المقدمة
أشخاص الرواية
1 - في حجرة رئيسة دار النظام
2 - في غرفة رئيسة دار النظام
3 - في السجن
4 - في المحكمة
المقدمة
أشخاص الرواية
1 - في حجرة رئيسة دار النظام
2 - في غرفة رئيسة دار النظام
3 - في السجن
4 - في المحكمة
نوب حتب
نوب حتب
تأليف
نبوية موسى
المقدمة
تتضمن هذه الرواية أسباب حرب الاستقلال، التي قام بها المصريون، في مدة الأسرة السابعة عشرة، حتى تهيأ لهم طرد الهكسوس في أول عهد الأسرة الثامنة عشرة، على يد الملك أحمس بن سكنن رع الثالث الملقب بالفاتح، كما تتضمن كثيرا من عادات المصريين القدماء، ومعتقداتهم، وطرق محاكمتهم، وكيفية انعقاد المحاكم، وتشريعهم في ذلك الوقت.
وقد ضمنتها كثيرا من الحوادث الشهيرة، التي حدثت في مصر في عهودها الأخيرة، فهي صورة حقيقية لأخلاق بعض الأشخاص المعاصرين، وتأثير التطورات السياسية فيهم، وفيها كثير من المناقشات العلمية والأخلاقية، التي يدور البحث فيها الآن، فهي صورة تاريخية للعصر الحالي طبقت تمام التطبيق على عصر قدماء المصريين، وبطلة الرواية نوب حتب تعتبر رمزا لمصر في حالتها الحاضرة.
أشخاص الرواية
(أ)
الأشخاص التاريخية: (1)
الملك سكنن رع الثالث من الأسرة السابعة عشرة. (2)
الملك أبيبي من الأسرة السابعة عشرة. (3)
الملك أحمس الأول من الأسرة الثامنة عشرة. (4)
الملكة نيفرتاري أحمس زوجة الملك أحمس. (ب)
الأشخاص الموضوعة: (1)
حابي: الكاهن الأعظم لدير آمون بطيبة. (2)
فتاح: النبي الثاني لدير آمون. (3)
سوتيخ: مفتش دور النظام التابعة لدير آمون. (4)
نوب حتب: رئيسة إحدى دور النظام التابعة لدير آمون. (5)
ماريت رع: كاتبة نوب حتب. (6)
نفرتيتي: ضابطة دار النظام. (7)
رودوبيس: معلمة بدار النظام. (8)
خاطي: بواب دار النظام. (9)
كاكا: خادمة نوب حتب. (10)
منقرع: أحد كهنة آمون وأحد قضاة المحكمة الكبرى. (11)
سنفرو: قاضي التحقيق وأحد كهنة آمون. (12)
أمنحتب: والي طيبة وأحد قضاة المحكمة. (13)
طاحوتي: والي عين شمس وأحد قضاة المحكمة. (14)
حوريس: والي منف وأحد قضاة المحكمة. (15)
حرحور: خادم حابي الخاص. (16)
السجانة.
الفصل الأول
في حجرة رئيسة دار النظام
كاكا :
السيدة نفرتيتي تريد مقابلة سيدتي.
نوب حتب :
دعيها تدخل.
نفرتيتي :
لقد مضى على غروب الشمس مدة طويلة يا سيدتي ، ولا تزال التلميذات اللائي أمرت بعقابهن باكيات في حجرة دراستهن، فهل يبقين أكثر من هذا، أم تأمر سيدتي بانصرافهن؟
نوب حتب :
إني أشعر يا نفرتيتي أني أظلم هؤلاء التلميذات، إذ أعاقبهن على الخلاعة والتبرج، ما دامت معلماتهن هن اللائي ينشرن بينهن تلك القدوة السيئة، بتبرجهن المعيب المخجل، وهذه السيدة رودوبيس قد جعلت من وجهها فاتورة لمختلف الألوان المتناقضة، فمن شفاه قرمزية، إلى أهداب وحواجب تكاد تنافس الليل في سواده وكثافته، ويعلو تلك الأهداب والحواجب السوداء شعر أصفر يضرب إلى البياض، كأنه سبائك من الذهب المخلوط بالفضة الناصعة، فهو لا يتناسب مع شعر حواجبها وأهدابها، ولا يوافق بشرة وجهها السمراء القاتمة، وقد أرادت بذلك أن تفوق يد الطبيعة في صنع الجمال، فظهرت للناس سخرية، يزدريها كل من وقع بصره عليها، ولست أدري كيف يستحسن الرجال مثل هذا التصنع الممقوت، الذي يخالف نظام الطبيعة فيما رسمته من فنون الجمال، فزينت السمراء بعينين سوداوين وشعر أسود جميل، كما وهبت الشقراء عينين زرقاوين، وشعرا ذهبيا يتناسب مع بياض بشرتها، فزادتها بذلك جمالا وروعة.
ضحت السيدة رودوبيس بالكرامة والشرف، في سبيل الجمال، فخسرت الثلاثة جميعا، لقد عارضت الآلهة فيما صنعوه من جمال الخلقة الطبيعية، فكفرت بهم وبآياتهم، وهي تعيش في دير آمون رب أرباب مصر، وعلى بعد خطوات من قدس أقداسه، ويساعدها على ذلك الكفر خادم الإله نفسه، فسلام على الدين ورجاله؛ بل سلام على الفضيلة والشرف، اذهبي يا نفرتيتي واصرفي هؤلاء التلميذات البائسات، اللائي قضى عليهن سوء الحظ أن يقوم بتربيتهن وتهذيبهن أمثال هؤلاء المعلمات، فيجنين على آدابهن شر الجناية. (يطلب السيد فتاح مقابلة سيدتي.)
كاكا :
عجبا! وما الذي جاء به في مثل هذا الوقت من الليل؟
نوب حتب :
وقد انصرفت التلميذات، ولم يعد في دار النظام إلا نحن المعلمات بعد أن انتهى عملنا، فماذا يريد منا هذا الرئيس؟
فتاح :
السلام عليك أيتها الرئيسة الفاضلة.
نوب حتب :
سلام يا سيدي.
فتاح :
كيف صحتك يا سيدة نوب حتب؟ وما حال دار النظام في عهدك الآن ؟
نوب حتب :
أشكر لك يا سيدي سؤالك عني، أما دار النظام فقد استطعت بمساعدة الآلهة أن أصلح من نظامها ونظافتها، أما التهذيب وأما الأخلاق، فهو ما أعاني المر فيه بلا جدوى.
فتاح :
إنك يا سيدة نوب حتب تطلبين الكمال المطلق في الأخلاق، وهو ضرب من المحال، ويخيل إلي أنك تجهلين الدنيا، وتريدين الفضيلة المجردة، التي لا وجود لها في هذا العالم؛ ولذلك تشتدين على مرءوساتك، ونصيحتي إليك أن تتساهلي مع المعلمات فيما يملن إليه من التمتع بنعيم هذه الحياة؛ فالفتاة لم تخلق للتقشف وتحمل المتاعب؛ بل هي زهرة تميتها شدة الضغط، فلا تحرمي الكون من أزهاره ورياحينه، فيصبح صحراء قاحلة لا يحب الإنسان البقاء فيها.
نوب حتب :
إننا نحن المعلمات، لا يجوز أن ينظر إلينا الرجال نظرهم إلى سائر النساء؛ بل نحن نقوم بعمل جليل، هو تربية الناشئات وتهذيبهن، وهو عمل لا يتفق مع اللهو والمجون، ولا يخفى عليك يا سيدي أن النفوس بطبيعتها ميالة إلى الفساد؛ ولهذا وجب أن يكون المعلم مثالا كاملا للأخلاق، حتى يضطر التلاميذ إلى محاكاته ولو قليلا، والتلميذات كعجينة لينة نصوغها نحن في القالب الذي نريده، فيجب أن نكون قدوة صالحة لهن، وإلا ضاعت الأخلاق التي لا قوام لأمة بغيرها، فإفساد أخلاق الناشئات أكبر خيانة لوطننا المقدس.
فتاح :
إنك تجهلين الحياة يا سيدة نوب حتب، ولست أريد أن أطيل الشرح معك فيما تجهلين، ولكن اسمحي لي أن أقول لك إن مولانا الكاهن الأعظم قد أرسلني إليك؛ لأرجوك في أمرين، أولهما: أن تحسني معاملة السيدة رودوبيس التي تشكو منك مر الشكوى، والثاني: أن تسمحي له بزيارتك وزيارتها ليلا لمجرد المؤانسة؛ لأنه يحب حديثكما، وكثرة عمله أثناء النهار تمنعه من زيارتكما نهارا.
نوب حتب :
إن زيارة رجال التعليم لنا ليلا قد تثير حول اسمنا واسمهم الظنون، وإني - حرصا على سمعتنا - ألتمس من مولانا الكاهن العدول عن رغبته هذه.
فتاح :
إنك يا سيدة نوب حتب شديدة قاسية، لا ترحمين من قاسوا من الحب والهوى ما لا طاقة لهم باحتماله، ومولانا الكاهن الأعظم لا يستطيع العدول عن تلك الرغبة، وقد أشاطره أنا فيها يا سيدتي، فلم تقسين علينا إلى هذا الحد؟ ولم تحرميننا التمتع بنعيم هذه الحياة كباقي رجال العالم؟
نوب حتب :
إني لا أتعرض لكم يا سيدي فيما تمتعون به أنفسكم، بعيدا عن دور التعليم، أما في معاهد العلم، وأما في دور الثقافة، فهو ما لا أسمح به ولا يسمح به شرف التعليم ورفعته.
فتاح :
إنك يا سيدة تنصحين رجالا، هم أكبر منك سنا، وأكثر تجربة، وأسمى مركزا، نحن رؤساؤك، لنا أن نأمر وعليك أن تطيعي، وأنا بصفتي النبي الثاني لدير آمون، وبما لي من الإشراف على هذه الدار، آمرك أن تقومي معي الآن، وأن تدخلي بي إلى حجرة السيدة رودوبيس.
نوب حتب :
أنا لا أسمح لك بذلك.
فتاح :
أنا رئيسك ولي أن أدخل هذه الدار أي وقت شئت، سواء في ذلك أغضبت أم رضيت، فسيري أمامي كملاك طاهر شريف، واتركي العناد فإنه لا يناسب رقتك ولطفك النسائي.
نوب حتب :
ليس لي من الرقة ومن اللطف ما يرضيك، فدع هذا، واعلم أني لا أسمح لك مطلقا بالدخول إلى محال السيدات ليلا.
فتاح :
ولكنني رئيس، أريد أن أدخل لأفتش عليك في غرفة نومك، فقد يكون من أمرك أنت ما يدعو إلى الريبة.
