة الخيار الناجم عن فعل الاختيار البشري فهي أمر نسبي خاضع لاعتبارات خاصة ومتغايرة تنفي إمكانية الحسم القبلي سلبًا أو إيجابًا. ومما يشهد بعدم تلازم قيمتي التطور والتراكم ما يقدمه التاريخ من نماذج متكررة لحضارات تسلم نفسها إلى الانطفاء بعد أن تبلغ قمة عطائها وتفوقها، وحضارات تتجاهل مقومات تحضّر سابقة وتهملها (١)، ولهذا فلا يصح اعتماد التراكم برهانًا على التطور أو الجزم بحركة الزمن التصاعدية، لأن كل حضارة هي كائن فريد لا يتكرر، على الرغم من أنه يستفيد بهذا القدر أو ذاك من مخزون التجارب السابقة، ولأن الفكرة تلد نقيضها في دورة غير منتهية (٢).
_________
(١) زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص١٧١.
(٢) كهذا الـ"تعاقب التهكمي الساخر الذي ذكره أفلاطون، وهو تعاقب الملكية، فالأرستقراطية، فالديموقراطية، فالدكتاتورية، فالملكية"، ديورانت، ول: قصة الحضارة، ٣٢/ ٢٣ .. إذ هو نموذج لتحقق قانون التداول أو الجدل في المجال السياسي، ومن أعجب العجب ذلك النموذج الاجتماعي لقانون التداول؛ حيث يرتد قبيل من أبناء الغرب وثقافة الحريات إلى ظاهرة العبودية؛ يروجون لها، وينشرونها، ويطلبون لها الشرعية؛ في الدورين: سادة وعبيد، لتتحول إلى تجارة رائجة تجد لها مسوّقيها وعملاءها وبضاعتها وطقوسها، وهي تقوم على التفاهم بين الطرفين، لا الإكراه، في كثير من الأحيان!!! يساعد البحث في Google باستخدام الكلمة المفتاح Bondage في توفير مادة غنية عن هذا الموضوع.
1 / 16
وفي مقابل نظرية التقدم الصاعد، ولدت نظريات يغلب عليها التشاؤم والعبثية والاستلاب، كالرأي القائل بالتأخر والنكوص والعودة إلى البدائية (١)، أو بالعشوائية ونفي النظام (٢)، أو بالانقطاع التاريخي (٣). وتبقى نظرية الدورات المتكررة (٤)
هي التفسير الأسلم
_________
(١) ويسيطر هذا الرأي في عصور الاضطراب والانحطاط حين يسود الشك واليأس، ولكثير من الأعلام أقوال تصب في هذا الاتجاه، ولعل روسو من أبرز المبشرين به، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص١٥٥.
(٢) ويعد فيشر المؤرخ الإنكليزي من أهم الدعاة والمؤمنين بهذا الرأي، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص١٤٧ - ١٤٨.
(٣) مؤدّى نظرية الانقطاع التاريخي هو نفي التراث التاريخي لجماعة من البشر، وإعادة هيكلتهم وفقًا لمعايير الترشيد والتحديث. ينظر: حبيب، رفيق: تفكيك الديموقراطية، ص٦٤ وما بعد، ٨٤ وما بعد.
(٤) للزمن حركتان - كما قلنا - كلية وجزئية، والحركة الكلية هي حركة التاريخ العام، وهي في الفهم الإسلامي تحديدًا، ذات اتجاه دائري يبدأ من مصدر واحد مطلق؛ هو الله تعالى، وإليه ينتهي. كما أنها حركة قهرية لا تدخل في حيز الإرادة الإنسانية، أما الحركة الجزئية فهي دورية، أي إن القيم فيها متبدلة على خط الزمن العام، وبالإمكان أن ترجع إلى لحظة السكون التي انطلقت منها، في حين أن خط الزمن العام لا يحمل قيمًا في ذاته وحركته ماضية بغض النظر عن القيم المتبدلة على جانبيه (ينظر المخطط رقم١).
المخطط رقم (١)
وهذا الوصف يقترب من تشبيه توينبي لحركة الحضارة بدوران العجلة حول محور ثابت، إذ هو يعقّب شارحًا: "ولعل هذا التجانس في الحركتين المتباينتين - حركة رئيسة لا يأتيها الباطل، نشأت على أجنحة حركة متكررة أقل شأنًا - هو جوهر ما نقصده بكلمة "الإيقاع"." ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، ١/ ٤٢٥.
