Notes on the Book of the Beliefs of the Predecessors and Successors
ملاحظات حول كتاب عقيدة السلف والخلف
خپرندوی
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
د ایډیشن شمېره
السنة الرابعة عشرة العدد الثالث والخمسون ١٤٠٢هـ/١٩٨١م
ژانرونه
ملاحظات: حول كتاب عقيدة السّلف وَالْخلف
للشَّيْخ عبد الْقَادِر السّندي
-١-
الْحَمد لله وَحده وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من لَا نَبِي بعده.
أما بعد: فقد ناولني فَضِيلَة عميد كُلية الحَدِيث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة الشَّرِيفَة على صَاحبهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام كتاب، بعد أَن كتب رَأْيه على الغلاف الثَّانِي مَا نَصه:
"هَذَا الْكتاب فِيهِ خلط وتلبيس لَا يَنْبَغِي لصغار الطّلبَة قِرَاءَته لِأَن مُؤَلفه غير مُحَقّق، وَغير مُمَيّز بَين عقيدة السّلف وَالْخلف وَتُؤَدِّي قِرَاءَته إِلَى بلبلة أفكار قارئيه لذا ننصح طلبة الْعلم بِعَدَمِ قِرَاءَته والانصراف إِلَى قِرَاءَة كتب الْمُحَقِّقين من عُلَمَاء السّلف الصَّالح وأتباعهم".
قلت: هَذَا هُوَ نَص الْكَلِمَة الَّتِي وَقع تحتهَا فَضِيلَة العميد، فَكَأَنَّهُ طلب إليّ حفظه الله تَعَالَى تَفْصِيل مَا أجمله فِي كَلمته والإطناب (فِي) مَا اخْتَصَرَهُ إِظْهَارًا للحق وتبيينا للْوَاقِع الْأَلِيم الَّذِي وَقع فِيهِ صَاحب الْكتاب من الْخَلْط والتلبيس، إِمَّا بِعَدَمِ علمه فَهُوَ أَهْون فِي نَظَرِي وَإِمَّا عنادا فَهُوَ أفظع وأشنع كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
إِن كنت لَا تَدْرِي فَتلك مُصِيبَة ... وَإِن كنت تَدْرِي فالمصيبة أعظم
وَأَنا أحسن الظَّن بِهِ فَأَقُول إِنَّه غير مُمَيّز كَمَا حكم عَلَيْهِ فَضِيلَة العميد فِي كَلمته. وَأما إِذا كَانَ عَالما ثمَّ قَامَ بِهَذِهِ العملية الشنيعة فِي هَذَا الْكتاب الَّذِي أسماه (هَذِه عقيدة السّلف
1 / 290
وَالْخلف فِي ذَات الله تَعَالَى، وَصِفَاته، وَالْجَوَاب الصَّحِيح لما وَقع فِيهِ الْخلاف من الْفُرُوع بَين الداعين للسلفية وَأَتْبَاع الْمذَاهب الْأَرْبَعَة الإسلامية) فَهَذِهِ التَّسْمِيَة الطَّوِيلَة للْكتاب الْمَذْكُور بِهَذِهِ الصّفة وَبِهَذَا الأسلوب فِيهِ دلَالَة وَاضِحَة على عدم علم صَاحبه فضلا عَمَّا أوردهُ فِيهِ من النَّقْل غير الْمسند كَمَا ستعرف ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ هُوَ لَا يفرق بَين الْعَصَا والحية وَبَين الأَرْض وَالسَّمَاء وَبَين الظلام الدامس والنور الْوَهَّاج.
