في حجرته زكريا باشا إن غادرها فساعة أو بعض الساعة يحس بها أنه حي لم يمت، ثم إلى غرفته يعود.
ومن هذه العزلة اتخذت سهير وراوية أداة إرهاب للطفلين، وعند يحيى أصبح سمت الرجل كما ينبغي أن يكون؛ هو هذا الباشا المنعزل، هكذا أصبح الأمر عند يحيى. أصبح يعتقد أن الرجل لا يكون رجلا إلا إذا لم ير أحدا ولم يره أحد، وأصبح يظن أن الرجل العظيم - ومن أعظم من جده؟ - يجب أن يكون صموتا لا يتكلم، فإذا تكلم فكلامه أمر، وإشارته لا يصحبها إلا الطاعة من الآخرين، هكذا صورت أمه أباه، وهكذا أكد أبوه هذه الصورة بوجه ارتمى عليه الحزن واحتضنته تجاعيد السنين؛ فأصبح بمزاج الألم والأيام تكشيرة لا انبساط لها.
ربما استطاعت راوية أن تنجو بهالة من هذه الصورة، وهالة على كل حال بطبيعة جنسها لا تصبو أن تكون رجلا، ورجلا مرهوبا. ولكن رواية خشيت على ابنتها أن يجعلها موت أبيها جانحة إلى الحزن في حياتها؛ فراحت تتيح لابنتها كل فرصة للبهجة ، ولم تكن تستعمل اسم الجد إلا حين ترى أن هالة تبالغ في طلب البهجة، وكان ذكر اسمه مصحوبا بالرغبة التي تريدها الأم، وتلصقها به وهو فيها مظلوم؛ كافيا أن يرد هالة إلى ما تبتغيه الأم من الاعتدال. •••
كان يحيى في السادسة عشرة حين مات أبوه زكريا باشا.
وفجأة وجد يحيى نفسه قد انتصب رجلا على رغم أنفه؛ فالخدم لا يذكرونه إلا بلفظ البك، هكذا مفردة دون اسم يحيى يسبقها، أو صفة الصغير تلحق بها.
أصبح هو البك، ليس «بك» وإنما البك كاملة خالصة له. فقد أرادت سهير أن تجعل منه رجل الأسرة الجديد، ولم يكن بد من أن تحيطه بكل هالات التوقير إذا كانت سنه وثقافته لا تستطيعان أن تحيطاه بشيء.
وحين مر بعض الوقت قالت راوية: ألا ترين من الأنسب أن أرجع إلى بيتي؟ - لماذا؟ - أنت تعرفين أن بيتي مغلق، ومن الطبيعي أن أعيش فيه مع ابنتي. - وما الطبيعي في ذلك؟ - كانت هالة مع جدها، أما الآن ... - شأنك عجيب يا راوية، هي الآن مع عمها في القرابة ومع أخيها في السن، فأي عجيب في ذلك؟ - ربما يحب يحيى أن يعيش وحده. - اسمعي. أنا وأنت لم نختلف طوال هذه السنوات، وأصبحنا كأخوات، وهذا البيت بيتي وبيت يحيى معا، وقد تعودت الحياة معك كما أعتقد أنك تعودت الحياة معي، وليس من الطبيعي أن تعيشي وحدك مع هالة وبيت عمها موجود. وإذا كان الباشا قد مات فإننا نستطيع أن نجعل من يحيى رجل البيت ونعيش معا. ودعينا لا نعود لهذا الحديث. - على شرط ... - قبلته! - أتعرفينه؟ - كنت لا تشاركين في نفقات البيت، والآن تريدين أن تشاركي؟ - فهل تقبلين؟ - نعم أقبل. •••
من حسن حظ هالة ومن حسن حظ يحيى، أو من سوء حظه لا أدري، أن هالة جاء لها خطيب.
أما أن هذا من حسن حظها فلا شك في ذلك؛ فإن هالة لم تستطع أن تتصور يحيى هو البك، فقد عاش عمره رفيق الملعب، وكانت تسخر سخرية شديدة من جو التوقير الذي تشيعه حوله أمه، وتشتد السخرية بها إذا رأت أمها تشجع هذا التوقير، ولم تكن تحتفظ بسخريتها لنفسها دائما، كانت تفجرها كلمات لا تتحرز أمام من تنفجر، وكثيرا ما كان ذلك يحدث أمام الخدم؛ فترتسم على أفواههم بسمات تنال - لا شك - من الهيبة الصارمة التي ينبغي أن تفرش تحت أقدام الأمير الصغير؛ البك.
وكان يحيى يجن من سخرية هالة، وكانت أمها تحاول - عبثا - أن تردعها.
ناپیژندل شوی مخ