نوب حتب :
أما بعد أن صارحتني بنيتك، فلا أدخل معك ولا أسير إلى جانبك في هذا الظلام، وإذا أردت أن تدخل أنت فسأرسل معك نائبة تأخذك إلى حيث تريد.
فتاح :
ماذا تعنين يا خبيثة بألفاظك، التي تتضمن دائما معنيين؟
نوب حتب :
لا أعني شيئا، أكثر من أني أريد أن أرسل نائبة عني أنا، تأخذك أنت.
فتاح :
كفاك عبثا، وستندمين على هذا يوم لا ينفعك ندم.
نوب حتب :
أنا يا سيدي لا أندم، إلا إذا قصرت في عملي ولم أقم بواجبي، ولا يؤلمني شيء إلا تأنيب الضمير، وما دمت شريفة النفس مرتاحة الضمير، فلا آسف على شيء في هذه الحياة، وسيان عندي الموت والحياة والفقر والغنى، فالعمر مهما طال لا بد أن ينتهي، وخير للإنسان أن يموت شابا عن أن يكابد آلام الشيخوخة، وما أكل الغني الذهب والجواهر، ولا مات الفقير جوعا؛ بل كلاهما يأكل ليعيش، ولا يستطيع الغني أن يلتهم أكثر من سعة جوفه، فعلام يتحمل الإنسان الضيم، أو يفرط في الشرف حبا في المال، وهو متاع زائل؟
فتاح :
كفاك فلسفة خيالية لا قيمة لها، وسنرى ما تفعلين يوم تدور على رأسك الدائرة، وسيكون عقابك قريبا، وأمد تمتعك بهذا الخيال قصير المدى. (يخرج فتاح)
نوب حتب :
يا كاكا، ادعي السيدة ماريت رع إلى هنا.
كاكا :
سمعا وطاعة.
نوب حتب :
هل أنجزت الخطابات التي أمرتك بكتابتها؟
ماريت رع :
نعم يا سيدتي، ولي رجاء واحد، وهو ألا ترسلي هذا الإنذار إلى السيدة رودوبيس، وأنت تعلمين مكانتها عند مولانا الكاهن الذي يكاد يعبدها، وربما كان في ذلك ضرر عظيم عليك، وأرى يا سيدتي ألا تتعرضي لذلك الفاسد في أطماعه وشهواته، فإنه قوي قادر، وتعرضك له لا يفيدك شيئا؛ بل سيتغلب عليك في النهاية وينفذ مآربه.
نوب حتب :
إني يا مريت رع أعلم ذلك حق العلم، ولكن ضميري لا يسمح لي أن آذن بإفساد الأخلاق في معهد وكل إلي بمقتضى وظيفتي إصلاح الأخلاق فيه، إن هؤلاء الرجال يظلمونني في تحديهم لي، فأنا لم أتعرض لأحد منهم في منزله، ولا في دور الفساد التي يغشونها بعيدا عن معاهد التعليم، ولكني أنتقد بحق مشروع رجلا يوكل إليه تهذيب النفوس في معاهد علمية، فيقوم هو بإتلافها، وأنا أفضل كل شيء؛ بل وأفضل الموت نفسه عن أن أقصر في واجب ألقي على عاتقي القيام به.
ماريت رع :
ليكن يا سيدتي ما تريدين. (تخرج ماريت رع.)
الفصل الثاني
في غرفة رئيسة دار النظام
نوب حتب :
لقد بدأ الكاهن يحاربني حربا لا حول لي عليه ولا قوة، وسيفوز بما يريده من الانتقام مني، ولكن هذا أخف على نفسي من وخز الضمير، فإن العذاب في سبيل الشرف والذمة خير من نعيم هذه الحياة مقرونا بالعار وسوء السيرة، وما كنت يوما أقدمت على مخالفة الكاهن أجهل نتيجة عملي؛ بل كنت أعلم أن الفضيلة المجردة لا بقاء لها بين هؤلاء الناس، وأني سأذهب ضحية لأطماعهم، ولكني فضلت ما تريده الآلهة؛ فإن أيام الدنيا قليلة فانية، ويليها نعيم دائم أو عذاب لا خلاص منه.
فلا تتركي المعروف يا نفس واعلمي
بأن لهذا العمر ما طال آخرا
وإن كدرت دار الحياة التي هي
طريقك للأخرى فقد يحمد السرى
ومر مذاق السير لولاه ما غدت
حلاوة وضع الرحل تغري المسافرا
وغاية نيل المجد طلبتك التي
أرتك نياب الدهر سودا كواشرا
وقد أبت الأيام تتميمها فلا
فؤادك مرتاحا ولا النجح ظاهرا
كاكا :
أحد الكهنة يريد مقابلتك يا سيدتي.
نوب حتب :
دعيه يدخل.
منقرع :
السلام عليك يا تاج الكمال والشرف.
نوب حتب :
وعليك السلام يا سيدي الفاضل تفضل.
منقرع :
لعلك لا تعرفينني يا سيدة نوب حتب.
نوب حتب :
نعم يا سيدي وسأتشرف بمعرفتك الآن.
منقرع :
لا تهمك معرفتي، وما جئت إلا لأؤدي خدمة لسيدة اضطهدت لمجرد استقامتها وكمالها، فدفعني حب الفضيلة إلى مساعدتك دون سابق معرفة، وذلك بإخبارك بما يخبئه لك القدر، عسى أن ينفعك هذا الإخبار.
نوب حتب :
تفضل يا سيدي، ولك مني ألف شكر على تكرمك بمساعدتي دون معرفة سابقة.
منقرع :
تعلمين أيتها السيدة ما فعله الهكسوس ببلادنا المحبوبة، وكيف تغلبوا على القطر البحري، وخربوا معابده، وهدموا آثاره التي شيدها الفراعنة الأقدمون، واستعبدوا المصريين، وسخروا من آلهتهم، وكيف ضربوا علينا نحن في القطر القبلي الجزية واعتبرونا أتباعا لهم، ثم تغلبت عليهم مدنيتنا، فاقتدوا بنا في عبادتهم، ولكنهم لم يختاروا من آلهتنا إلا إله الشر سوتيخ، فعبدوه، واضطروا إخواننا في القطر البحري أن يعدلوا عن عبادتهم للإله رع إله عين شمس المشهور، وأن يعبدوا إله الهكسوس سوتيخ.
فلما انتصر مولانا الملك - متعته الآلهة بالصحة والعافية - في حروبه الأخيرة على النوبيين والإثيوبيين، خشي ملك أبيبي ملك هؤلاء الهكسوس أن يخرج عليه ملكنا الفاتح سكنن راع الثالث، فيطرده من بلاد آبائه الفراعنة، فأراد أن يهاجمه قبل أن تقوى سلطته ويشتد بأسه، فأخذ يرسل إليه الرسول تلو الرسول، ليطلب منه طلبات لا معنى لها، وما أراد بها ذلك الملك العاتي إلا فتح باب الحرب، وخشي مولانا الملك على أمته من بأس هؤلاء الطغاة، فأخذ ينفذ للملك أبيبي كل مطالبه معقولة كانت أو غير معقولة.
نوب حتب :
نعم يا سيدي أعلم ذلك، ومن بين هذه المطالب الغريبة ألا نعبد نحن سكان القطر القبلي إلا الإله آمون، وألا نذكر مع اسمه لا زوجته موت ولا ابنه الإله خنسو؛ بل نقصر عبادتنا على الإله آمون وحده، ومع غرابة ذلك المطلب فقد قام مولانا الملك بإجابته، وأرسل إلينا أوامره بذلك.
منقرع :
نعم أيتها السيدة، وقد استعمل الكاهن الأعظم لدير آمون هذا الطلب وسيلة إلى الإيقاع بك ودبر المكيدة لقتلك، فأمر مفتش دور النظام أن يقدم إليه تقريرا يقول فيه إنك كفرت بالإله آمون، وأنك تعلمين البنات ذلك الكفر، وقدم السيد فتاح تقريرا آخر قال فيه: إن الكاهن الأعظم لما اطلع على تقرير المفتش، أرسله ليتبين الخبر وينصح لك بالعدول عن غيك، فلم تقبلي ذلك، وقلت له إنك لا تسمحين لأحد بالتدخل في عقيدتك الدينية، وقد قدمت رودوبيس تقريرا ثالثا بهذا المعنى، وقدم الكاهن الأعظم هذه التقارير الثلاثة إلى مولانا الملك - متعته الآلهة بالصحة والعافية - وطلب منه محاكمتك فلم يعبأ مولانا الملك بهذه التقارير، فأرسل الكاهن إلى الملك أبيبي ملك الهكسوس خطابا، يقول له فيه: إن ملك مصر العليا، وإن كان يجيب طلباتك بالقول إلا أنه لا ينفذها فعلا، واستدل على ذلك بعدم محاكمتك، مع أنك خالفت الأوامر الصادرة منه بعبادة آمون وحده وعبدت الثالوث.
نوب حتب :
يا لها من دسيسة دنيئة! أيخون الكاهن الأعظم بلاده، ويحرض عليها الغاصبين سعيا وراء أطماعه ومفاسده؟ فبئس ما فكر ودبر.
منقرع :
إنه يا سيدتي لا يعرف أمام أطماعه وشهواته لا دينا ولا وطنا، ولهذا فعل فعلته هذه، غير آسف ولا نادم، وقد أرسل الملك أبيبي إلى مولانا الملك رسولا، يطلب منه القبض عليك حالا، وسجنك تمهيدا لمحاكمتك على الكفر بآمون إله طيبة الأعظم.
نوب حتب :
أيتهمني الكافرون بالكفر؟ فيا سبحان الله! لقد انقلبت الحقائق.
منقرع :
هكذا كان تدبيرهم، وقد اضطر مولانا الملك تلافيا للخلاف ودفعا للنكبة عن بلاده، أن يأمر بالقبض عليك، وسيقبضون عليك بعد ساعتين، وقد جئت لأنصح لك بالهرب، فإن هذه المحاكمة لا تنجلي إلا بالحكم عليك بالقتل، وسيثور ضدك الشعب المصري متى علم بكفرك، وهو شديد التمسك بدينه، فبادري إلى الهرب الآن قبل أن يقبض عليك قاضي التحقيق.
نوب حتب :
لست بمجرمة حتى أهرب من وجه القضاء، ولا أنا بخائنة بلادي مهما كانت الظروف؛ فإن هربي الآن قد يثير الظنون حول تصرف مولانا الملك بالنسبة لملك الهكسوس، فيظن ذلك الملك العاتي أن مولانا الملك هو الذي دبر لي طريقة النجاة، ويتخذ ذلك وسيلة لإشهار الحرب علينا، وما كنت لأضحي ببلادي في سبيل إنقاذ نفسي، ولهذا سأبقى لينفذ في أمر مولانا الملك، وإن كان في موتي خلاص للبلاد فسأموت باسمة مطمئنة.