وَقد فَكرت كثيرا -بعد الدُّعَاء من الْبَارِي جلّ وَعلا لهَذَا الْأَخ الْكَرِيم- فِي كَيْفيَّة المناقشة مَعَه وَقد عرفت حَاله تَمامًا أثْنَاء إِلْقَاء نظرتي على كِتَابه هَذَا مَعَ مَا قَالَه فَضِيلَة العميد فِي كَلمته. وَلست أُبَالِي بِمَا يَقُول فِي حق السّلف رَحِمهم الله تَعَالَى بِأَنَّهُم حشوية مَا دَامَ جعل عقيدة السّلف وَالْخلف وَاحِدَة لَا فرق بَينهمَا فِي نظره أبدا، مَعَ أَن الَّذين أوجدوا هَذِه العقيدة الخلفية أول مرّة وَتَكَلَّمُوا فِيهَا قَالُوا: "إِن عقيدة السّلف أسلم وعقيدتنا أعلم وَأحكم"، وَلَا يُنكر هَذِه الْحَقِيقَة إِلَّا من كَانَ بَعيدا عَن الْعلم فِي هَذَا الْمَوْضُوع بِالذَّاتِ وَلَقَد عجبت من الْأَخ وَذَلِكَ فِي عنوان كِتَابه إِذْ جعل عقيدة السّلف الصَّالح ذاتا وَصفَة وَعبادَة لله تَعَالَى كعقيدة الْخلف الَّتِي اضطرب فِيهَا أَصْحَابهَا الْأَولونَ (اضطرابا شَدِيدا وانقسموا) إِلَى طوائف عديدة وَنحل مُخْتَلفَة وملل متنوعة بَعضهم أقرب إِلَى عقيدة السّلف (الصَّالح) رَحِمهم الله تَعَالَى.
وَلم نسْمع وَلم نر أحدا أَنه أنكر هَذِه الْحَقِيقَة الناصعة مِمَّن سبقه سبقا علميا وزمانيا. فَهَذَا الشَّيْخ مُحَمَّد زاهد الكوثري الَّذِي حمل لِوَاء التعطيل فِي الزَّمن الْأَخير وَالَّذِي لم يتْرك كتابا من كتب السّلف إِلَّا وَقد علق عَلَيْهِ إِثْبَاتًا لهَذِهِ العقيدة الخلفية ودفاعا عَنْهَا واستماتة فِي سَبِيلهَا ونكاية بعلماء السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن تَبِعَهُمْ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. إِلَى أَن قَامَ الْعَلامَة الْمُحدث الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المعلمي الْيَمَانِيّ فِي كِتَابه النافع البارع: (التنكيل بِمَا فِي تأنيب الكوثري من الأباطيل) وَقد نشره وَأنْفق عَلَيْهِ نَاصِر السّنة المحمدية الشَّيْخ مُحَمَّد نصيف رَحمَه الله تَعَالَى ووزعه فِي سَبِيل الله تَعَالَى على طلبة الْعلم. وَإِنِّي أرى فِي هَذَا الْمقَام أَن أتعرض لهَذِهِ الْفِتْنَة وَمن هم أَصْحَابهَا الْأَولونَ ثمَّ انتشارها فِي صُفُوف الَّذين لم تتمكن العقيدة الصَّحِيحَة الصافية من قُلُوبهم.
تِلْكَ العقيدة الَّتِي جَاءَ بهَا رَسُول الله ﷺ وَذَلِكَ بعد وَقت قصير من طُلُوع الصُّبْح الصَّادِق الَّذِي أعْطى للكائنات كلهَا -فضلا عَن الإنسانية- ثقافة جَدِيدَة وحياة حرَّة كَرِيمَة، ومحبة إيمانية مثالية ونظاما رفيعا ومنهاجا مُسْتَقِيمًا وأخوة صَادِقَة عَظِيمَة وعقيدة صَافِيَة نقية وسياسة حكيمة قَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
1 / 291
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الْمَائِدَة: ١٥-١٦) . هَذَا الْمَعْنى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآن الْكَرِيم فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ الكريمتين تركز فِي قُلُوب هَؤُلَاءِ الَّذين مجدهم الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم وَعظم شَأْنهمْ وَذَلِكَ فِي قَوْله الْحَكِيم فِي سُورَة الْفَتْح: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الْفَتْح: ٢٩)
مَا أعظم هَذِه التَّزْكِيَة فِي صُورَة رائعة مثالية من رب الْعِزَّة والجلال فِي حق هَؤُلَاءِ النخبة المختارة الَّذين فَهموا هَذِه الشَّرِيعَة الإسلامية الغراء عقيدة وَعبادَة ومعاملة، وسلوكا، وأدبا، ونظاما وَغَيرهَا من الْمعَانِي. السامية.
