نور او تتل
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
ژانرونه
وها هو ذا يخضر. (انظر شرح هذه القصيدة مع الشروح المخصصة للقصائد التي جمعت ونشرت بعد وفاة الشاعر.)
والقصيدة تزخر بمختلف الأسماء والشخصيات والأمكنة والاتجاهات، فالصحراء والجمال والرعاة العرب في جانب، وأخيل وبريزيس والإسكندر (الإغريق) وأكسيركسيس والأرمني
17 (الإيرانيان) في جانب آخر. والشاعر يستدعي هذه الأسماء والشخصيات والأماكن أمامه، وخياله المحلق وعقله الواضح - الشديد الاتزان والصفاء - يضمانها في وحدة واحدة، هي وحدة شخصيته وعالمه الظاهر والباطن، وهو يتأمل كل شيء على كل المستويات الممكنة، يصعد إليه بجناحي الخيال أو يسلط عليه أضواء العقل المتزن، وتبقى في كل حال هي أشياؤه ومكونات عالمه الشعوري والفكري والغني. وهو لا يصف الأشياء ولا ينتخب منها ما يلائم هذا العالم أو ما يزهو بتصويره ويخلق منه حلما شعريا، لأنه لا يغادر بخياله حدود عالم التجربة الواقعية والحسية أبدا، وإنما يمكن القول مع الشاعر أوسكار لوركه
18 (1884-1941م) إنه يجر معه الكرة الأرضية كلما كتب وحيثما اتجه، لكن عقله الناصع يرتفع دائما فوق هذه الكرة. وحين يمد قوسه الشعري الذي يصل الواقع الحسي والعملي بالمثال الأفلاطوني والفكرة الأفلوطينية، فهو يقيمه على الدوام فوق عمودين راسخين، هما التجربة الحسية الواقعية والمثال المطلق أو القيمة الكلية الشاملة، ثم ما قيمة الأزمان الكثيرة التي يجول فيها، كالفارس العربي فوق صهوة جواده لا يعلو عمامته إلا نجوم السماء كما يقول في قصيدة هجرة، ما قيمتها ما دام يضمها إلى بعضها في زمن واحد، أو بالأحرى في لحظة الحضور الأبدي الواحدة؟ وما قيمة الأسماء الكثيرة التي تتردد في الديوان من مختلف الشعوب والأجناس واللغات والحضارات ما دامت الأسماء - كما قال في فاوست - مجرد أصوات ودخان يحجب بالضباب وهج السماء؟ فليحشد إذن ما يشاء من أسماء في هذه القصيدة أو في غيرها، ولتنضم إلى الأسماء الشرقية والعربية العديدة أسماء آلهة وأبطال وأشخاص يونانيين أو مسيحيين: أورورا، وهليوس، وهسبيروس، وإريس، بجانب يسوع المسيح والقديسة فيرونيكا التي بللت منديلها بعرق وجهه وهو في طريقه إلى الصليب فانطبعت معالم الوجه المقدس على صفحة المنديل، ليغص في مياه الفرات أو في مياه الراين أو الماين، وليذكر اسم نابليون أو تيمورلنك، وليتغن بأشعار أجداده وآبائه وأمثالهم وحكمهم أو بأشعار حافظ وسعدي ونظامي، ليتغن باسم المتنبي أو المجنون أو كثير أو غيرهم وغيرهم. أليس الديوان هو الديوان الشرقي-الغربي؟ أليست الأزمان كلها زمنا واحدا، لا يحسب بالسنوات ولا الساعات والثواني، بل بالتجارب والرؤى والنبضات؟ وهل يحد الوجود الإنساني الحي بأصله الجغرافي، وهل تتقيد التجربة الواقعية الفريدة بالتاريخ المتسلسل؟ والشعراء الكثيرون من شرق وغرب، أليسوا في النهاية تجسيدات مختلفة «للشاعر » و«الشعر» على إطلاقه، دون أي مساس بخصوصية كل شاعر وخصائص كل شعر وما يتفرد به؟ أفلا يكون الكلام الكثير مما نتعارك حوله منذ سنوات عن صدام الحضارات وصراع الثقافات، واتهام الشرقي للغربي إلى حد التطاول الفج والإدانة الغوغائية العمياء في بعض الأحيان، وتحيز الغربي ضد الشرقي وتعاليه وغطرسته عليه انطلاقا من «مركزيته الأوروبية» الأنانية الضيقة الأفق ... إلخ. أفلا يكون هذا كله من منظور شاعر الديوان الشرقي-الغربي مجرد ثرثرة وفحيح غبي مسموم ومتخم بالأصوات والضوضاء والدخان؟ وهل كان سيتردد لحظة واحدة عن التأفف منه والترفع عنه واللجوء «لشرقه» الشعري الواحد النقي، والاعتصام من متعصبي وأغبياء زمانه وزماننا بعالمه الواحد الذي هو في النهاية عالم الإنسان في وحدته وشموله وصفاته؟ ألا ليتنا جميعا نتعلم من عقله الناصع المرح ومن نظرته الشامخة المترفعة كنظرة النسر. (4) أضواء على ترجمة الديوان