منقرع :
هكذا تكون الشهامة يا سيدة نوب حتب، وهكذا تكون الوطنية، فعسى أن تهيئ لك الآلهة سبيل النجاة حتى لا تخسر مصر المسكينة مخلصة مثلك، فإلى الملتقى أيتها الضحية الطاهرة.
نوب حتب :
مصحوبا بالسلامة يا سيدي تحرسك الآلهة، فقد أديت لي من المساعدة ما قد يكون فيه نجاتي دون أن أخون مصر العزيزة أو أفرط في حقوقها، ولكن ألا أتشرف بمعرفة اسمك يا سيدي؟
منقرع :
اسمي منقرع. (يخرج منقرع)
نوب حتب :
هكذا يبيع هؤلاء الرجال الشرف والوطن والفضيلة في سبيل شهواتهم، فعفوك أيها الإله المشرق على عباده من سماء ملكوته، نعم عفوك يا آمون ورحمتك، فإني لم أخنك، ولست آسف أن أفارق تلك الدنيا المدنسة، ولكني كنت أود أن أموت ميتة يعلم منها أبناء وطني أني ضحيت بحياتي في سبيل هذا الوطن، فأكون بذلك مثالا لهم في التضحية وحب البلاد، لا أن أخرج من بينهم كافرة في اعتقادهم مغضوبا علي من الجميع، فعفوك أيتها الآلهة، فإني أول من يستحق الرحمة.
كفروا بآمون وألقوا إثمهم
ظلما على رأس البريء الآمن
مالوا إلى الإجرام إلا أنهم
ستروا فضائحهم بغدر المائن
يا ويح هذا الحظ في إدباره
يلقي على المطعون ثوب الطاعن
يا مصر كم أوذيت في إرضائك
وهوى بما أرجوه لهو الماجن
لله ما أحلى العذاب إذا أتى
من أجل مصر وفي هواها الكامن
يا رب مصر أغث فتاة أرهقت
واهد الأمين ورد كيد الخائن
آمون هل يرضيك ظلم غشومهم
وتنام عينك عن عقاب الكاهن (تدخل ماريت رع.)
ماريت رع :
قد أنجزت كتابة الخطابات التي أمرت بها.
نوب حتب :
دعي هذا جانبا يا ماريت رع، فإن لدي الآن ما هو أهم منه واجلسي أتحدث إليك، فإنه سيقبض علي اليوم بعد ساعتين، وسأقدم للمحكمة الكبرى بتهمة الكفر، فهل أنت مستعدة أن تضحي من أجلي، مع العلم إن فعلت فقد ينالك ضرر عظيم.
ماريت رع :
إن مصلحتي الشخصية قد أصبحت مرتبطة بمصلحتك، فأنا مضطرة أن أضحي في سبيل مصلحتنا المشتركة بكل ما أستطيع، تضحية اليائس الذي يصدق عليه قول الشاعر:
أنا الغرق فما خوفي من البلل
لأن ما بيني وبين السيدة رودوبيس من العداوة الآن يجعل بقائي بعدك ضربا من المحال، ولو بقيت لفعلت بي أشد مما فعلت بك، فأمري بما ترين تجدي مني صديقة صادقة.
نوب حتب :
سأخبرك بكل شيء يا ماريت رع؛ لتكوني على علم بالحالة تماما، وتستطيعي مساعدتي بما يعن لك من الآراء، علنا نلتمس طريق النجاة، أنت تعلمين ما يقوم به الكاهن الأعظم من إفساد أخلاق معلمات دار النظام سعيا وراء شهواته، وكيف كان يقضي معهن شطرا من الليل فيما تحرمه الآلهة، سواء أكان في هذه الدار المقدسة أم خارجها، وقد أراد أن يصل إلى غايته هذه في مدة رياستي، فرفضت طلبه رفضا باتا، فعول على أن يزور رودوبيس في مخدعها خفية، وأرسل إليها خطابا ولما علمت أن الخطاب من عنده فضضته واطلعت عليه ثم نقلته في خطاب آخر محاكية خطه بدقة، وسلمت الخطاب الذي كتبته إلى رودوبيس، واحتفظت بخطابه الأصلي حجة عليه، وها هو الخطاب أقرؤه عليك الآن؛ لتسمعي ما يقوله ذلك الكاهن، الذي ينظف جسمه مرات عديدة في اليوم ليدخل على آمون في قدس أقداسه طاهر البدن والثياب، وهو ملوث الروح بأفظع القاذورات.
معبودتي رودوبيس
لم تسمح رئيستك اللعينة بدخولي إليكن، وسأنتقم منها شر انتقام، ولكني لا أستطيع أيتها المحبوبة أن أبعد عنك، ريثما أتخلص من تلك الشريرة، ولهذا دفعني الشوق العظيم إلى رؤيتك أن أخاطر وأزورك الليلة عند منتصف الليل تماما، وسأتسلق السور الغربي من حديقة دار النظام، فكوني في انتظاري هناك لأسير معك إلى مخدعك.
عبدك حابي
هذا هو كلام رجل الدين الذي يدعي أنني كفرت بالإله آمون، وهذا هو مقدار إيمانه بالآلهة العظام، يدنس معابدهم ويعيث فسادا في أماكنهم المقدسة.
ماريت رع :
وما الذي تم يا سيدتي في تلك الليلة؟
نوب حتب :
أمرت خاطي بواب الدار أن يسهر في ذلك المكان من الحديقة، وقلت له إنه بلغني أن لصا سيتسلق ذلك السور في منتصف الليل، وفي الساعة المعينة ذهبت إلى مخدع السيدة رودوبيس لأعوقها عن الذهاب إلى ذلك المكان، فوجدتها على أهبة الخروج، فبقيت معها أحادثها بعض دقائق، ثم ذهبت إلى الحديقة، ولما وصلت إلى المكان الذي عينه الكاهن، وجدت أن خاطي قد قبض عليه، ولما تبين وجهه على ضوء القمر وعرفه خاف منه وخر له ساجدا، فذهب الكاهن مسرعا من حيث أتى وسقط منه أثناء هربه صولجانه الكهنوتي، فأخذت الصولجان وحفظته عندي دليلا على جريمته وها هو.
ماريت رع :
لله ما أفظع هذه الحوادث! وما أقواك يا سيدتي في محاربة هؤلاء العاتين!
نوب حتب :
ليس هذا كل شيء يا ماريت رع، فقد أرسل الكاهن اليوم خطابا آخر إلى رودوبيس، يطلب منها فيه أن تزوره في مخدعه في الدير، فاسمعي ألفاظ ذلك الرجل الديني.
حبيبتي رودوبيس
حضرت حسب وعدي لك في خطابي السابق، فوجدت بواب الدار يترقب حضوري دون أن أنتبه إلى وجوده، فقبض علي ولكنه لما تبينني خاف مني وتركني، ولا أدري كيف عرفت تلك الخبيثة خبر مجيئي فاستعدت له؟ فهل أخبرت أحدا بمضمون هذا الخطاب؟ أم إن نوب حتب أصبحت تشاطر آلهة الشر في إيذاء الناس؟ لنؤجل هذه الأسئلة لساعة اللقاء، فإني في شوق عظيم إلى رؤيتك، لا أستطيع الصبر عليه، لهذا أرجو أن تأخذي تصريحا بالخروج اليوم بعد انتهاء عملك، وأن تحضري إلى بواب الدير وتبقي في غرفته إلى نصف الليل، وهناك يرشدك هذا البواب إلى مخدع نومي، وإني أبشرك أن يوم الانتقام سيكون قريبا، وسترين بعينيك الجميلتين ما ينال تلك العنيدة من الإهانة والعذاب، فتخرج من هذه الحياة مغضوبا عليها من الناس والآلهة العظام.
ماريت رع :
أكاد أسمع قصة خرافية، لم أكن لأصدقها لولا صدورها منك، أنت التي لا تعرفين الكذب، وما الذي تراه سيدتي الآن؟
نوب حتب :
تعلمين أني علمت الأميرة نيفرتاري ابنة مولانا الملك، ولي بها صلة متينة، فخذي هذه المستندات واذهبي إليها في البيت الأعظم، وخذي معك خاطي وامكثا عند الأميرة إلى أن تسمعي يوم انعقاد المحكمة لمحاكمتي، فاحضري بمستنداتك هذه كدليل قاطع على كفر ذلك الكاهن وفجوره، وأخبري الأميرة كل شيء، فهي لا تتأخر عن مساعدتك في مهمتك الشاقة واحذري أن تخبري أحدا من حاشيتها بذلك، أو بحقيقة اسمك حتى لا تحوم حولك الظنون، أما خاطي فاطلبي من الأميرة وضعه في محل أمين والعناية براحته دون أن يسمح له بالخروج، فإنه يخشى الكاهن الأعظم، ويظن أن مخالفته كفر بأوامر الآلهة، ومحال أن يفهم غير ذلك، ولكنه مع هذا كله سيكون شاهدي الوحيد أمام المحكمة.
يا كاكا ادعي لي البواب خاطي.
كاكا :
سمعا وطاعة.
ماريت رع :
سأفارقك يا سيدتي بقلب كسير يكاد يفتته الحزن والأسى، راجية من الآلهة أن يسددوا خطاك، وأن ينصروك على أعدائك نصرا مبينا، وكم كنت أود أن أكون إلى جانبك في تلك الكارثة الأليمة، ولكن هكذا أراد آمون، فصبرا على ما يريد.
نوب حتب :
لا تجزعي يا مريت رع، واستقبلي أيام جهادنا هذه بجأش ثابت وصبر جميل، فقد يتغلب حقنا على باطلهم، ونخرج من مكيدتهم هذه ظافرتين. (يدخل خاطي)
خاطي :
السلام عليك أيتها الرئيسة.
نوب حتب :
وعليك السلام يا خاطي، ألا تزال خائفا مما فعلته مع الكاهن الأعظم؟
خاطي :
وكيف لا أخاف، وقد أخسر بغضبه الدنيا والآخرة، وماذا تقول روحي في قاعة العدل، وهي تدافع عن نفسها أمام الإله أزوريس وقضاته الاثنين والأربعين، وكيف أستطيع أن أبرئ نفسي وأقول إني لم أغضب كاهن قريتي بعد أن أغضبت الكاهن الأعظم لدير آمون رب أرباب مصر العظيم.
نوب حتب :
لا بأس يا خاطي، فسيعفو عنك الكاهن عندما تهدأ ثورة غضبه، أما الآن فليس من الحكمة أن يقع بصره عليك، فاذهب مع السيدة ماريت رع إلى أن يرضى عنك، وإياك أن تتعمد مقابلته بنفسك، وإلا كان في ذلك هلاكك، اذهبي الآن يا ماريت وأسرعي قبل فوات الوقت مصحوبة برعاية الآلهة، وخذي معك خاطي.