ثمَّ تَأتي زمرة فاسقة من الْيَهُود وَالنَّصَارَى لكَي تشوه هَذِه الْحَقِيقَة الناصعة الْبَيْضَاء الَّتِي يَقُول عَنْهَا ﵊ فِي حَدِيثه الْمُبَارك الَّذِي أخرجه الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده وَابْن مَاجَه فِي سنَنه وَذَلِكَ بِإِسْنَاد حسن. قَالَ الإِمَام أَحْمد١ حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي ثَنَا مُعَاوِيَة –يَعْنِي ابْن صَالح- عَن ضَمرَة بن حبيب عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو السّلمِيّ أَنه سمع الْعِرْبَاض بن سَارِيَة قَالَ: وعظنا رَسُول الله ﷺ موعظة ذرفت من الْعُيُون ووجلتا مِنْهَا الْقُلُوب قُلْنَا يَا رَسُول الله إِن هَذِه لموعظة مُودع فَمَاذَا تعهد إِلَيْنَا؟ قَالَ: "قد تركتكم على الْبَيْضَاء لَيْلهَا كنهارها لَا يزِيغ عَنْهَا إِلَّا هَالك، وَمن يَعش مِنْكُم فسيرى اخْتِلَافا كثيرا فَعَلَيْكُم بِمَا عَرَفْتُمْ من سنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين وَعَلَيْكُم بِالطَّاعَةِ وَإِن عبدا حَبَشِيًّا عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ فَإِنَّمَا الْمُؤمن كَالْجمَلِ الآنف حَيْثُمَا انقيد انْقَادَ".
وَلِلْحَدِيثِ شَوَاهِد كَثِيرَة مِنْهَا مَا أخرجه ابْن مَاجَه٢ فِي الْمُقدمَة من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء ﵁ وَفِيه: "وأيم الله لقد تركتكم على مثل الْبَيْضَاء لَيْلهَا ونهارها سَوَاء" قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: صدق، وَالله رَسُول الله ﷺ تركنَا، وَالله على مثل الْبَيْضَاء لَيْلهَا ونهارها سَوَاء.
قلت: وَكَيف لَا؟ وَقد قَالَ جلّ وَعلا فِي كِتَابه الْحَكِيم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ﴾ (الْمَائِدَة: ٣) .
_________
١ الْمسند: (٤ /١٢٦) وَابْن مَاجَه (رقم ٤٣) من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بِهِ.
٢ ابْن مَاجَه فِي السّنَن رقم (٥) .
1 / 292
وسوف يَأْتِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي نِهَايَة الْمَوْضُوع إِن شَاءَ الله تثبيتا لعقيدة السّلف الصَّالح وتأييدا لَهَا.
وَأما الْآن فَإِنِّي أثبت هُنَا إِثْبَاتًا علميا إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِن هَذَا العنوان الَّذِي عنون بِهِ هَذَا الْأَخ الْكَرِيم كِتَابه بقوله: "هَذِه عقيدة السّلف وَالْخلف فِي ذَات الله تَعَالَى وَصِفَاته وأفعاله وَالْجَوَاب الصَّحِيح لما وَقع فِيهِ الْخلاف من الْفُرُوع بَين الداعين للسلفية وَأَتْبَاع الْمذَاهب الْأَرْبَعَة الإسلامية" (هُوَ) عنوان غير صَحِيح. لِأَن عقيدة السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن تَبِعَهُمْ بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين فَإِنَّهَا مَبْنِيَّة على أسس ثَلَاثَة:
(١) تَنْزِيه الله من مشابهة الْخلق.
(٢) الْإِيمَان بِالصِّفَاتِ الثَّابِتَة بِالْكتاب وَالسّنة وَعدم التَّعَرُّض لنفيها وَعدم التهجم على الله بِنَفْي مَا أثْبته لنَفسِهِ.
(٣) قطع الطمع عَن إِدْرَاك الْكَيْفِيَّة.
كَمَا ذكر ذَلِك١ عُمْدَة الْمُتَأَخِّرين الْعَلامَة الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين الشنقيطي ﵀ نقلا عَن المصادر الْأَصْلِيَّة كَمَا سَوف يَأْتِي بعض تَفْصِيله إِن شَاءَ الله.