ونأتي أخيرا إلى ترجمة الديوان والطريقة التي اتبعتها فيها، مع التوقف قليلا عند ترجمة الشعر ومشكلاتها العسيرة التي لا تتسع لها هذه المقدمة المحدودة. وما دمنا نعيش في صحبة جوته ونحاول أن نقترب من عالمه، فلنبدأ حديثنا عن الترجمة بالنظر فيما قاله عنها في فقرة من تعليقاته وأبحاثه التي ألحقها بالديوان تحت عنوان «الترجمات»، ولنذكر في كل الأحوال أنها تنطوي على نظرات شاعر كبير (مارس الترجمة أحيانا عن ديدرو وبنفينيتو تشلليني وتأبط شرا وغيرهم، كما كادت بعض قصائده القصيرة في الديوان أن تكون ترجمات حرفية لأصول فارسية وعربية) وهي نظرات نافذة وهادية ومحيطة، وقد سبقت بما يزيد على قرن من الزمان الاهتمام الحديث بالترجمة التي أصبحت علما واسعا له أصوله وقواعده والمتخصصون فيه.
حدد جوته ثلاثة أنواع من الترجمة، تبدو أشبه بالسلالم المتدرجة من الأدنى إلى الأعلى:
فالنوع الأول يعرفنا بالأجنبي عنا بما يوافق إحساسنا الخاص (وينطبق عليه ما نسميه نحن بالتعريب الذي بدأ مع رفاعة رافع الطهطاوي في ترجمته لفنيلون، وازدهر في أواخر القرن الماضي والعقود الثلاثة الأولى من هذا القرن. وإذا كان جوته يقول إن أفضل أمثلة هذا النوع هي الترجمة النثرية الخالصة، فقد غلب النظم على معظم ما تم تعريبه عندنا مثل الإلياذة للبستاني وبعض مسرحيات شكسبير التي تم اقتباسها مع بداية النهضة المسرحية والغنائية). وتأتي بعد النوع الأول - الذي كان أشبه بتمهيد الطريق للدخول في العمل الأجنبي بكل خصوصياته المميزة - مرحلة أخرى تقوم فيها الترجمة بوضعنا في ظروف النص الأجنبي وأحواله، وإن بقي كل همها منحصرا في استيعاب الحس الأجنبي والتعبير عنه بعد ذلك تعبيرا يلائم الحس القومي. أما النوع الثالث، فهو ذلك الذي يسعى للتوحد بالأصل والتطابق أو التكافؤ معه بحيث يمكن أن يغني عنه. وقد كان جوته يعني بذلك الترجمات الشعرية للأصول الشعرية (كما فعل في عصره المترجم المشهور يوهان هينريش فوس (1751-1826م) لملحمتي هوميروس) بدليل أنه في سيرته الذاتية شعر وحقيقة (3-11) ينصح بتقديم الترجمات النثرية للشباب، ويرى أنها أيسر عليهم من الترجمات الشعرية وأنسب لتربية أذواقهم.
والواضح من كلام جوته أنه ينشد تحقيق المثل الأعلى لترجمة الشعر، وهو التطابق مع الأصل إلى حد التوحد معه.
19
يؤكد هذا ما يقوله في إحدى حكمه (وتحمل الرقم 1056 من مجموعة حكمه وتأملاته) من أن على المترجم أن يقترب مما يستعصي على الترجمة، عندئذ يمكننا أن نفهم الأمة الأجنبية واللغة الغريبة علينا، ولو سألناه عم يقصده بما يستعصي على الترجمة، وهل ندخل بذلك في منطقة صوفية تعجز فيها اللغة وتقف خرساء عند حدود ما لا يقال، لأجابنا بقوله: إن معناه ألا يدخل المترجم في عملية مبارزة مع اللغة الأجنبية؛ لأن في هذه اللغة صورا وصيغا وتعبيرات وتركيبات تتعثر اللغة المتلقية في أدائها وتعجز عن الوفاء بجوانبها الصوتية والتشكيلية والجمالية .
ناپیژندل شوی مخ