1 / 17
والأكثر استيعابًا لحقائق التاريخ، وكان ابن خلدون واحدًا ممن قالوا بها وتابعه فيها بعض من فلاسفة الحضارة الغربيين (١) وطوروها من بعده، وهي في الوقت نفسه شرح لقانون التداول (٢) الذي ورد في القرآن الكريم، والسنة التي أعلن الله تعالى أنها ماضية في الأمم، إذ قال: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (آل عمران/١٤٠)، وكثير من الآيات
_________
(١) من أولئك شاتوبريان، وإشبنجلر، وتوينبي، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص١٥٩ - ١٦٢.
(٢) ونلمح هذا الإسقاط الدوري على أحداث التاريخ في قصيدة أبي البقاء الرندي:
لكل شيء، إذا ما تمّ، نقصان ... فلا يُغَرَّ بطِيبِ العيش إنسانُ
هي الأمورُ، كما شاهدتَها، دُوَلٌ ... من سرّه زمنٌ ساءته أزمان
ينظر: محمد، سراج الدين: موسوعة روائع الشعر العربي، الرثاء ٧/ ٥٧.
1 / 18
القرآنية تثبت المسار الدائري لحركة الوجود؛ الكلية والجزئية في المصدر والمآل والاتجاه، من ذلك قوله تعالى: "وإن عدتّم عدنا" (الإسراء/٨)، وقوله: "فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلا" (فاطر/٤٣). ترى نظرية الدورات المتكررة أن التاريخ يتحرك حركة دورية يكشف تكرارها عن قوانينَ دائبةٍ وسنن ماضية تخضع لها الحركة، ونظامٍ مضبوط يوجه مسارها، ومحطاتٍ متكررة تقف عندها الحضارات لزامًا، وإذا كان التراكم هو معيار التقدم الصاعد في النظرية السابقة، فإن التشابه هو معيار التكرار وضابط الحركة في هذه النظرية.
ولكن .. لمَ نرى أن هذه النظرية تفوق سابقاتها في الإصابة، وأنها جديرة بالتبني؟ الجواب أن قيمة هذه النظرية تتأتّى، في نظرنا، من اشتمالها على قيم ومبادئ ضرورية لامتلاك تصور إيجابي يوقن بالقدرة على السيطرة على التاريخ وتوجيهه، وبناء منظومة فكرية فعالة فيما يتعلق بتفسير الظاهرة الحضارية والانخراط في أي مشروع نهضوي، ويمكن أن نوجز تلك القيم في النقاط الآتية:
- استبعاد الحكم المبدئي بالقيمة الذاتية للحركة، فالحركة قد تكون نكوصًا وتقهقرًا إلى الخلف، كما تكون تقدمًا وتطورًا، والحكم عليها نسبي بحسب المرجعيات والمعايير والمتغيرات.
- للحركة قانون ونظام يمكن أن يستنبطا من مراقبة التجارب الإنسانية والحضارية السابقة، ولها سنّة ماضية على وتيرة متوقعة تسمح برصد آخرها وتوقع النتائج من خلال استقراء المقدمات والتدقيق في الإرهاصات، وهذا يعني إمكانية التخطيط
1 / 19
للمستقبل (١)، وفعالية التأثير في الواقع. فالتاريخ يعيد نفسه من خلال انتظام القوانين، ولا يعيد نفسه في الأحداث التاريخية نفسها (٢).
- على الرغم من أن بعض القائلين بهذه النظرية يعطلون الإرادة الإنسانية في مواجهة الصيرورة الزمنية والحتم التاريخي واطّراد القوانين (٣)، فإن الذي نؤمن به، وإليه تميل آراء بعض المفكرين، وتثبته حقائق التاريخ، أن الإرادة الإنسانية توجّه التاريخ وتصنع أحداثه ضمن نظام من القوانين، وبالدرجة التي تتفهم فيها الذات الحضارية هذه القوانين وتستجيب لها بالفعل المؤثِّر، لا بالانفعال السلبي، وبذلك تقود القوانين وتوجهها بإرادتها (٤).
- الحركة تحتاج إلى طاقة محرِّكة حتى تبلغ مستوى الفعالية، والطاقة إن لم تحظَ بحافز ينعشها فستُستنفَد وتتخامد، وترتدّ،
_________
(١) يرى مكيافلي أن "من شاء أن يتنبأ بالمستقبل فعليه أن يرجع إلى الماضي؛ لأن الأحداث البشرية تشابه دائمًا أبدًا أحداث الأزمنة الماضية. ومنشأ هذا التشابه أنها ثمرة أعمال خلائق كانوا، ولا يزالون؛ وسيكونون على الدوام، تحركهم العواطف والانفعالات نفسها، ولهذا فإن هذه العواطف والانفعالات لا بد أن تكون النتائج نفسها"، ديورانت، ول: قصة الحضارة، ٢١/ ٥٧.