وَأما عقيدة الْخلف فَإِنَّهَا مَبْنِيَّة على التَّأْوِيل والتحريف والتعطيل والتشبيه كَمَا حكى ذَلِك الْعَلامَة سعد الدّين التفازاني فِي شرح العقائد النسفية وَهُوَ كتاب يدرس فِي أغلب مدارس الْهِنْد والباكستان وَغَيرهَا فِي مَادَّة التَّوْحِيد وأصل الْكتاب للعلامة الشَّيْخ عمر بن مُحَمَّد بن أَحْمد النَّسَفِيّ الْحَنَفِيّ قَالَ الْعَلامَة التفازاني مَا نَصه: "وَقد كَانَت الْأَوَائِل من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ لصفاء عقائدهم ببركة صُحْبَة النَّبِي ﷺ وَقرب الْعَهْد بِزَمَانِهِ، ولقلة الوقائع والاختلافات وتمكنهم من الْمُرَاجَعَة إِلَى الثِّقَات مستغنين عَن تدوين العلمين –الْكتاب وَالسّنة- وترتيبهما أبوابا وفصولا وَتَقْرِير مقاصدهما فروعا وأصولا إِلَى أَن حدثت الْفِتَن بَين الْمُسلمين وَغلب الْبَغي على أَئِمَّة الدّين وَظهر اخْتِلَاف الآراء والميل إِلَى الْبدع والأهواء وَكَثُرت الْفَتَاوَى والوقعات وَالرُّجُوع إِلَى الْعلمَاء فِي الْمُهِمَّات فاشتغلوا بِالنّظرِ وَالِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال والاستنباط وتمهيد الْقَوَاعِد" انْتهى ثمَّ قَالَ فِي مَوضِع آخر معتذرا للخلف عَمَّا أقدموا عَلَيْهِ من إِيجَاد هَذِه العقيدة الخلفية قَالَ: "الْقَوْم الَّذين كَانُوا يناظرهم الْخلف مَا كَانُوا يقبلُونَ الْأَدِلَّة النقلية وَلَا ينقادون لَهَا فَذَلِك اضْطر عُلَمَاء الْخلف إِلَى الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة٢" انْتهى.
_________
١ انْظُر رسَالَته (مَنْهَج ودراسات لآيَات الْأَسْمَاء وَالصِّفَات) ص (٢٥) وَهِي من مطبوعات الجامعة الإسلامية سنة ١٣٩٥ هجري.
٢ شرح العقائد النسفية: ص.١١
1 / 293
نقل هَذَا كُله الشَّيْخ صَالح بن أَحْمد رَحمَه الله تَعَالَى فِي كِتَابه تحكيم النَّاظر١ وَكَانَ شرح العقائد عِنْدِي فِي يَوْم من الْأَيَّام وَكنت قد درسته على يَد بعض الْمَشَايِخ بباكستان ثمَّ أحرقته فِيمَا بعد وَلَو كنت تركته لنقلت مِنْهُ نصوصا كَثِيرَة.
قلت: هَذَا نَص كَلَام الْعَلامَة التفازاني شَارِح العقيدة النسفية وَهُوَ يعْتَرف اعترافا لَا يشوبه أدنى شكّ بِأَن هَذِه العقيدة الخلفية أوجدها عُلَمَاء الْخلف لكَي يناظروا بهَا من كَانَ يرفض الْأَدِلَّة النقلية من الْخلف وَلذَلِك نقل عَن الْمُتَأَخِّرين الَّذين أوجدوا هَذِه العقيدة الخلفية العلمية حسب زعمهم: (أَن عقيدة الْخلف أسلم وعقيدتنا أعلم وَأحكم) كَمَا نَقله عَنْهُم شَارِح العقيدة الطحاوية حَيْثُ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى:
"نَبينَا ﷺ أُوتِيَ فواتح الْكَلم وخواتمه وجوامعه، فَبعث بالعلوم الْكُلية والعلوم الأولية والأخروية على أتم الْوُجُوه، وَلَكِن كلما ابتدع شخص بِدعَة اتسعوا فِي جوابها لذَلِك صَار كَلَام الْمُتَأَخِّرين كثيرا، قَلِيل الْبركَة بِخِلَاف كَلَام الْمُتَقَدِّمين فَإِنَّهُ قَلِيل كثير الْبركَة، لَا كَمَا يَقُول ضلال الْمُتَكَلِّمين وجهلتهم: إِن طَريقَة الْقَوْم أسلم وَإِن طريقتنا أحكم وَأعلم٢" انْتهى
