قد أتممت هذا الكتاب عن طريق اختصار، وسبيل اختيار، ولو أردت لمددت إلى ما يربي على الغاية، ويوفي على النهاية، إذا ذاك متيسر غير متعذر، ومتسع غير ممتنع، وإنما أغريت أن أجري إلى رضاك، حسب مبتغاك، فكان كتابي باكورة حلت، غير أنها قلت، وفي هذا الكتاب أكثر المعونة بأيسر المؤونة على تنبيه نائم الخواطر، وتحريك ساكن السرائر لمن يجول في ميدان المخاطبة والمكاتبة، ويأخذ بعنان المذاكرة والمحاورة، إذا طرز به ديباج كلامه وحلى عاطل نثره ونظامه، فمن سهلت بحفظ البلاغات حواشي لسانه، تصورت صورها في جنانه، فمتى حاول كتابًا أو زاول خطابًا قامت إلى لفظه من شعاب حفظه خدام الإصابة على أقدام الإجابة، تسايره بالنصر فيما يممه من أمر، فللبلاغات أدوات يقتفى أمثالها، ويحتذى مثالها، فأولاها بعد إقامة اللسان وحفظ كلام أمراء البيان وبخاصة أهل هذا الزمان، إذ النفس أقرب إلى ما قرب منها مما بعد عنها، وهي أحق وأحجى أن تكون لإدراكه أرجى، ولا سيما إذا رأى العربي الصريح نطق العجم باللسان الفصيح، في ألفاظ لو اجتلين جواهرها، واجتنيت زواهرها، لكسدت صناعة الحلى والحلي، وبارت بضائع الوسمي والولي.
[شعر]:
ولم تتشوق للربيع نفوسنا ... ويضح على الدنيا بها منشد يشدو
سقى الله وردًا صار خد ربيعنا ... فقد كان قبل اليوم ليس له خد
فعلم أنهم شغلوا أسرارهم واستعملوا أفكارهم، من نقس تلك الرقوم ووشي تلك الرسوم، بما استقرأه وتتبعه لصار معهم كما صاروا معه، في حقه الذي عليه غصب، وفيه غلب، فكثير ممن أوردت عليك روائع حكمهم، وبدائع كلمهم، أعاجم درت لهم الفصاحة بغير عصاب، وسبقت إليهم الرجاحة بغير اغتصاب إذ علموا ما آية معانيها، وكيفية مبانيها، وقد قالت الفلاسفة: "حد الإنسان الحي الناطق، فكلما كان رتبة المنطق أعلى، كان بالإنسانية أولى".
وأمر المأمون بإسقاط رجل من الجند، فقال: يا أمير المؤمنين لم أسقطتني؟ قال: لأن روح الحياة إذا ظهر كان جمالًا، وإذا بطن كان بيانًا، وأنت لا ظاهر لك ولا باطن.
فحق كل ذي فضل وعقل أن يكون كما قال بعض الحكماء: "يجب على العاقل أن ينظر في المرآة، فإن كان وجهه حسنًا لم يشته بقبيح، وإن كان قبيحًا لم يجمع بين قبيحين".
فالحمد لله الذي جعل جمال منظرك موازيًا لجمال مخبرك، وشامخ فرعك مقارنًا لراسخ عنصرك:
فلو كنت ماءً كنتَ غمامةٍ ... ولو كنتَ دُرًَّا كنتَ من درَّةٍ بكرِ
ولو كنتَ لهوًا كنتَ تعليل ساعةٍ ... ولو كنتَ نومًا كنتَ إغفاءة الفجرِ
ولو كنت ليلًا كنتَ قمرًا جُنِّبت ... نحوس ليالي الشهرِ أو ليلةَ القدرِ
وأقول:
والله حسبي فيكَ من كلِّ ما ... يُعوِّذُ العبد به المولى
فاسم وعشْ ولا زلت في نعمةٍ ... أنت بها من غيركَ الأولى
كمل الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه، ووافق الفراغ من نساخته في ضحى يوم الأربعاء المبارك السادس من شهر رجب الفرد من شهور سنة اثنتين وثلاثين وألف، على يد أفقر العباد إلى عفو الكريم الجليل، الخليل بن خليفة العزيز المكي الرومي الحنفي، عامله الله بلطفه الخفي، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
1 / 55