وكنت سأحتار أيضا كيف تتصرف خديجة بعد هذا، هل كانت ستسأل أباها عن العريس وأحواله جميعا من شكل وعمر؟ وطبعا لا داعي للسؤال عن الشهادة أو الثقافة، فقد كانت هذه الأشياء في ذلك الحين بعيدة عن مجال السؤال عند السيدات، وتوشك أن تكون كذلك عند الرجال أيضا.
أم تراها كانت ستطرق حياء وخجلا، وتقول الجملة التي لم يستطع كاتب حوار أن يغير منها شيئا على طول السنين: اللي تشوفه يا بابا؟
ولعلي كنت سأخرج من هذه الحيرة بوسيلة أكثر يسرا وأقرب إلى منطق الأمور، فأجعل خبر الخطبة ينتقل إلى الابنة عن طريق أمها، وأنتهز هذه الفرصة لأقدم إليك كل ما لم تعرفه بعد عن شاكر بك برهان على لسان الأم.
ولكن ما العجلة في تعرفك على شاكر برهان؟ ولماذا لا نتكلم عن خديجة قليلا؟ فأنت لم تعرف عنها إلا أن عينيها جميلتان، ولكنك أنت لم تعرف مثلا أن قوامها فارع رشيق لا تطغى عليه نحافة، ولا يفرط عليه سمن، وهي ذات شعر ناعم إذا أطلقت عنانه هدر على كتفيها في عربدة طاغية، وجبينها عريض فيه ذكاء، وعيناها اللتان عرفت أنهما جميلتان فيهما جرأة، وفيهما تطلع إلى المستقبل في وثوق الذكر وفي فتور الأنثى، وأنفها دقيق مائل قليلا إلى الخد الأيمن، هذا الميل الذي يراه بعضهم جمالا، ويراه بعض آخر عيبا في جمالها الفاتن. وإن كنت من الذين يحبون أن يوصفوا بالمثقفين، فلعلك تحب أن تعرف شيئا عن ثقافتها. قرأت كورني وراسين وفولتير وهيجو وفلوبير وروسو، حتى اعترافات روسو قرأتها، وقرأت شكسبير مترجما ، وقرأت ديكنز وهاري وتولستوي وديستويفسكي. أظنك عرفت الآن أنها كانت تحب القراءة وكانت تعبد الشعر، فقد كانت تحفظ روايات كورني وراسين جميعا، وتحفظ كثيرا من شعر هيجو، ولم تكن تميل كثيرا إلى مضحكات موليير. كانت القراءة عندها هي الوسيلة التي تفتح لها النافذة على عالم لم يكن من الممكن أن تخالطه أو تندمج فيه؛ فقد كان الحريم جزءا منفصلا عن المجتمع في ذلك الحين يحركنه من داخل البيوت، ولكنهن لا يشاركن في حركاته.
وكانت خديجة شأن كل فتاة تعرف أنها ستتزوج في يوم الأيام، وكانت تعتقد أنها ستتزوج رجلا مثقفا تستطيع أن تشترك معه في أحاديث طويلة عن الشعر والأدب، وكانت الخشية تخالجها أن يكون هذا المثقف ذا ثقافة عربية وإنجليزية، وليس ذا ثقافة عربية وفرنسية، فالمثقفون في ذلك العهد كانوا جميعا يجمعون إلى العربية ثقافة أجنبية أخرى، ولم يكن الغنى في ذاته أمرا ذا بال عند خديجة؛ فالغنى عند الأغنياء شيء مفروض يعتقدون هم أنه طبيعي، يصاحب التكوين البيولوجي لأجسامهم، فالمال عندهم شيء من المقرر وجوده، كما يوجد لهم عينان وأنف وشفتان. ولكن الثقافة هي التي كانت نادرة الوجود، فإذا وجدت فهي عميقة راسية الأصول بعيدة الأغوار. وقد كانت خديجة لا تتصور أن يكون خطيبها غير مثقف، ولم يكن تفكيرها هذا مجافيا للصواب؛ فإن والدها الذي أتاح لها هذا التثقيف لا يقبل أن ينالها شخص لا يقف مع ما بلغته من دراسة على درجة واحدة، فإن تفاوتت الدرجة فليكن هو في العليا لا في السفلى. وهي في سذاجتها الثقافية نسيت أن للمال عند الأغنياء نداء ولغة يفهمونها جميعا دون اتفاق بينهم، فمن الطبيعي ألا يتزوج الغني إلا ذات ثراء، ومن الطبيعي أن يسارع الثري بقبول الغني خطيبا لابنته.
وهذا الاتفاق غير المكتوب بين الأغنياء يتضمن أن كل شيء غير الثراء يمكن اغتفاره أو تجاهله.
وهكذا لم يكن عجيبا أن يقبل عثمان باشا فكري خطبة راشد بك دون ريث من تفكير، وخصوصا أنه أصبح غنيا سابقا، ولكنه ما زال يحمل اللقب «غني».
ومن الطبيعي أيضا أن تقبل خديجة الزواج، فهي تعلم أنها نهاية محتومة لحياة البنت في بيت أبيها، أو بداية محتومة لخلية جديدة من الحياة.
والاسم الذي تقدم لخطبتها اسم شهير في عالم الثراء وليس شهيرا في عالم الثقافة، فقد كان المجتمع في ذلك الحين لا يلقي ستارا من التجاهل على أي مهتم بالثقافة، فلو كان على جانب منها مهما يكن ضئيلا لذاع صيته، بل إن الحياة كانت تتيح لمن يهوى شراء الكتب أن يصبح شهيرا في عالم التثقيف، حتى وإن لم يقرأ هذه الكتب. وقد كان أغلب هذا النوع من الهواة يكتفي من الهواية بالشراء دون القراءة، فالقراءة لها ناس وشراء الكتب له ناس آخرون، والذين يقرءون لا يهمهم مطلقا طريقة الطبع التي يهتم بها الشراءون، كل ما يعني أهل القراءة أن تكون الحروف واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض، وقد يكون هذا الوضوح في ذاته سببا في رخص الكتاب لا في غلو سعره.
ولا تنتظر مني أن أفيدك كثيرا في الشروط التي لا بد منها ليكون الكتاب تحفة أثرية ذات شأن، فأنا من ذلك النوع الساذج الذي يحب أن يقرأ ولا يهمه أن يقتني.
ناپیژندل شوی مخ