كاكا :
السيدة رودوبيس تريد مقابلتك يا سيدتي.
نوب حتب :
دعيها تدخل.
رودوبيس :
وصلني اليوم خطاب من أخي.
نوب حتب :
نعم أعلم بالخطاب كما أعلم من أين أتى.
رودوبيس :
عجبا! وكيف تعلمين ذلك؟
نوب حتب :
وما هو وجه العجب؟ ألم أستلم أنا بنفسي ذلك الخطاب وأرسله إليك؟ فأنا أعلم به.
رودوبيس :
ومن أين تعلمين أنه من أخي؟
نوب حتب :
ألم تقولي لي الآن إنه من أخيك؟ إذا أنا أعرف الخطاب كما أعرف من أين أتى، وماذا تريدين؟
رودوبيس :
أريد تصريحا لي بالخروج اليوم؛ لأن أخي يريد مقابلتي لأمر عائلي.
نوب حتب :
وهل يسر أخاك أن يراك على تلك الصورة من التبرج والزينة؟
رودوبيس :
إن أخي - ولا شك - يحب أن يراني فتاة جميلة، لا رجلا فظا غليظا.
نوب حتب :
وهل تعتقدين أنك أصبحت جميلة بتلك الزينة المصطنعة والتبرج المعيب؟ قد يكون الجمال يا سيدتي مع بساطة الملبس وحسن اختيار الألوان المتناسقة الجميلة، دون أن تخرج السيدة على حدود الكمال والأدب، وأنت معلمة يجب أن تكوني قدوة صالحة لتلميذاتك في الأدب، والكمال، وحسن الاختيار، والصدق في القول، والعمل، وليس من الصدق في شيء أن تغير المعلمة الحقيقة، حتى في خلقتها الطبيعية، ولا من الدين أن تبطر المعلمة على ما وهبه لها الآلهة من الجمال الطبيعي، فتستبدل به جمالا صناعيا ممقوتا.
رودوبيس :
أنا لا أبطر النعمة التي وهبتها لي الآلهة، ولكني أساعدهم على تحسين ما أبدعوه في نفسي من الجمال.
نوب حتب :
إن يد الصناعة أعجز عن أن تحسن ما ابتدعته الآلهة من الخلقة الطبيعية، هذا فضلا عن أن ضياع الوقت في مثل هذه السخافات، لا يتفق مع ما يجب على المعلمة من صرف وقتها فيما ينفع تلميذاتها، وظهورها أمامهن بمظهر الكمال المطلق، لتضرب لهن المثل الأعلى في التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل.
رودوبيس :
إن مظهر المعلمة لا يدل على فضائلها؛ فقد تكون المتبرجة أكثر عفة واستقامة من غيرها من المحتشمات.
نوب حتب :
إن عنوان الشيء دليل عليه، ولو كتب على باب كلمة مرحاض لما ولجه أحد ليبحث فيه عن أزهار ورياحين.
رودوبيس :
لكن أنا بابي مكتوب عليه حديقة غناء، لا مرحاض كما تقولين.
نوب حتب :
قد يكون ذلك من جهة المادة، أما من الوجهة الأدبية، فهو فوق ما ذكرت، لأن هذا الزي يبث فساد الأخلاق في نفوس التلميذات، فأنت تجنين على مصر بزيك هذا؛ إذ تفسدين به أمهات الغد وعماد الأسر في المستقبل.
رودوبيس :
قلت لك إن الظاهر لا عبرة به، ولا يدل على شيء أكثر من حب التمتع بزينة الحياة، ولا تقدر أخلاق الإنسان إلا بما يبطن.
نوب حتب :
إن ظاهرك يا سيدتي قدوة لتلميذاتك، أما باطنك فلا يعرفه إلا الآلهة ومولانا الكاهن الأعظم، كما تعلمين.
رودوبيس :
وماذا تعنين بهذا التهكم؟
نوب حتب :
أعني أن الآلهة قد وهبوا مولانا الكاهن الأعظم معرفة الغيب، فهو يعرف باطنك، أما نحن والتلميذات فلا نعرف إلا الظاهر لنا، ومع ذلك فدعينا من تلك المناقشة لأنها غير مجدية، وما دمت تتمسكين بإصابة رأيك فليس لي إلا أن أقول معك جدلا بأنك مصيبة!
رودوبيس :
أنا لا أفهم كلامك الذي اعتدت أن تقصدي به دائما معنيين.
نوب حتب :
وما الذي لا تفهمينه من كلامي، وأنا أصارحك أنك مصيبة في التعليم، أي إنك يا سيدتي مصيبة فيما تقولين، عن ظاهرك وباطنك؟ ومع هذا فدعينا من ذلك أيضا، وبلغي سلامي لأخيك.
رودوبيس :
وهل تعرفين أخي؟
نوب حتب :
طبعا أعرفه تمام المعرفة.
رودوبيس :
أنا لا أفهم ألغازك هذه فاصدقيني بحق آمون ماذا تقصدين؟
نوب حتب :
ألم تقولي لي الآن إن أخاك يحب الجمال؟ فأنا أعرفه لأني عرفت صفة من صفاته، ولهذا أطلب منك أن تبلغي سلامي لذلك الذي يحب الجمال، وإلى الملتقى يا سيدة رودوبيس. (تخرج رودوبيس ويدخل قاضي التحقيق.)
سنفرو :
جئت بأمر فرعون مصر - متعته الآلهة بالصحة والعافية - لأحقق معك فيما نسب إليك من الكفر، الذي لا يليق بمعلمة يجب أن تكون قدوة صالحة لتلميذاتها، في القيام بما يجب عليها من عبادة الآلهة وتمجيدهم، لا سيما رب الأرباب آمون رع إله طيبة العظيم.
نوب حتب :
حاشا يا سيدي أن أكفر بالآلهة أو أقصر فيما يجب لهم من التمجيد والإطراء.
سنفرو :
لا فائدة من الإنكار الآن، فقد شهد عليك بالكفر ثلاثة من أفاضل الناس، أولهم مفتش معاهد الدير، إذ يقول إنه رآك بنفسه تسخرين أمام التلميذات من الإله آمون، وتقولين إنك لا تمجدين إلا الإله سبك، وقد شهدت السيدة رودوبيس بما يؤيد شهادته، وقد تفضل مولانا الكاهن الأعظم لدير آمون، وأرسل إليك السيد فتاح النبي الثاني للدير؛ لينصح لك بالعدول عن غوايتك، فلم تعبئي بنصحه، بل سخرت منه وأسأت الأدب في الرد عليه، وقد جئت الآن بأمر من مولانا الملك سكنن رع الثالث - أمدته الآلهة بالنصر - لأحقق معك فيما اتهمت به، فأرجو أن تجيبي على أسئلتي باختصار تام، وألا تخرجي في إجابتك عن السؤال قيد أنملة (إلى الكاتب):
اكتب السؤال الأول.
س:
هل فتش الكاهن سوتيخ على المعهد هذا العام؟
ج:
نعم فتش، ولكن ما علاقة هذا بالتهمة؟
سنفرو :
هذا خروج عن السؤال، فاكتب أيها الكاتب الشطر الأول من إجابتها فقط.
س:
هل حضر إلى مكتبك السيد فتاح موفدا من قبل مولانا الكاهن؟
ج:
نعم حضر لا لينصح لي، ولكن ليطلب مني ما لا أرضاه.
سنفرو :
لا تكتب إلا الشطر الأول من إجابتها فقط؛ لأنها تخرج كثيرا عن السؤال، والجميع يتهمونها بحب الطعن في الأعراض بلا مبرر، ونحن هنا لا نسمح لها بذلك.
س:
ألم يخرج السيد فتاح مغضبا من مكتبك؟
ج:
نعم خرج مغضبا.
س:
ألم تختلفي كثيرا مع السيدة رودوبيس؟
ج:
نعم اختلفت معها؛ لأنها مثال سيئ لتلميذاتها.
سنفرو :
قلت لك لا تخرجي عن السؤال؛ لأننا لا نريد إلا الإجابة المختصرة، ولا نكتب غيرها فامضي إذا على إجابتك.
نوب حتب :
لم يكتب الكاتب شيئا يصح أن أمضي عليه.
سنفرو :
لقد كتب الشطر الأول من إجابتك، ويجب أن تمضي عليه؛ لأنه صحيح لا تغيير فيه.
نوب حتب :
ولكنه لا يفيد شيئا.
سنفرو :
ليس تقدير هذا من شأنك أنت؛ بل هو من شأن القضاة. (تمضي نوب حتب.)
سنفرو :
اكتب أيها الكاتب أن التحقيق أسفر عن اعتراف السيدة نوب حتب بكل ما اتهمت به، فقد قالت إن الكاهن سوتيخ فتش هذا العام على دار النظام، كما اعترفت بأن الكاهن الأعظم قد أرسل إليها السيد فتاح، وأنه خرج من مكتبها مغضبا، ولا يمكن أن يكون لغضبه هذا من سبب إلا إصرارها على الكفر، وعدم اهتمامها بنصيحته، كما اعترفت أيضا بأنها اختلفت كثيرا مع السيدة رودوبيس، وليس لهذا الخلاف من سبب، إلا ما كانت تظهره أمام السيدة رودوبيس من الكفر بالآلهة، ولهذه الأسباب يا سيدة نوب حتب آمر بالقبض عليك الآن؛ لثبوت التهمة ضدك.
نوب حتب :
إنك تقبض علي يا سيدي؛ لأنك تريد ذلك، لا لأن التهمة ثبتت ضدي.
سنفرو :
هذا طعن في القضاء المقدس، الذي لا يجوز أن ينتقده إنسان، وأنا لا أسمح لك ولا لغيرك بمس كرامة العدالة، التي نسهر نحن القضاة على حراستها فاقبضوا عليها أيها الجنود.
الفصل الثالث
في السجن
نوب حتب :
لقد مضى علي في هذا السجن المظلم سنتان، لم أعلم في أثنائهما شيئا من أمور الدنيا، وما ساءني هذا السجن بضيقه وظلمته، بمقدار ما ساءني جهلي بأخبار مصر العزيزة، التي لا أعلم عنها شيئا الآن، وأخشى أن يكون الملك أبيبي قد أشهر الحرب علينا، وتمكن من الفتك بنا، فما أشد وقع جمالك يا مصر علينا نحن أبناءك المساكين! فلولا جوك الرائق الجميل، ورياضك وجناتك الفيحاء لما تهافت عليك الأجانب، فتمتعوا بخيراتك وحرموا منها أبناءك، فتبا لهذا الجمال المحسود!
