السبب الثاني:
هو غيرة يهوه من كل إله آخر، حتى إنه حتم في الوصايا العشر عدم عبادة أي إله آخر أمامه أو معه، وهذه صفة امتاز بها عن أقرانه الآلهة. فطفق عبدته يتحاشون ذكر الآلهة الأخرى ويعتقدون بخطيئة من يعبد سواه.
السبب الثالث:
هو كراهة الساميين الغريزية للأعمال الفنية؛ لأنهم خياليون بطبعهم يميلون لتصور الأشياء لا لتحقيقها بأيديهم. فهم يكرهون بطبعهم عمل التماثيل وإذا اصطنعوها لم يكن اصطناعهم لها فنيا جميلا يستهوي القلوب ويستوقف الأنظار كتماثيل اليونان. ولما هجم البابليون على أورشليم ودكوا هيكل يهوه وكسروا تمثاله صار اليهود يعبدونه إلها مجردا من كل مادة. (10) الإنسان المؤله
كثير من القبائل والأمم كقبائل أفريقيا وأمة الصين يعتبرون رئيس قبيلتهم أو ملكهم إلها مقدسا قادرا على إتيان المعجزات. وتأليه الإنسان إنما يبنى على اعتقاد حلول روح ما من الأرواح الخيالية في جسم الشخص المؤله؛ أي إن الروح تهبط وتتجسد في ذلك الجسم وتتسيطر عليه بعدما تفقده شخصيته الأولى ويصبح آلة في يدها تفعل ما تشاء به. وأصل هذا الاعتقاد هو غالبا مظاهر الصرع والجنون والأحلام، فإن الأشخاص الذين يصابون بهذه العوارض يظهرون أمام أهلهم وقبيلتهم كأنهم «سكنوا» بروح غريبة؛ أي تجسدت بجسدهم روح هي غير روحهم الأصلية. وما زال بعض العوام في مصر يتبرك بالأبله وينظر لهذيانه كأنه وحي وولاية؛ أي إنهم يعتقدون بلهه آتيا عن حلول روح في جسمه يجب استرضاؤها. والملك أو رئيس القبيلة أليق الناس بالتأله؛ لأن أسلافه أرباب القبيلة، وابن الإله إله بالطبع. من هنا كانت ملوك مصر وما زال ملوك اليابان والصين آلهة تقدس وتعبد.
على أن هناك أمرا غريبا قد يلقي القارئ في حيرة لأول وهلة؛ نريد به قتل الآلهة. فإن كثيرين من القبائل بل والأمم كانت في قديم الزمان وما زالت تقتل الإله الذي تعبده وتسترضيه طول حياته بل وتقدسه بعد قتله. والسبب في ذلك خوف عبدته من حلول الشيخوخة بمعبودهم؛ لأن للشيخوخة نقائص لا تتفق مع عظمة الألوهية. وأين الفم الأدرد واللعاب السائل والصوت الخافت واليد الواجفة واكونداد الشيخوخة مما ينتظر من إله قوي قادر على محق العالم ودك الجبال وتسيير السحب؟ فالقبيلة تقتل إلهها تبجيلا لمركزه ورفعة لمقامه فهي تجدد لمن تختاره إلها عمرا - خمسة عشر أو اثنتي عشرة سنة - تقتله عند نهايته تلافيا لظهور آثار الكبر أو انبثاق غرائز الشبوبية. على أن بعض القبائل بتقدمها استنكرت قتل الملك واستعاضت عن ذلك بقتل أحد المجرمين أو بحرق صورته أو بإدماء الملك لنفسه. كذا كان يفعل أتيس الملك والكاهن معا على مملكة فرجيا، كما كانت تحرق صورة أدونيس الملك المؤله. وهاتان العادتان كانتا شائعتين وقت ظهور المسيحية. (11) اصطناع الآلهة
قد رأينا مبلغ اعتقاد المتوحشين في قوة الأرواح وحقيقة العالم الثاني عندهم لدرجة أن رئيس القبيلة فيهم قد يأتي بشخص ما ويقص عليه قصة ثم يخبره بأن يبلغها لوالده أو لغيره المتوفى. وكيفية هذا التبليغ تكون دائما بقتل الشخص المبلغ. ومنطق هذا العمل عندهم أن الروح مقيدة بالجسد فإذا قتل الشخص انفكت روحه وانطلقت إلى الأرواح الأخرى وبلغتها القصة التي أخبرها بها رئيس القبيلة.
ومن هنا نشأ اصطناع الآلهة. فقد رأينا أن الإله يكون في الأصل روح رجل عظيم - ملك أو رئيس أو أمير - مات وأصبحت روحه إلها بذلك. فإذا أرادت القبيلة تأسيس مدينة أو بناء سور لم تنتظر موت عظيم وتستحمي روحه هذه المدينة أو ذاك السور بل تقتل على الفور رجلا عظيما لتكون المدينة في كنف ورعاية روحه. وهذه العادة هي منشأ عادة قتل البشر تحت أسس البيوت وغيرها من المباني العظيمة. فإن الغرض الأصلي منها كان إيجاد روح - إله - لكي يعبده سكان القرية المستجدة. ولكن بتقادم الزمن تنوسي هذا الغرض وصاروا يقتلون الأشخاص على الأسس حتى بعد انقراض الوثنية وظهور التوحيد.
وقد كانت عادة قتل الأشخاص لفك أرواحها شائعة شيوعا عظيما في الزمن القديم، وما زالت شائعة بين المتوحشين، فإن بعض القبائل في غرب أفريقيا يقتلون جملة أشخاص عند بدء القتال ليستنصروا أرواح هذه الأشخاص - التي صارت آلهة - على الأعداء. وكانوا عند بناء سفينة يسفكون دما بشريا عليها، وما زال أثر هذه العادة باقيا عند الإنجليز الذين يريقون كمية من النبيذ على السفينة قبل إنزالها إلى البحر. والنبيذ عند النصارى في الكنائس يرمز إلى الدم. (12) آلهة الزراعة
نرانا مضطرين هنا إلى الاستطراد إلى أصل الزراعة مطلقا؛ لأن المتوحش الذي كان يعيش بصيد الأسماك والحيوانات واجتناء الأثمار البرية يصعب عليه جدا أن يعرف أن البذور تنتج الشجيرات والمحاصيل كما نعرف نحن الآن؛ لأن الاعتقاد بنبت حبة القمح إلى سنبله هو في قياسه تماما كالاعتقاد بنبت حمار من ذنبه.
ناپیژندل شوی مخ