(٢) وعلى ذلك يسقط الفهم المغلوط لقضية التكرار الحرفي للتاريخ، وتفسيرها من خلال الأحداث لا فعالية القانون، أو نفي الانتظام أصلًا، ينظر: مؤنس حسين: الحضارة، ص١٨٤، ١٨٨ وما بعد.
(٣) مونتسكيو، وإشبنجلر. ولذلك فهما يؤوّلان إبداعات العباقرة والقادة بأنها تحقُّق لروح العصر في الأفراد. ديورانت، ول: قصة الحضارة، ٣٦/ ١٥٦.
(٤) يقول محمد عبده: ومن سار على سنن الله ظفر بالفوز وإن كان ملحدًا أو وثنيًا، ومن تنكّبها خسر وإن كان صدّيقًا أو نبيًا، عبده، رضا: تفسير المنار، ٤/ ١٤١ في تفسير الآية: قد خلت من قبلكم سنن، آل عمران/١٣٧.
1 / 20
بالتالي، إلى مستوى السكون؛ أي إلى مسار الضعف والانحلال، وتتلاشى فيه لتبرز طاقةٌ جديدة ذات دفع مختلف لترسم مسارًا حضاريًا جديدًا (١). وضمن هذه الدورة ترتسم حركة التاريخ الكلية. وبما أن الدفع الحضاري دفع إنساني وليس دفعًا طبيعيًا أو ذاتيًا، فإن الإيمان بحتمية تخامد الاندفاع يستلزم حتميةَ المقاومة، والثقةَ بالقدرة على التصدي للتحديات الداخلية والخارجية، وضرورة التصحيح بهدف بناء دورات داخلية داعمة تجدد الشباب أو تؤخر الهرم (٢).
- إن انتظام القوانين وتكرار الحركة لا يعني جبرية التاريخ، ولا تناسخ الظواهر، ولا يجزم بحتمية التوقع، كما أنه لا ينفي الخصوصية؛ لأن التدخّل البشري أساسي، والاختيار فعل حضاري جوهري يمنح الحضارات خصوصيتها الحضارية ومنظومتها القيمية، وعمر الحضارة قابل للتجديد والتخصيب في كل آن بدوائر داخلية داعمة إذا توافرت له العقول والإرادات التي تفهم التاريخ وتحسن
_________
(١) "الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة، فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها [أو من غيرها] ما دامت لهم العصبية"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، ١/ ١٨٢، والتعميم بين العلامتين من عندي.
(٢) ينظر: المخطط رقم١. يقدم لنا التاريخ نماذج لا تحصى لتجديد شباب الحضارة، وقد كان ابن خلدون ثاقب النظر عندما رصد عمر الحضارة الإسلامية من خلال الدول والأجيال المتعاقبة، فجيل قادر على أن يجدد شباب الأمة أو يؤخر سقوطها إن أُحسن إعداده، وأحيانًا تختفي حركة الجيل وراء عَلَم بارز؛ كما كان من شأن صلاح الدين في رأي ماجد عرسان الكيلاني في كتابه: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ص٢٥.
1 / 21
السيطرة عليه.
- كل فكرة تحوي داخلها نقيضها كما يقول هيجل، وقوة الحركة تمنح الفكرة إمكانية استيعاب بعض القيم المناقضة لها، واحتوائها، وخلق حالة من التوازن ضرورية لترفد، بالتالي، الحركة نفسها، وعندما تضعف طاقة الاندفاع تتضخم السلبيات التي كُرِّست في الأصل لتدعم الفكرة وتحمي النظام على حساب الفكرة والنظام، وتكون أسافين تدق في نعش الحضارة المنهارة (١). ما يعني أن بعض القيم لا تحمل قيمة في ذاتها، وإنما قيمتها من توظيف الإنسان لها وسيطرته عليها (٢).
- للحضارات محطات ومراحل تبدأ بالطفولة وتمر بالشباب ومن ثم
_________
(١) يصح في هذه الحال مثال دلو الماء الدائر حول مركز، فلا ينسكب الماء ما دامت الحركة مستمرة في توليد قوتي الطرد والجذب، ومحافظة على التوازن بينهما.