يا مصر يا بهجة التاريخ والأثر
وروضة زانها الرحمن بالدرر
أغرى بنا حسنك الأقوام فاحتشدوا
يهددون ابن وادي النيل بالخطر
أشقى جمالك أهلينا وأسعدهم
لله در جمال جاء بالضرر
وهكذا الغيد كم جرت محاسنها
لعاشقيها صنوف الهم والغير
يا ليت أرضك لما أنبتت ذهبا
لغير أهلك خانتها يد القدر
أدعو عليك ولو خيرت طائعة
لبعت نفسي فدا حصباك يا وطري
يا أم فرعون علمت التي جهلت
لفظ الغرام معاني الحب والسهر
يا جنة الخلد ماذا جر معشرنا
حتى تحولت من روض إلى سقر
نفسي فداؤك هل لا زلت غاضبة
ونحن نشري الرضا بالسمع والبصر
لا تغضبي فرجال النيل ما برحوا
أهلة الكون من بدو ومن حضر
حابي :
يقودهم نحو نيل المجد سيدهم
فرعون ذو الهمة الشماء والخطر (يدخل الكاهن الأعظم.)
الكاهن الأعظم :
ألا تزالين على فلسفتك الخيالية الخلابة، التي تضرك ولا تفيد البلاد؟ فقد أوقعك عنادك في هذا السجن، الذي لا تخرجين منه إلا إلى موت مخجل معيب، وقد تحدد موعد انعقاد المحكمة لمحاكمتك في الأسبوع المقبل، فعودي إلى رشدك واستغفري من هفواتك، وقومي بما أريده منك لأعطف عليك وأخلصك من ورطتك هذه، وإلا فستندمين حيث لا ينفع الندم.
نوب حتب :
أنا لا أندم أيها الكاهن إلا على ارتكاب الجرائم والآثام، أما أن أسجن ظلما، وأن أقتل لتهمة كاذبة، فهو ما يجب أن يندم عليه غيري من المجرمين، وعين الآلهة لا تنام عن الخائنين، أنت أولى مني بالندم أيها الكاهن؛ لأنك خنت بلادك التي أنبتتك، فوجب أن يقتلك وخز الضمير، وأنت الكاهن الأعظم تدخل على الإله في قدس أقداسه ملوث النفس بأدران الرذيلة، وستندم أنت يوم تقف بين يدي الإله أزوريس في قاعة العدل، ويوم تتناولك عيون قضاته وأنت مطرق خجلا مما ارتكبت.
حابي :
عجبا لك يا نوب حتب! تذكرين الآلهة كما يذكرها السذج من الناس، بعد أن بلغت من العلم ما بلغه عظماء الرجال، وكان يجب عليك أن تعرفي الأمور على حقيقتها، فما بالك تتخبطين في الجهل والأوهام تخبط عامة الشعب؟ أتجهلين يا نوب حتب من هم هؤلاء الآلهة الذين تذكرينهم؟ وهل كانوا إلا آلات صنعناها نحن بأيدينا؛ لنتملك بها رقاب البشر؟ ألسنا نحن الكهنة الذين نتكلم من جوف الإله آمون يوم عيد الأموات، فنخاطب الملك والرعية بما نريد، ولقد كان في استطاعتي وأنا أتكلم من جوف الإله في العيد الماضي أن آمر بتقطيعك إربا، فيتسارع الناس إلى تنفيذ أمري ملوكا وسوقة؛ فاسمعي نصيحتي وتمتعي بنعيم هذه الدنيا؛ فليس بعدها نعيم ولا شقاء كما تتوهمين.
نوب حتب :
هب أيها الكاهن أني أصبحت مثلك لا دين لي ولا عقيدة، فهل كنت أرضى بذلك النقص المعيب في الأخلاق؟ إني أكره الرذيلة، لا لأن الدين نهاني عنها، ولكن لأنها نقص أخلاقي يجب أن أترفع عن الهبوط إليه، وأحب الفضيلة، لا لأن الدين حض عليها؛ بل لأنها كمال نفساني تعشقه نفسي وتهواه، إني أقدر الرجال بمقدار عقولهم، والرجل الذي يتغلب هواه على عقله، حيوان لا قيمة له في نظري مهما كانت سلطته المادية، وكفاك نقصا أيها الكاهن أنك بانغماسك في شهواتك وملاهيك، تضطر إلى الكذب لتخفي سوآتك، والكذب خلة لا يرضاها أحد من الفلاسفة الذين تدعي الانتساب إليهم، وكفاني أنا شرفا في نظرك أنت، ونظر أمثالك من الكافرين، أني لا أنحط إلى رذيلة الكذب الممقوتة.
إنك رجل من رجال التعليم العموميين، يجب أن تفكر في صالح الناس، فهل من صالح العالم أن تصارحنا بتلك الأفكار السامة، التي لا تؤدي إلا إلى الخراب والفوضى؟ إن الفقير من عامة الناس يقضي طول يومه في عناء متواصل، ويعود بعد عمله الشاق إلى مثواه الحقير، فلا يجد ما يسد به رمق الحياة، ومع ذلك تراه ينعم بالخيال؛ إذ يعتقد أن حظه في الآخرة عظيم؛ لأن الآلهة ستكافئه على تعبه هذا بخير جزيل، فكيف تحرم هؤلاء المساكين من التنعم حتى بالخيال، وتسلب منهم تلك السعادة الموهومة، التي لولا انتظارهم لها لثاروا على الأغنياء، فمزقوهم شر ممزق، واستولوا على أموالهم؟ وهكذا تخرب الدنيا بمسعاك ومسعى أمثالك، ممن يدعون الفلسفة وليس لهم من العقول السامية والمدارك العالية ما يؤهلهم لها.
إن الفلاسفة الحقيقيين لا تنحط نفوسهم إلى الرذيلة مهما كان اعتقادهم في الدين، فنفوسهم الأبية الكاملة لا تحتاج إلى تعاليم دينية، كما لا يحتاج كرام الناس إلى الحكومات في ردهم إلى الصواب، فاعتقادهم لا يضر العالم شيئا ما دام لهم من علو نفوسهم دين قويم، ومن حكمتهم وتبصرهم ما يمنعهم من التصريح أمام العامة بما يعتقدون، أما أنتم أنصاف الفلاسفة المغرورون، فالويل للعالم منكم!
حابي :
إنك عنيدة يا نوب حتب، لا ينفع معك نصح ولا تهديد، وسترين كيف تكون نتيجة عنادك وفلسفتك، يوم تقفين أمام المحكمة الكبرى، ويوم تخرجين منها محكوما عليك بالعار الدائم فتموتين مغضوبا عليك من جميع الناس.
نوب حتب :
لست أندم أن أعاقب ظلما، فلست أول من ظلم في هذا العالم، ولقد سجن قبلي يوسف الصديق لتمسكه بأهداب الفضيلة، ثم هيأ له آمون طريق النجاة، فخرج من السجن إلى إدارة الملك.
حابي :
إذا فتمتعي بخيالك إلى أن يصل إليك ذلك الملك الذي تتخيلين. (يخرج حابي)
نوب حتب :
ما أشد غواية هؤلاء الرجال وأقسى قلوبهم! يعبثون في دور العلم بأعز ما تحرص عليه البلاد، وهو الأخلاق التي لا قوام للوطن إلا بها؛ فهم يضحون بأوطانهم في سبيل شهواتهم، فما أضعف إرادتهم وأوهى وطنيتهم! ولولا مساعدة الغاصبين لأمثال هؤلاء الرجال لما تمكنوا من إفساد الأخلاق في معاهد التعليم نفسها تنكيلا بمصر العزيزة، التي حسد الغاصبون جمالها، وتعلقوا بهواها فحقدوا على أهلها، واستعملوا ضعاف النفوس منهم آلات لتخريب البلاد وإفسادها.
نعم تيم الهكسوس من مصر حسنها
فأرغوا على أهل البلاد وأزبدوا
وسدوا سبيل المجد عنا وما دروا
بأنا بذاك الضغط نعلو ونصعد
فيا بهجة الدنيا جمالك جرهم
ولولاه ما كنا نهان ونوعد
أجل شاقهم ذاك الجمال فأقبلوا
كما شاق أهليك من اللهو مفسد
لعل بنيك يقتدون بفعلهم
فيجذبهم منك الصعيد المنضد
يهيمون في حب النساء وفاتهم
بأنك أبهى وأمجد
لذلك صنت عذب نيلك عنهم
وقد طاب منك للأجانب مورد
ضننت عليهم إذ رأيت عقوقهم
وجدت بما يهوى الغريب المطرد
فلا تغضبي يا مصر منهم فإنهم
أهاب بهم في حلبة الغي مقصد
لك الحب ممن ليس يعرف قلبها
غراما فهل يرضيك ذاك التودد؟
أحبك حتى إن دهتني مصيبة
من الحب لا أشكو ولا أتردد
ويعذب فيك ما أمر وما حلا
وإن قصد الأعداء ذلي ونددوا
وأسعد يوم في حياتي أن أرى
وقد حاط بي أعداء مصر وهددوا
وقفت حياتي للعلوم لعلني
أساعد مصرا في العلا وأؤيد
فإن خذلتني الحادثات فما أنا
بأول جماع لدهر يبدد
وما طلبت نفسي من العيش غاية
ولا حل من قلبي الهناء المعدد
وأرضى بما لا ترتضيه ثرية
فما ضرني مال لدى الخطب يفقد
سأرضى بما يرضيك يا مصر من أذى
وإن أكثر العذال لومي وفندوا (يدخل أمنحتب)
أمنحتب :
السلام عليك أيتها السيدة.
نوب حتب :
سلام أيها السيد.
أمنحتب :
جئت من عند الأميرة نيفرتاري زوجة الأمير أحمس؛ لأخبرك بقرب انعقاد المحكمة لمحاكمتك.
نوب حتب :
علمت ذلك يا سيدي، ولكني أود أن أعلم الآن، ما هو أهم منه في نظري، وهو ما تم في أمر مصر المحبوبة، فهل تمكن ملك الهكسوس الطاغية من إشهار الحرب علينا؟ أم تغلب عليه ملكنا المحبوب بحكمته؟
أمنحتب :
لقد تم يا سيدتي ما هو خير من هذا وذاك، فقد أشهر الهكسوس الحرب وخرجوا من عاصمة ملكهم أواريس في جيش عظيم يقصدون طيبة، وكان ملكنا - أيدته الآلهة بالنصر والظفر - قد اتخذ لذلك عدته، وجمع تحت لوائه الخفاق أغلب أمراء مصر، وملأ قلوبهم حماسا وغيرة، وما كاد أبيبي يترك عاصمة ملكه حتى خرج عليه الأمراء المستقلون الواحد بعد الآخر؛ وكان أول من شق عصا الطاعة، أمراء الفيوم الكرام، وما كاد ذلك الطاغية يصل إلى منتصف الطريق حتى قتل المصريون أغلب جنوده، فانهزم شر هزيمة، وعاد إلى حصنه الحصين في أواريس واحتمى به، فحاصرته جيوش المصريين المظفرة وجمع مولانا الملك جيشا جرارا تحت قيادة نجله الأمير أحمس، فسار إلى الهكسوس الطغاة وحاصرهم في عاصمتهم، ولا يزال ذلك الجيش محاصرا لهم إلى الآن، ويعمل الأمير أحمس بجد.
