فقال له العاذل عندما بهره جماله، وجهره في كماله: لو في هذا ظهر أمرك، لقام عند الناس عذرك، فقال لوقته:
أبصرهُ عاذلي عليه ... ولم يكنْ قبل ذا رآهُ
فقال لي: لو هويتَ هذا ... ما لامك النَّاسُ في هواهُ
قل لي: إلى منْ عدلتَ عنه؟ ... فليس أهلُ الهوى سواهُ
فصار من حيثُ ليس يدري ... يأمرُ بالحبِّ من نهاه
والوكيعي مشرق الفكر، مونق الشعر، رائق الطلاوة، فائق الحلاوة، وهو القائل:
زادني في دجى الظلامِ البهيمِ ... قمرٌ بات مؤنسي ونديمي
بحديثٍ كأنّهُ عودةُ الصِّحةَ في ال ... جسم بعد يأسِ السَّقيم
تتلقّى القلوبُ منه قبولًا=كتلقّي المخمورِ بردَ النسيمِ وهذا كقوله:
ظفرتُ بقبلةٍ منه اختلاسًا ... وكنتُ من عين الرَّقيبِ على حذارِ
ألذَّ من الصَّبوحِ على غمامٍ ... ومن بردِ النسيمِ على خُمارِ
وله:
غُصنٌ ظلَّ مثمرًا ... بظريفٍ من الثَّمر
ما رأى الناسُ قبلهُ ... غُصنًا أثمرَ القمر
قال لي إذا عجبتُ من ... هـ: ألا تحسنُ النظر؟
لا تقسْ غرسَ ربِّنا ... بالذي يغرسُ البشر
ومن ألفاظ أهل العصر في محاسن الغلمان والمعذِّرين: شادنٌ يضحك عن الأقحوان، ويتنفس عن الرَّيحان، كأنَّ قدَّهُ خوط بانٍ، سكرانُ من خمر طرفه، وبغداد مشرقة، من حسنه وظرفه، الشكل أجمع من حركاته، وجميع الحسن بعض صفاته، كأنما وسمه الجمال بنهايته، ولحظه الفلك بعنايته، فصاغه الله من ليله ونهاره، وحلاه بنجومه وأقماره، ونقشه ببدائع آثاره، ورمقه بنواظر سعوده، وجعله بالكمال أحد جدوده، له طرة كالغسق، على غرة كالفلق، جاء في غلالةٍ تنم بما يستره، وتجفو مع رقتها عما يظهره، له وجه بماء الحسن مغسول، وطرف يميل السحر مكحول، وثغر حمي حماية الثغور، وجعل ضرة لقلائد النحور، وما هو إلا خال في خد الظرف، وطراز على علم الحسن، ووردة في غصن الدهر، ونقش على خاتم الملك، وجهه عرس، وصدغه مأتم، ووصله جنة، وهجره جهنم، وإن كانت عقرب صدغه تلسع، فترياق ريقه ينفع، إذا تكلم تكشف حجاب الزمرد العتيق، عن سمطي الدر الأنيق. لعب ربيع الحسن في خده، فأنبت البنفسج في ورده.
قال أبو المقدام الأسدي: سالت علينا سائلة من طيئ، وكان غلام منا يختلف إلى جارية منهم فيتحدث إليها، فخرج يومًا في طلب إبل له، فأرسلوا رائدهم، فرجع وإذ هم ينفضون الأنماط، وقد قوضوا العمد، وأجمعوا على الظعن، فأنشأ الغلام يقول:
متى ما يقلْ أهلي: أقيموا، وتصبحي ... رهينةَ برقٍ بالشَّقيقة لاحق
أمت كمدًا من لوعةِ الحبِّ أو أكن ... كذي البثِّ أبلاه جلاءُ الأصادق
فقلت له:
فهلاَّ وفي الأيَّام ويحكَ غرَّةٌ ... شكوتَ وفي الواشينَ عنكَ سكونُ
ولكن كتمتَ الحبَّ حتى تقطَّعتْ ... قوى الوصلِ واستولى عليه قرينُ
وهذا يضاهي قول القطامي، وهو عمرو بن شييم التغلبي:
قطعت إليكَ بمثل جيدِ جدايةٍ ... حسنٍ معلَّقُ توميتهِ مطوَّق
هلاَّ طرقتِ إذ الحياةُ لذيذةٌ ... وإذ الزَّمان جديده لم يخلقِ
أو قبل ذلك عندَ غرَّاتِ الصِّبا ... والعيش غضٌّ صفوه لم يرنقِ
بخلتْ عليك فما تجودُ بنائلٍ ... إلاّ اختلاس حديثها المتسرقِ
وقال علي بن محمد العلوي:
يا حبّذا الدهرُ إذ نُسقى مسرَّته ... صرفًا ونمزج إنجازًا بميعادِ
وإذا نبيت وقلبانا قد اتفقا ... جاري عناقٍ وإسعافٍ وإسعادِ
بسرَّ من را سقاها الله ما شربتْ ... من رائحٍ ضاحكٍ بالمزنِ أو غادِ
فليت دهري بها عادت بشاشته ... حتى نُموِّه إصلاحًا بإفسادِ
يضاهي هذا المعنى قول جحظة:
إن كنت تنكر ذلّتي وتلدّدي ... وسقامَ جسمي وامتداد عذابي
فانظر إلى جسمي الذي موهتُهُ ... للناظرينَ بكثرة الأثوابِ
وقال أيضًا:
أأيامك تهتز اهتزاز الغصن الرطبِ
تذكرتَ وفي تذكارها نصبٌ من النَّصب
لياليكَ وأيامكَ ظلُّ اللَّهو والعجب
تروق الأعينَ النجلَ وتصبي كبد المصبي
وتختالُ من النضرة في أرديةٍ قشب
زمانٌ كارتشاف الصَّبِّ للمرتشف العذب
صفاء الشُّرب لا يعقب إلاّ كدر الشُّرب
1 / 9