(٢) استعانت الحضارة الإسلامية بمفاهيم: الولاء والطاعة والاتباع .. لصياغة المنظومة الأخلاقية والاجتماعية والشكل السياسي للأمة، فتحولت هذه المفاهيم مع ضعف الحضارة إلى عوامل فرقة وعصبية وصنمية ترفضها أصول تلك الحضارة. في الطرف المقابل عاب مكيافلي على الديانة المسيحية أنها تدعو إلى اللين والرقة .. تلك الفضائل التي وصفها بالنسوية، واعتبرها مسؤولة عن ضعف الدول الأوروبية، على الرغم من أن المسيحية كانت هي الحافز الأقوى والمحرض الرئيس للحروب الصليبية التي استطاعت أن تحرك عامة الغرب لاجتياح العالم الإسلامي القوي آنذاك وتشغله بحروب طويلة الأمد، ديورانت: قصة الحضارة، ٢١/ ٦٠ - ٦١، ٧٢ - ٧٣. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نتوقع تشظي الغرب إلى ثقافات ودويلات متصارعة بسبب من عوامل الشك والحرية والمصلحة التي كانت من أبرز الدوافع للنهضة الغربية.
1 / 22
النضج حتى تعود للانزلاق إلى حمأة الكهولة، وكان ابن خلدون قد ضرب المثل لهذه الحركة بالأعمار الطبيعية للأشخاص (١)، وتمسك إشبنجلر بهذا الرأي وجعل حياة الحضارة نسخة مطابقة لحياة الكائن الحي، وهو تمثيل دقيق شرط أن تبقى المقارنة مضبوطة بالتأطيرات السابقة (٢). ولكل محطة من هذه المحطات خصوصيتها وملامحها في سلبياتها وإيجابياتها، إذ يلاحظ أن مرحلة الطفولة تحتضن القيم الكلية والروح التي انطلقت الحضارة بدفع منها، ومع مرحلة الشباب تبدأ الحضارة بتحقيق ذاتها في عالم الواقع بقوة واندفاع بقيادة الروح الحضاري، مع الحفاظ على حالة التوازن معها، وحين تدخل الحضارة مرحلة النضج المدني تكون قد بلغت أوج قوتها في عالم الواقع مع تراجع القيم الكلية، وتراخي سلطة الروح الحضاري، ومع الحركة والزمن تزداد المفارقة حدة فتخسر الإنجازات المادية دفعها الداخلي الذاتي، وتبدأ الحضارة بالجمود والانهيار على جميع الصعد.
- الوجود لا يعرف الفراغ، وأي غياب عن الشهود الحضاري يعني السماح لروح حضاري آخر بملء الساحة الشاغرة، والأمم أبدًا في تدافع، والأيام بينها دُوَل، ومن يتخلف عن الركب فسوف يُستبدَل لا محالة. ثلاثة قوانين أساسية تحكم علاقة الذات الحضارية
_________
(١) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، ١/ ٢١٣.
(٢) ويرفض بعض المفكرين تشبيه الحضارة بالكائن الحي لما يبدو في هذا التشبيه من حتمية النمو والكهولة وجبر الضرورة والقانون، ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص١٦٢.
1 / 23
بالآخر أرشدتنا إليها الآيات القرآنية: أولها "التدافع"، ذُكر في الآية: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (البقرة /٢٥١)، وهو قانون يعمل على أساس وجود تباين ما بين طرفين، أو عدة أطراف، لتحريض التنافس بينها واستفزاز طاقاتها الكامنة واستثمارها في تنشيط حركة العمران الإنساني. أما "التداول" المشار إليه في قوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (آل عمران /١٤٠)، فهذا القانون لاحق بالأول مترتب عليه، وهو في حقيقته النتائج المترتبة على عملية التنافس، وتغيُّر في المواقع والأدوار يستفيد من المدّ والجزر بين الإرادات المتعاكسة. و"الاستبدال" المنصوص في الآية: "وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" (محمد /٣٨)، هو حالة من حالات التداول، وقانون إنذار يحمل قيمًا سلبية لكل متنكب في حلبة التدافع. إن الكلام على التدافع يقودنا مباشرة إلى الكلام على قضية الدور الحضاري وعلاقته بمفهوم الحضارة.
1 / 24
الحضارة والدور الحضاري
لا تخلو أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات؛ بدائية كانت أو متقدمة، من أن تكون لها ثقافة ما تربطها وتكسبها طابعها المتميز، والثقافة هي طريقة في العيش وموقف من الحياة والوجود، ونظام قيمي واجتماعي يحكم مظاهر الحياة ومفرداتها جميعها، وينعكس في أشكال النشاط والسلوك كلها، ويمنح المجتمع هويته ويحافظ على تماسكه. أما الحضارة فوصف زائد على الوجود الثقافي للجماعة، يتضمن معنى التقدم، والتفوق النوعي والكمي، والإنجاز على مستوى الواقع، ودرجة ملحوظة من التأثير في المحيط التاريخي، وفعالية في صنع أحداثه وتوجيهها؛ فعالية قد تصل حد تشكيل منعطف ومفصل مشع فيه؛ زمانيًا ومكانيًا (١).