نوب حتب :
في جمع كلمة المصريين تحت راية أبيه الملك الفاتح، أيدت الآلهة الملك ونجله ونصرت المصريين على أعدائهم الظالمين.
أمنحتب :
لقد أصبح النصر محققا يا سيدتي، ويتنبأ كثير من السحرة الآن بمستقبل باهر لذلك الأمير الشاب، فيقولون إن طرد الهكسوس من مصر سيتم على يديه، وستوحد كلمة البلاد تحت رايته، فيصبح ملك القطرين البحري والقبلي، كما يتنبئون لتلميذتك نيفرتاري بمستقبل عظيم، تتمتع فيه بسلطة واسعة وتشارك زوجها في سياسة البلاد، سياسة عقل وحكمة تجعلها معبودة الشعب فيعبدها المصريون في حياتها وبعد موتها.
1
نوب حتب :
بشرتك الآلهة يا سيدي بالخير والسعادة، فقد بشرتني بما أثلج صدري، وجعل هذا السجن - على ضيقه وظلمته - أبهى من الجنة الواسعة في عيني، وما دمت قد اطمأن قلبي على مصر فلا يهمني من أمر المحكمة شيء، وليكن ما تريده الآلهة.
أمنحتب :
ولكن مولانا الملك يهمه ألا يظلم أحد في أيام حكمه وألا تخسر مصر مخلصة مثلك، وكان بوده لو استطاع أن يعفو عنك بلا محاكمة، ولكن تعلمين ما لهؤلاء الكهنة من النفوذ في نفوس الشعب، ويخشى الملك إن هو عفا عنك بعد أن اتهمت بالكفر أن يتهمه الشعب بالخروج على الدين، وهي فتنة عظيمة؛ ولهذا يريد الملك أن تظهر براءتك وخيانة الكاهن، فيعاقب المجرم بما جنت يداه من الجرائم الأخلاقية والوطنية، ولهذا نفسه أرسلتني الأميرة نيفرتاري؛ لأعرف ما لديك من البينات حتى ندبر لك الدفاع، كما أمرتني أن أطلب منك بأن تتمسكي أمام المحكمة بوجوب سماع أقوالك، وانتظار مستنداتك إن كان لديك شيء منها، وإياك أن تأخذك من المحكمة رهبة فتحجمي عن الدفاع عن نفسك خوفا من الكهنة الظالمين.
نوب حتب :
لقد كان تحت يدي خطابان بخط الكاهن، وصولجانه الكهنوتي، فأودعت هذه الأشياء عند صديقة لي قبل القبض علي، ولا أدري ما جرى لها بعد سجني، وعندي بينة واحدة في هذا السجن، فقد رأيت السجانة تتسمع من بعيد ما كان يقوله لي الكاهن الأعظم من الكفر والإلحاد، عندما زارني قبلك ببضع دقائق.
أمنحتب :
وهل تقبل السجانة أداء الشهادة ضد الكاهن؟
السجانة :
ولم لا أقبل؟ ألست مصرية يجب علي أن أحترم آلهة المصريين، وأن أدافع عن مصر ضد الخائنين؟
أمنحتب :
حسنا يا سيدتي، فسيكون لك من الآلهة خير الجزاء، ومن الأميرة نيفرتاري مكافأة تليق بوطنيتك.
السجانة :
أنا لا أريد أن أكافأ على القيام بما فرضه علي الدين والوطن. (يخرج أمنحتب)
نوب حتب :
لست أدري أعدو هذا الرسول أم صديق، ولا من أرسله إلي؟ ولو أنه رسول من الأميرة كما يقول، لعلم بوجود ماريت رع عندها إن كانت هناك، وهل معنى جهله بذلك أن الكاهن قبض على ماريت رع قبل أن تصل إلى البيت الأعظم، وأخذ منها المستندات، وفعل بها وبخاطي ما أراد؟ أم إن هذا الرسول من عند الكاهن أرسله ليعرف أخباري؟ قد يكون هذا أو ذاك، ولكن هل هناك شك فيما أخبرني به من أخبار مصر السارة؟ أرجو أن يكون ذلك صحيحا لا شبهة فيه، فيكون تعزية لي على ما سينالني من العذاب ظلما وعدوانا، فرحماك يا آمون وعفوك، فقد كاد ينفد صبري، وكاد كفرهم يهزم إيماني، ورذيلتهم تتغلب على فضيلتي فتمحوها، لولا جلد ورثته عن أب جندي تعود العزة والشرف.
يا دهر كم تعدو وكم تتقلب
وتفل عزم العاملين وتتعب
إن كان ما تبغيه ذلي فالذي
تبغيه لا يرضاه شهم طيب
حالي كما شاهدتها من شدة
ما صدني عنها العدو الأغلب
ما فل عزمي حادث فيما مضى
بل زادني علما بما يتعقب
ما ازداد دهري في التعنت والأذى
إلا بلغت من العلا ما يصعب
ما ضرني لقب يزول ورتبة
ما دام في الألقاب ما لا يعذب
ما كنت من أهل التنعم والحلي
كيما أخاف من الزمان وأرهب
ما لذ لي يوما طعام طيب
أو نالني مال أقول سيذهب
حالي كأهل الفقر فيما كابدوا
من ملبس أتعبت فيه وأتعبوا
أهوى التقشف ما استطعت فإن مضى
مال أفرقه فماذا أندب؟
الرزق في الدنيا كثير واسع
عين تفيض به وأخرى تنضب
ما الخوف إلا أن يقال تقهقرت
جبنا ولما يأت ما تتطلب
غرسي أخاف عليه من وقع الردى
بعد الكمال وذاك غرس طيب
غرس سهرت الليل في تقويمه
حتى نما فله أبش وأغضب
جاهدت لا أبغى الثراء وإنما
فخر البلاد وعزها ما أطلب
سيان عندي المال أو فقدانه
إن فاتني مما أحاول مأرب
أرجو لبنت النيل كل فضيلة
لا تعبث الأيدي بها أو تلعب
ويحارب الدهر الخئون مآربي
ويعينه نزق الرجال فيغلب
حكماء وادي النيل ماذا صدكم
والناس يعجبها الفساد فتطرب
ولوا إلى دور العلوم وجوهكم
وتعهدوها بالنصيحة واكتبوا
فعسى يفيق المفسدون فإنهم
أخفوا بما فعلوا الكمال وغيبوا
يا أيها الملك المفدى ملكه
فخر البلاد وعزها لك ينسب
فاعطف على دور العلوم فإنها
ترجوك للإصلاح فيما تطلب
الفصل الرابع
في المحكمة
حابي :
مولاي يا ابن آمون المقدس الأزلي، نتشرف نحن كهنة آمون أن نقدم إليك قضية تلك الشريرة، التي كفرت بآمون، فدفعتني الغيرة وأنا خادم آمون بالنيابة عن ابنه فرعون مصر المقدس أن ألتمس من مولاي القبض عليها، ومحاكمتها على الكفر بأبيه الأزلي.
فرعون :
أتذكر أن الملك أبيبي كتب إلي في شأن هذه المتهمة، ولهذا يداخلني الشك في أمر تهمتها؛ إذ قد يكون وشى بها بعض أعداء البلاد.
حابي :
نحن لا نعلم شيئا يا مولاي عن أمر الطاغية أبيبي، أما كفر نوب حتب فقد شاهده منا شهود عدول.
فرعون :
أحضروا المتهمة أيها الجنود.
أحد الجنود :
سمعا وطاعة يا مولاي. (تدخل نوب حتب يحضرها الجنود بين سلاسل طويلة من الحديد.)
فرعون :
ما قولك فيما اتهمت به من الكفر بآمون؟
نوب حتب :
حاشا يا مولاي أن أكفر بإله طيبة العظيم.
حابي :
إن لدينا شهودا عدولا على كفرها.
فرعون :
من هم هؤلاء الشهود؟
حابي :
هم يا مولاي سوتيخ مفتش دور النظام، والكاهن فتاح، والسيدة رودوبيس المعلمة بدار النظام.
فرعون :
ليحضر الجند الشاهدين الآخرين، أما الكاهن فتاح وهو أحد القضاة هنا، فيجب أن يقف موقف الشهود. (يدخل الجند والشاهدان ويقف مع الشاهدين فتاح.)
فرعون :
أد شهادتك يا سوتيخ.
سوتيخ :
أقسم بآمون وموت وخنسو أني أقول الحق، وهو أني رأيت السيدة نوب حتب تسخر من الإله آمون أمام التلميذات، وتهزأ بالكهنة الذين ينوبون عن مولانا الملك في خدمة آبائه آلهة طيبة العظام.
فرعون :
ليتقدم الشاهد الثاني.
فتاح :
أقسم بالثالوث المقدس أني أقول الحق، وذلك أن مولانا الكاهن الأعظم بلغه خبر كفر نوب حتب، فأرسلني لأتبين ذلك الخبر وأنصح لها بالعدول عنه، فلما ذهبت إليها قالت لي بكبريائها المعروف، إنها لا تسمح لأحد بالتدخل في عقيدتها الدينية، فخرجت من عندها مغضبا، وأخبرت مولانا الكاهن الأعظم بذلك.
فرعون :
أدي شهادتك يا رودوبيس.
رودوبيس :
أقسم بالثالوث أي آمون وموت وخنسو أني أقول الحق، وهو أن السيدة نوب حتب كانت تسخر من الآلهة أمام التلميذات، فإذا نصحت لها بالعدول عن ذلك أساءت الأدب في الرد علي واضطهدتني.
فرعون :
ما دفاعك يا نوب حتب؟
نوب حتب :
إنهم يا مولاي يغيرون الحقيقة لحقد في نفوسهم، والواقع أنهم هم الذين كفروا بالآلهة، ودنسوا أماكنهم المقدسة وكان تحت يدي بينات مادية لا أعلم أين هي الآن بعد أن سجنت.
أحد قضاة طيبة :
ألتمس من مولانا الملك ألا يسمح لها بمثل هذا الكلام، الذي يلوث المعاهد الدينية والقائمين بأمرها.
