117
قال أحمد بن أبي خيثمة: كان أبي ويحيى بن معين وغيرهما يجلسون بالعشيات إلى مصعب الزُبيريّ وكنتُ أحضرُ، فمر بنا رجلٌ على حمارٍ فاره فسلم ووقف، فقالوا: إلى أين، ياأبا الحسن؟ فقال: إلى من يملأ أسماعنا علمًا وأكمامنا دنانير. فقال له يحيى: من هو؟ قال: إسحاق الموصليّ. قال يحيى: والله ذاك أصح الناس سماعًا وأصدقهم لهجة. فسألت عن الرجل، فإذا هو المدائني. قال إسحاق: أنشدت الرشيد شعرًا لي، فلمَّا بلغتُ قولي " من الطويل ": وآمرةٍ بالبخل قلتُ لها: اقصري ... فذلك شيءٌ ما إليه سبيلُ وكيف أخافُ الفقر أو أُحرمُ الغنى ... ورأيُ أمير المؤمنين جميلُ فقال: لله درُّ أبيات تأتينا بها، ما أحسن فصولها وأحكم أصولها! فقلت: كلامُ أمير المؤمنين أحسن من شعري! فقال: أحسنت والله، أعطه مائة ألف درهم! - ومنها " من الطويل ": أرى الناس خُلاّن الجواد ولا أرى ... بخيلًا له في العالمين خليلُ ومن خير حالات الفتى ... إذا نال خيرًا أن يكون ينيلُد وإني رأيتُ البخلَ يُرزي بأهله ... ويُحقر يومًا أن يقال بخيلُ ويروى: رأيت قليل البخل يُزرى بأهله ... وأكرمت نفسي أن يقال بخيل عطاآئي عطآء المكثرين تكرُّمًا ... ومالي كما قد تعلمين قليلُ وفضائل إسحاق ومحاسنه ومناقبه كثيرة جدًَّا، وجالس الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق، وبقي إلى صدر أيَّام المتوكل ومدحه. - توفي أسحاق سنة ست وثلاثين ومائتين. ١٠٠ - ومن أخبار مُصْعب الزُبيريّ وهو مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، أمه أمة الجبَّار بنت إبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير. قال: أدخلني أبي إلى الرشيد وأنا صبيٌّ، فدعوت له، فاستملح كلامي، فقال له أبي: إنه قد مدح أمير المؤمنين بشعر ولكنه يستحي أن ينشده لهيبة أمير المؤمنين. فقال: هات ماقلت! فأنشدته شعرًا، منه " من الوافر ": كأنك جئت محتكمًا عليهم ... تخيَّرُ في الأبوة من تشاءُ لك الفضل المُبرُّ على قريشٍ ... كما فضل الظلام لنا الضياءُ فقال: زعمتُ أنّ هذا يستحي؟! هذا أوقح الناس! ووهب لي ألفي دينار. - وقال: وجّه صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي إلى سعيد بن سلم بجوذابة إوَزَّةٍ وليست الإوزة معها، فكتب إليه سعيد " من المتقارب ": بعثتَ إلينا بجوذابةٍ ... فأين التي كان جوذابها فقال صالحٌ لابنه موسى: أجبه عنيّ! فقال " من المتقارب ": بعثنا إليك بجوذابةٍ ... وحاز الإوزةَ أربابها وذلك حظ الفتى الباهلي ... فلا يَعْنينَّك تطلابهاس ١٠١ - ومن أخبار أبي جعفر الجُرجاني محمّد بن عمر أحد رواة الكوفة، أنشد " من البسيط ": إنيّ لأُعرضُ عن أشياء تؤلمني ... حتى يُظنَّ رجالٌ أنّ بي حُمقا أخشى جواب سفيهٍ لاحياء له ... فسلٍ يظنُّ رجالُ أنه صدقا ١٠٢ - ومن أخبار ابن السكِّيت قال عبد الله بن جعفر: من علماء بغداد أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت، مؤدبًا لولد المتوكل، وكان عالمًا بنحو الكوفييّن وعلم القرآن واللغة والشعر رواية ثقة، وهو صحيحُ السماع، وله كتب في علم النحو واللغة جيادٌ وفي معاني الشعر، وفسر من دواوين الشعر شيئًا كثيرًا. قال أبو العينآء: قال لي أبن السكيت يومًا بيد يدي المتوكل - وقد تجاورا شيئًا من الأدب -: أتراك أحطت من هذا بما لم أحط به؟ فقلتُ: وما أنكرت؟! فوالله لقد قال الهدهد وهو أخس طائر لسليمان: (أَحَطتُ بما لَمْ تُحْط بهِ) . وكان يعقوب يؤدب المؤيد، وكان بينه وبين رجل من اهل الادب مقارضة، فقال هذه الابيات وبعث بها الى المتوكل: قل للإمام الذي ترجى فواضله ... إن المؤيد مقرون إلى ذيب معلم يختل الصبيان غفلتهم ... ويجعل الضرب منه باب تأديب وإن خلا خلوة بالظبي ساوره ... بمسغد طويل الشخص يعبوب وللمؤيد نفس غير خاضعة ... فأطلب له بدلًا من قرب يعقوب والمهر يمكن بعد الرمح رائضة ... حتى تلين له بعد تصعيب

1 / 117