ويمتاز اللفظ العربي
_________
(١) يهتم معظم الباحثين في مجال الحضارة بإبراز القيمة التقدمية وعنصر الإنجاز في التكوين الحضاري، وهذا ما يشدد عليه قسطنطين زريق في كتابه: في معركة الحضارة، ص٣٩). ويؤكد حسين مؤنس أن الكثرة والتراكم عنصران أساسيان في التخلق الحضاري، كتاب: (الحضارة، ص١٥). في حين يضيف فرويد إلى معيار الإنجاز الحضاري معيارَ النوع على أنه علامة فارقة لقياس الرقي الحضاري، فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص٥٩. بيد أن إشبنجلر يغيّب تمامًا الرقي من محدِّدات الحضارة، ويكتفي بالنص على التمايز وكل ما يعتبر من الخصائص الثقافية الفريدة للأمة. ولعل هذا راجع في بعض وجوهه إلى أن لفظ Culture في اللغات الغربية يستخدم للدلالة على الحضارة والثقافة معًا، لا سيما أن إشبنجلر يستعين بلفظ Civilization للتعبير عن "المدنيّة" باعتبارها مرحلة من مراحل الحضارة تشهد حالةَ التقدم والخواء معًا. ولعل هذا راجع أيضًا إلى أن إشبنجلر يعتقد بأن هوية الحضارة تتأتى من طبيعة روحها وخصائصها الجوهرية، أما التقدم فهو من علائق المدنية، ينظر كتابه: تدهور الحضارة الغربية.
1 / 25
"حضارة" المشتق من "الحضور" في الدلالة على معنى "الفعالية"، فالعلامة الفارقة في الفعل الحضاري هي "حضور" المشهد التاريخي، وشهوده وعدم الغياب عنه ولعب دور فيه (١)، "وكثير من المجتمعات الإنسانية تقتصر على مجرد الوجود دون الحضور، ومن ثم لا يمكن إطلاق مفهوم الحضارة عليها مهما كان نتاجها الذهني والمادي، طالما وقفت فقط عند مجرد الوجود" (٢).
وإذا كانت كل حضارة تمتلك، شرطًا، خصوصيةً ثقافية هي بمثابة الروح لها، فإن الحضارة ليست لازمة لوجود الأمة الثقافي (٣).
_________
(١) يهتم نصر محمد عارف بإيراد الجذر اللغوي لمفردة "الحضارة" ويتقصى اشتقاقاتها، ويجد أنها كلها تدور في فلك معنى "الحضور" و"الشهادة"، وليست الإقامة في الحضر إلا إحدى الدلالات. ينظر: نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، ص٥٥ وما بعد.
(٢) نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، ص٦٠. ولذلك ظل العرب في الجاهلية، والهنود الحمر، في مرحلة البداوة على الرغم من امتلاكهم لنظام اجتماعي دقيق وتشريع خلقي رفيع. فلما امتلك العرب الفكرة المحركة أسسوا تلك الحضارة السامقة! وهذا يعني أن العامل الاقتصادي ليس هو المؤثر في سكون العرب أو الهنود الأمريكيين كما زعم ديورانت، ينظر: ديورانت، ول: قصة الحضارة، ١/ ٤ - ٥، لأن الأخيرين لم يستطيعوا أن ينتقلوا إلى طور الحضارة على الرغم من تغير التكوين الاقتصادي لمجتمعهم فيما بعد، كما أن النهضة التي هيأ النفط أسبابها لدول الخليج ليست إلا نهضة سطحية خادعة ما دامت تلك الدول لا تملك إرادتها في قبول أو رفض استقبال قواعد أمريكية في أراضيها!
(٣) إن التحدي الخطير الذي تواجهه الأمة العربية والإسلامية اليوم، أنه على الرغم من غيابها عن المشهد التاريخي، وفقدانها القدرة على التأثير فيه، بله توجيهه، فإنها تتعرض لأزمة هوية خطيرة وبلبلة ثقافية متفاقمة! ما يعني أن أزمتها أزمة حضارية وجودية في آن، لأن هوية الأمة الثقافية هي جوهر وجودها نفسه، لا درجة هذا الوجود.
1 / 26