حوريس :
ولكن أليس للمتهم الحق في أن يدافع عن نفسه، وأن يقدم للمحكمة مستنداته إن كان لديه شيء منها؟
قاضي طيبة :
نعم يا سيد حوريس تتكلم إذا استطاعت أن تقدم للمحكمة مستندات مادية تثبت صحة ما تقول، أما الطعن في رجال الدين بلا مبرر، فهو ما لا تسمح به هيبة هذه المحكمة، والمتهمة كما تعترف ليس لديها مستندات الآن ، وقد عرفت بميلها إلى الطعن في الأعراض كذبا وبهتانا.
نوب حتب :
أرجو أن يمهلني مولانا الملك ولو يوما واحدا، عسى أن تسمع صديقتي التي عندها المستندات بانعقاد المحكمة فتحضر بها إلى هنا.
حابي :
إنها لا تريد بذلك يا مولاي إلا إساءة سمعة المعاهد، وليس لديها شيء من المستندات البتة.
أمنحتب :
وما هو الضرر إذا أجيبت إلى هذا الطلب العادل؟
حابي :
إنها تريد أن تشغل أفكار الناس بأمور لا حقيقة لها، فيجب أن يغلق أمامها هذا الباب الآن، حتى لا يكثر الأخذ والرد حول طهارة المعابد ودور النظام.
فرعون :
ما رأي القضاة في ذلك؟
قضاة طيبة :
نرى يا مولانا الحكم الآن.
الحاجب :
بالباب سيدة يا مولاي تقول إنها آتية لتشهد مع المتهمة ومعها رجل.
فرعون :
دعهما يدخلان. (تدخل ماريت رع وخاطي، وتقدم للملك الخطابين والصولجان، فيظهر على حابي الدهشة والخوف.)
فرعون :
ما هذه الأشياء؟
نوب حتب :
خطابان كتبهما الكاهن الأعظم إلى السيدة رودوبيس، يظهر منهما الغرض الحقيقي الذي دفعه إلى اتهامي بالكفر وصولجانه المشهور، الذي سقط أثناء تسلقه سور حديقة دار النظام ليلا.
فرعون :
وكيف وصل هذان الخطابان إليك؟
نوب حتب :
تسلمتهما من الرسول وفضضتهما لعلمي بما فيهما، ثم نقلتهما في خطابين آخرين سلمتهما للسيدة رودوبيس.
فرعون :
هل هذا خطك يا حابي؟
حابي :
إن هذا يا مولاي محض افتراء.
فرعون :
وما قولك في الصولجان؟
حابي :
إنه سرق مني فيجب أن تعاقب على ذلك هذه السارقة.
قاضي طيبة :
ويجب أيضا أن تعاقب على التزوير، الذي اعترفت به أمام المحكمة لمحاكاتها خط الكاهن الأعظم.
فرعون :
إنها لو حاكت خط الكاهن الأعظم، لتتمسك بالخطاب الأصلي ضده في إثبات الجريمة عليه، فليس هناك تزوير؛ لأن نية تغيير الحقيقة لم تكن موجودة والتزوير معاقب عليه لتغيير الجاني الحقيقة بنية إلحاق الضرر بغيره، أما هي فقد نقلت الخطابين كما هما لتبقي الأصل عندها إثباتا للجريمة، أما أخذ الصولجان فلا يعد سرقة ما دامت قد أخذته أثناء الجريمة لتستدل به على حصولها، وكذلك أخذها الخطابين لأن نية التملك لم تكن موجودة عندها، والسرقة معاقب عليها لنية السارق الحصول على الشيء المسروق وتملكه له بغير حق، أما هي فقد أخذت هذه الأشياء لتقدمها إلى العدالة دليلا على الجريمة، ولو جاز اعتبار ذلك سرقة لما استطاع الجند أن يكتشفوا أية جريمة ما دمنا نعتبر كل ما يأخذه الإنسان من البينات، سواء أكان ذلك إقرارا كتابيا من الجاني بالجريمة، أو آلات أراد أن يصل بها الجاني إلى جريمته سرقة؛ بل على كل فرد من أفراد الأمة أن يضبط الجاني بجميع الوسائل المشروعة ويقدمه إلى العدالة، وإلا عد شريكا له في جريمته خصوصا إذا كان لجريمته مساس بصالح البلاد العام، كإفساد الأخلاق في دور التربية والتهذيب.
قاضي طيبة :
لك الكلمة العليا يا مولاي يا ابن آمون، ولكنها قد تكون كاذبة في كل ذلك.
فرعون :
هذا أمر آخر إذا ثبت وجب أن تعاقب عليه أشد العقاب؛ لأني لا أسمح مطلقا بتدنيس دور النظام كذبا وبهتانا.
حابي :
جلت حكمتك يا مولاي، وستعلم برأيك الصائب أنها كاذبة، وليس أدل على ذلك من اعترافها أمام قاضي التحقيق بكل شيء.
فرعون :
هل حصل ذلك يا سنفرو؟
سنفرو :
نعم يا مولاي، وهو مدون في محضر التحقيق.
فرعون :
وكيف تنكرين يا نوب حتب بعد أن اعترفت؟
نوب حتب :
لم يحصل ذلك مطلقا يا مولاي والمحضر موجود.
قاضي طيبة (ساخرا) :
وهل عندك خطابات أيضا ضد قاضي التحقيق لتثبتي لنا كذبه وافتراءه؟ وأين صولجانه هو الآخر؟
نوب حتب :
إن البواب الذي قبض على الكاهن عند تسلقه السور موجود، فسله يا مولاي.
فرعون :
تقدم يا خاطي وأد شهادتك عما رأيته.
خاطي :
إني أشهد بصحة ما يقوله مولانا الكاهن من كفر السيدة نوب حتب، وليس أدل على كفرها من إهانتها لكاهننا الأعظم، فهي لا تستطيع أن تبرئ نفسها أمام الإله أزوريس وقضاته الاثنين والأربعين في قاعة العدل، فهي كافرة لا محالة.
فرعون :
مهلا يا خاطي؛ إنك لم تقسم اليمين.
خاطي :
أقسم بالثالوث وبأزوريس وقضاته العدول أني أقول الحق.
فرعون :
تذكر موقفك في قاعة العدل يا خاطي وأخبرنا بالحقيقة.
خاطي :
نعم يا مولاي بالحقيقة كما هي، فقد قالت لي السيدة نوب حتب في ليلة من الليالي إنه بلغها أن لصا سيتسلق سور دار النظام، وأمرتني بمراقبة ذلك اللص، فبت ساهرا في ذلك المكان وعند نصف الليل رأيت شخصا ينزل من على ذلك السور وعليه رداء طويل يستره من رأسه إلى قدميه، فهجمت عليه وأنا أظنه اللص، فسقط رداؤه وظهر وجهه على ضوء القمر وإذا هو مولانا الكاهن، فخررت له ساجدا، ولما قمت من سجودي لم أجده؛ بل وجدت صولجانه وبعد برهة حضرت السيدة نوب حتب فلمتها على كذبها واستخفافها بأمر الكاهن الأعظم، ولولا كذبها علي يا مولاي لما تجرأت على الهجوم على مولانا الكاهن، على أن مولانا الكاهن قبل أن تعين السيدة نوب حتب رئيسة لدار النظام كان كثيرا ما يدخل الدار بعد منتصف الليل، ويبقى فيها إلى قرب الصباح، وكنت أفتح له الباب عند دخوله وعند خروجه، أليس كذلك يا مولاي الكاهن؟
فرعون :
حسن يا خاطي وفي أي تاريخ حصلت هذه الحادثة؟
خاطي :
لم تحصل في أي تاريخ يا سيدي؛ بل حصلت في حديقة دار النظام.
فرعون :
أريد أن أقول لك كم عاما مرت عليك بعد هذه الحادثة؟
خاطي :
لم يمر علي أحد يا مولاي؛ بل كنت وحدي في حديقة دار النظام، ولم يمر علي بعد ذلك إلا السيدة نوب حتب، وقد أخذت الصولجان أمامي، فهي ولا شك السارقة.
فرعون :
كم من الزمن أو السنين أو الأيام مضى بعد تلك الحادثة أيها الغبي؟
خاطي :
فهمت يا مولاي، قبل حصول هذه الحادثة بيوم حضرت عيد الأموات وتمتعت برؤية الإله آمون محمولا على أعناق الكهنة الكرام، ولم أر ذلك العيد بعد هذه الحادثة إلا مرتين فيكون قد مضى عليها سنتان حسب حسابنا نحن العامة.
فرعون :
ما قولكم في هذه الشهادة، وهي تتفق مع التاريخ الموجود في خطاب الكاهن؟
قاضي طيبة :
هذا الرجل مخرف لا تجوز شهادته، ولا يصح أن يلتفت إلى هذيانه.
حابي :
إن بينه وبين نوب حتب اتفاقا، ولهذا أتى مع شاهدتها.
نوب حتب :
إن عندي بينة بكفر الكاهن أيضا، هي شهادة السجانة التي سمعت بأذنها كفره وإلحاده.
قاضي طيبة :
إن كلامها يا مولاي سخف وهذيان؛ إذ تريد أن تجرنا إلى سماع أقوال هؤلاء الجهلاء أمثال خاطي بوابها ومحال أن يسمح لها مولانا الملك بذلك.
فرعون :
ما رأي والي منف؟
حوريس :
يجب أن تسمع شهادة الشهود مهما كان مركزهم.
الحاجب :
بالباب رسول من مولاي الأمير أحمس ومعه خطاب وأسير.
فرعون :
دعه يدخل بسرعة فأمر الحرب مفضل على جميع القضايا. (يدخل الرسول ومعه أسير ويسلم الخطاب لفرعون فيظهر على حابي الخوف الشديد.)
فرعون :
اقرأ هذا الخطاب على المحكمة يا طاحوتي.
طاحوتي :
سمعا وطاعة يا مولاي (ثم يقرأ):
مولاي يا ابن الشمس الأزلية
لقد نصرتك الآلهة نصرا مبينا على أعدائك الطغاة.
الجميع :
حمدا للآلهة وشكرا، فقد نصروا مصر وفرعونها المقدس وخذلوا الظالمين.
