ورد كتاب صاحب الجيش، بيد خلقت للسيف والقلم، بل خلقت للنعم والنقم، بل خلقت لجميع أدوات العرب والعجم، فرويته لما رأيته، وحفظته لما لحظته، ولو أنصفته لأتعبت فكري في معانيه، وارتعت نظري في مقاطعه ومباديه، وتفكرت في رتبة الكتاب في الكتب، ورتبة صاحب الجيش في الرتب، فأنشدت:
ولما رأيت الناس دون محله ... تيقنت أن الدهر للناس ناقد
بل لو أنصف هذا الكتاب لما فزعت منه إلى الجواب عنه، لكن بعض الأجوبة خدمة، كما أن بعض الابتداءات نعمة.
ومن ألفاظ أهل العصر في ذكر الكتب: كتاب كتب لي أمانًا من الدهر، وهنأني أيام العمر. كتاب أوجب من الاعتداد أوفر الأعداد، وأودع بياض الوداد سواد الفؤاد.
كتاب عددته من حجول العمر وغرره، واعتدته من فرص العيش وغرره. كتاب هو أنفس طالع، وأكرم متطلع، وأحسن واقع، وأجل متوقع. كتاب كدت أبليه نشرًا وطيا، وقبلته ألفًا، ويد حامله عشرًا. كتاب نسيت بحسنه الروض والزهر، وغفرت للزمان ما تقدم من ذنبه ما تأخر. كتاب هو علة المسافر، وأنسة المستوحش، وزبدة الوصال، وعقلة المستوفز. كتاب هو رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم. كتاب هو سمر بلا سهر، وصفو بلا كدر. كتاب تمتعت منه بالنعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واستلمته استلام الحجر الأسود. نشأت سحابة من لفظك، غيمها نعمة سابغة، وغيثها حكمة بالغة، سقت روضة القلب، وقد جهدتها يد الجدب، فاهتزت وربت، واكتست ما اكتست. كتاب ألصقته بالكبد، وشممته شم الولد. كتاب ورد منه المسك ذكيًا، والزهر جنيًا والماء مريًا، والعيش هنيًا، والسحر بابليًا. كتاب مطلعه مطلع أهلة الأعياد، وموقعه موقع نيل المراد.
خرج أبو نواس مع بعض إخوانه إلى المدائن، فدخلوا إيوان كسرى، فوجدوا فيه آثار شرب، فقالوا [له]: يا أبا علي لقد طاب عيش قوم نزلوا هذا الموضع، فلو فعلنا كفعلهم لمرت لنا حال حسنة، فقال: ذاك لكم، فأحضروا ما يحتاجون إليه، وجلسوا يشربون، ولذ لهم المقام، فأقاموا خمسة أيام، فلما انصرفوا قالوا له: قد أسعفتنا بمؤانستك، وأمتعتنا بمجالستك، فلو وصفت ما جرى لنا في أبيات [من الشعر] تخلد على الدهر، لكمل أمرنا، وفضل دهرنا، فقال:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم: جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان: جني ويابس
ولم أدر من هم غير ما شهدت به ... بشرقي ساباط الديار البسابس
حسبت بها صحبي فجمعت شملهم ... وإني على أمثال تلك لحابس
أقمنا بها يومًا ويومًا وثالثًا ... ويوم له يوم الترحل خامس
تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى، وفي جنباتها ... مهًا تدريها بالقسي الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
وهذا ما اخترعه أبو نواس.
قال الجاحظ: وجدنا لمعاني تقلب، ويؤخذ بعضها من بعض، إلا هذا المعنى، فإن الحسن ابتدعه.
[ومثله قول] عنترة يصف روضة:
وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردًا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
وقال أبو نواس:
بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجوم
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذًا لاصطفاني دون كل كريم
[و] أخذه أبو العباس الناشئ فقال:
ومدامة لا يبتغي من ربه ... أحد حباه بها لديه مزيدا
في كأسها صور تظن لحسنها ... عربًا برزن من الحجال وغيدا
إذا المزاج أثارها فتقسمت ... ذهبًا ودرًا توأمًا وفريدا
فكأنهن لبسن ذاك مجاسدًا ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا
وقال ابن المعتز:
[وليل فاختي اللون مرخ ... عزاليه بطل وانهمال]
وساق يجعل المنديل منه ... مكان حمائل السيف الطوال
غلالة خده صبغت بورد ... ونون الصدغ معجمة بخال
أتى والصبح تحت الليل باد ... كطرف أبلق مرخي الجلال
بكأس من زجاج فيه أسد ... فرائسهن ألباب الرجال
ومن ظريف ما وصف الكاسات قول القاضي أبي القاسم التنوخي:
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
1 / 48