طاحوتي :
ولا يزال جيشنا المظفر محاصرا عاصمتهم أواريس، وكان في استطاعة ابنك وخادمك أن يقتحم عليهم ذلك الحصن، ولكنني ضننت أن نخسر من الجيوش عددا عظيما في عمل سوف يتم من نفسه وبدون خسارة، فإن الأعداء لا يستطيعون البقاء تحت هذا الحصار طويلا وأنا مهتم الآن بتنفيذ أوامر مولاي في جمع كلمة جميع المصريين تحت رايته، وقد نجحنا في ذلك كثيرا، وجمعنا حولنا أغلب أمراء مصر المستقلين وآخر من انضم إلينا الأمير سيتي من أمراء الفيوم، وأخبرني أنه كان أول من خرج على الهكسوس يوم خرجوا من عاصمة ملكهم لمحاربتنا في طيبة، وبينما كان ينتظر مرور أبيبي بجيشه إذ بصر بهذا الأسير المرسل مع هذا الخطاب آتيا من طريق طيبة على جواد سريع، فقبض عليه وسأله عن وجهته، فأخبره أنه آت من عند مولانا الملك بخطاب إلى الملك أبيبي، ففض الأمير الخطاب، فإذا هو من الكاهن الأعظم لدير آمون، فاحتفظ بالخطاب والأسير وسلمهما إلي لأرسلهما إلى مولاي الملك وها هما هذان مرسلان إليك ولك الكلمة العليا.
عبدك المخلص
أحمس
فرعون :
من هو هذا الأسير أيها الكهنة؟
منقرع :
هو حرحور خادم الكاهن الأعظم لدير آمون.
فرعون :
حسن فاقرأ كتاب الكاهن يا طاحوتي.
طاحوتي :
مولاي أيها الملك الفاتح
لقد تشرفت منذ بضعة أيام بإرسال خطاب إلى مولاي المقدس، أخبره فيه كيف يطيع الملك سكنن رع الثالث أوامره في الظاهر فقط، وكيف يعصاها فعلا، حتى إنه لم يعاقب تلك التي خالفت أوامره العالية وعبدت الثالوث، فلما أرسلت إليه يا مولاي رسولك اضطر مرغما إلى القبض عليها وإيداعها في السجن، ولكنه أوصى بها خيرا، وهو لا يريد بإطاعة أوامرك الآن إلا كسب وقت يمكنه من مهاجمتك، وهو يبث الحماس في نفوس جميع المصريين ويحرضهم عليك، ورجائي يا مولاي أن تشهر عليه الحرب قبل أن يشتد ساعده وتكثر أنصاره، فإنه داهية عنيد وسينصرك آمون الأزلي عليه ويساعدك فلا تتردد، فقد كتب لك النصر وبصفتي كاهن آمون الأعظم أبشر مولاي بذلك.
خادمك المخلص
حابي
فرعون :
ألم أقل لكم إن أبيبي كتب إلي في أمر نوب حتب، وأنه لا بد أن يكون قد وشى بها بعض أعداء البلاد.
الجميع :
بئست هذه الخيانة الجريئة، ولعنت الآلهة فاعلها الأثيم.
فرعون :
كيف خنت نعمتي يا حرحور، وذهبت بمثل هذا الخطاب إلى عدوي وعدو البلاد أيها الخائن؟
حرحور :
لم أخن نعمتك يا مولاي، ولم أعلم بما احتواه ذلك الخطاب من الخيانة، ولكن الكاهن حابي أعطاه لي قائلا إنه من عندك يا مولاي لملك الهكسوس، ولم يكن ذلك الطاغية قد أشهر الحرب علينا، فلم أشك في صدق الكاهن؛ لأنه خادمك وخادم أبيك آمون.
فرعون :
ما رأيكم أيها القضاة في هذا الكاهن الخائن؟
الجميع :
إنه خائن لبلاده جزاؤه القتل حرقا، فلا ترحمه يا ابن الشمس الأزلية.
فرعون :
قم وقف موقف المتهمين أيها الخائن لبلادك، فإن ماء النيل حرام على أمثالك، وأنتم أيها الجنود اتركوا نوب حتب، فهي بريئة مخلصة، وخذوا مكانها ذلك الخائن الشرير.
نوب حتب :
شكرا لابن آمون الأزلي، رافع لواء العدل والحكمة في بلاده.
فرعون :
لا شك أيها القضاة أن هذا الخطاب بخط الكاهن، بشهادة رسوله وخادمه، فتبينوه جيدا ووازنوا بينه وبين هذين الخطابين تجدوا أن خط الكتب الثلاثة واحد.
الجميع :
نعم يا مولانا هو ذلك، وهو بعينه كاتب الخطابات الثلاثة.
فرعون :
إذا يكون ذلك الخائن قد اقترف جريمة اغتصاب النساء، وعبث بالفضيلة مع سيدات وكل أمرهن إليه، فهو يستحق الإلقاء في الجب لجريمته هذه حسب قوانين البلاد، والويل لك أيها الخائن، ألم تقرأ ما كتبه فتاح حتب الحكيم القديم إذ يقول: «إذا دخلت بيت غيرك فاحذر أن توجه ذهنك إلى نسائه فكم هلك أناس من جراء ذلك» وأنت تدخل بيت الله فتعبث بالفضيلة فيه، ثم تتهم الأبرياء دون أن يؤنبك ضميرك؛ لأنه لا ضمير لك ولا ذمة، فبئس الرجل أنت، وبأفعالك وأفعال أمثالك من الخائنين تخرب البلاد، ولقد تنبأ أبوور النبي القديم بذلك، فقال إن مصر ستنحط فيها الأخلاق، ويسود سفلة الناس، وينحط كرامهم فيطمع فيها الأجانب، ويغتصبون بلادها لسوء أخلاق أهلها، وانغماسهم في الملاهي والفجور، وأنت أول هؤلاء الضعفاء المفسدين، ولهذا كان جزاؤك من هذه المحكمة القتل حرقا وتعذيبا، فخذوه أيها الجنود ونفذوا فيه هذا الحكم جزاء لخيانته وغدره وفجوره، وأنتم أيها الشهود المزورون ماذا تقولون؟
الثلاثة :
وماذا عسى أن نقول يا ابن الشمس المشرقة غير طلب الرحمة والغفران، فقد قضى علينا ذلك الكاهن بآثامه، ولم نكن لنستطيع عصيانه.
فرعون :
أنت يا فتاح شريك له في غوايته، وقد حكمت عليك المحكمة حسب قوانين البلاد بالإلقاء في الجب، فاذهبوا به أيها الجنود لتنفيذ هذا الحكم.
وما قولك يا رودوبيس؟
رودوبيس :
لم أكن يا مولاي إلا مجنيا علي، أنا وأمثالي من النساء اللائي وضعهن القدر تحت سلطة ذلك الوحش الكاسر، الذي لا يردعه عن غوايته رادع، ولو عصيت أمره لجنى علي جنايته على السيدة نوب حتب، وليس لي ولا لأمثالي من الجلد ما لها، فرفقا بي يا ابن الآلهة فإني مجني علي.
فرعون :
صدقت يا رودوبيس فقد جني عليك، وربما كان الذنب على من وكل أمركن إلى أمثال هؤلاء الرجال، فأستغفرك يا آمون من أخطائي السالفة، وآمر الآن بتعيين السيدة نوب حتب رئيسة للكاهنات حتى لا يكون للرجال سلطة عليهن، أما أنت يا سوتيخ ومثلك رودوبيس فقد وجب عليكما القتل لتأديتكما شهادة الزور أمام المحكمة، ولكنكما كنتما تحت تأثير قوي عات لا تستطيعان عصيانه، لهذا تحكم عليكما المحكمة بالطرد من طيبة، لضعف إرادتكما وميلكما إلى الشر، فاخرجا من وجهي، أراحت الآلهة البلاد من أمثالكما، وأنت أيها القاضي ما قولك فيما اعترفت به أمام المحكمة؟ وكيف ادعيت اعتراف السيدة نوب حتب بالجريمة؟ وأين محضر التحقيق؟
سنفرو :
ها هو يا مولاي.
فرعون :
إن أجوبتها لا تدل على شيء من الاعتراف، فكيف جاز لك أن تستنتج ثبوت التهمة عليها من اعتراف بريء كهذا؟
سنفرو :
لقد أفهمني الكاهن الأعظم أنها كاذبة ميالة إلى الطعن في الأعراض، فأردت أن أطهر دور النظام والمعابد المقدسة بثبوت تهمة الكذب عليها.
فرعون :
إن دور النظام والمعابد لا تطهر بالكذب والتلفيق، ولكنها تطهر بحكم عادل يقضي بإدانة كل من يسعى إلى تلويثها أو يعبث بالفضيلة بين جدرانها، فيكون عقابه الشديد القاسي رادعا لغيره عن اقتراف تلك الجرائم، أما التستر على أعمال هؤلاء المجرمين فلا يطهر المعابد، ولكنه يلوث القضاء المقدس الذي لا يجوز أن يقوم به أمثالك ممن اعتادوا الضعف والانقياد لآراء غيرهم، فأنت لا تصلح للقضاء، وقد أمرت بعزلك فاخرج عن مقاعد العدالة. وأنتم أيها القضاة أوصيكم بالعدل في قضائكم، فإن القضاء يكفي لتدنيسه أن يتسرب الشك في نزاهته إلى القلوب، وليس بمطهره ابتعاد الناس عن انتقاده علنا، إذا كان منشأ ذلك الابتعاد خوفهم من شدة العقاب، فإن قلوب الناس تتناجى ولو في الخفاء. (يقوم فرعون)
الجميع :
سلام يا ابن الشمس الأزلية! سلام يا ناشر لواء العدل! سلام يا روح الآلهة الساهرة على راحة الناس وسعادتهم! (يخرج الجميع إلا نوب حتب وماريت رع.)
نوب حتب :
قد صفا الدهر وخاب المستبد
رب أرشدنا إلى الرأي الأسد
ساءهم يا مصر إدراك العلا
فرموك بالرزايا والنكد
وسعى المفتون فينا جاهدا
أن يذود الخير عنك ويرد
هادم الأوطان لا كان الذي
يهدم العلياء فينا ويهد
أنت غرس النيل هلا صنته
وبذرت الخير في هذا البلد
صدك الغانيات عن نيل العلا
ولهاك الحقد عنه والحسد
إن يعق النيل فرد واحد
فبنوه الغر موفورو العدد
كم بنوا في مصر دورا للعلا
عجز التخريب عنها فقعد
مصر يا أم المعالي والألى
هم لأهل الفضل في الدنيا سند
هل بنوك منهم هذا الذي
أخجل الأوطان؟ لا كان الولد
أنت فردوس وهل في جنة
يدخل الشيطان صلى أو سجد؟
لا يغر الناس منه لينه
إنما الرقطاء ملساء الجسد
لم يسئني إذ تعدى حده
بل أساء النيل عمدا وقصد
أنا لا أبغى ثراء أو منى
فأقول القصد ولى أو فقد
إنما غاية نفسي أن ترى
ملك وادي النيل مرفوع العمد
وكفاني أن أراه سالما
بعد عمر ضاع في أخذ ورد
إيه وادي النيل أعجزت الذي
كان يبغى السوء ظلما فخمد
قد سلمت اليوم فابق زاهرا
وفداك الروح مني والجسد
ناپیژندل شوی مخ