وَهَكَذَا نقل عَنْهُم الْعَلامَة الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد السفاريني النابلسي الْمُتَوفَّى سنة ١١٨٨ هجري فِي شَرحه (لوامع الْأَنْوَار البهية وسواطع الْأَسْرَار الأثرية) على منظومته الَّتِي سَمَّاهَا: (الدرة المضية فِي عقيدة أهل الْفرْقَة النَّاجِية) إِذْ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى:
"مَذْهَب السّلف هُوَ الْمَذْهَب الْمَنْصُور وَالْحق الثَّابِت الْمَأْثُور وَأَهله هم الْفرْقَة النَّاجِية والطائفة المرحومة الَّتِي هِيَ بِكُل خير فائزة وَلكُل مكرمَة راجية من الشَّفَاعَة والورود على الْحَوْض ورؤية الْحق وَغير ذَلِك من سَلامَة الصُّدُور وَالْإِيمَان بِالْقدرِ وَالتَّسْلِيم لما جَاءَت بِهِ النُّصُوص فَمن الْمحَال أَن يكون المخالفون أعلم من السالفين كَمَا يَقُوله بعض من لَا تَحْقِيق لَدَيْهِ مِمَّن لَا يقدر السّلف وَلَا عرف الله تَعَالَى وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ بِهِ حق الْمعرفَة الْمَأْمُور بهَا، من (أَن طَريقَة السّلف أسلم وَطَرِيقَة الْخلف أعلم وَأحكم) وَهَؤُلَاء إِنَّمَا أَتَوا من حَيْثُ طنوا أَن طَريقَة السّلف هِيَ مُجَرّد اسْتِخْرَاج مَعَاني النُّصُوص الْمَعْرُوفَة عَن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللُّغَات فذها الظَّن الْفَاسِد أوجب تِلْكَ الْمقَالة الَّتِي مضمونها نبذ الْإِسْلَام وَرَاء الظُّهُور.
_________
١ تحكيم النَّاظر: ص ٧٣.
٢ تحكيم النَّاظر: ص ٢٧ -٢٩ طبعة سنة ١٣٧٠ هجري.
1 / 294
وَقد كذبُوا وأفكوا على طَريقَة السّلف وَضَلُّوا فِي تصويب طَريقَة الْخلف فَجمعُوا بَين باطلين: الْجَهْل فِي طَريقَة السّلف فِي كذبهمْ عَلَيْهِم، وَالْجهل والضلال بتصويب طَريقَة غَيرهم) ١ اهـ.
قلت: وَالشَّاهِد فِي هَذَا الْكَلَام وَاضح بَين أَنه نقل عَن ضلال الْمُتَكَلِّمين مقالتهم فِي التَّفْرِيق بَين طَريقَة السّلف وَالْخلف مَعَ أَن هَذَا الرجل الَّذِي أَخطَأ فِي وضع عنوان كِتَابه لم يفرق بَين عقيدة السّلف وَالْخلف فضلا عَمَّا فِي كِتَابه من الْحَقَائِق غير ثَابِتَة على أَئِمَّة الحَدِيث وعَلى غَيرهم من جهابذة الْمُتَكَلِّمين والفلاسفة الَّذين لَا يرضون عَن عمله هَذَا لِأَنَّهُ قَالَ على الْفَرِيقَيْنِ وآذاهما فِي وَقت وَاحِد، أَرْجُو لَهُ الْهِدَايَة والعودة الحميدة إِلَى طَرِيق الصَّوَاب، وَالْحق والإنصاف.
إِنِّي: حسب الْوَعْد الَّذِي قطعته على نَفسِي أَرغب أَن أتعرض لهَذِهِ الْفِتْنَة السَّوْدَاء والنكسة الشنعاء وَذَلِكَ فِي ضوء الْبَحْث العلمي، إيضاحا للحق وبيانا للْوَاقِع ودعوة إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَولونَ من مَنْهَج رفيع ودستور عَظِيم مَعَ التَّعَرُّض لتاريخ بعض رجل هَذِه الْحَادِثَة الأليمة والواقعة الخطيرة أَعنِي الاعتزال، ثمَّ الَّذين وقفُوا فِي سدها وَدفعهَا دفعا قَوِيا وسدا منيعا من أَئِمَّة الحَدِيث وَالسّنة رَحِمهم الله تَعَالَى ثمَّ التَّعَرُّض لبَعض نقُول هَذَا الْكتاب الْمَرْدُود عَلَيْهِ بِأَنَّهَا مقولة على أَصْحَابهَا بِغَيْر علم وكشفا لحقيقة هَذَا الْمُؤلف الْجَدِيد وتنبيها وتحذيرا للأخوة الطّلبَة الَّذين هم فِي حَاجَة ثقافة قَوِيَّة، وحضارة إسلامية عَظِيمَة، أَلا يقرؤوا مثل هَذِه الْكتب وَمَا أَكْثَرهَا الْيَوْم فِي الْأَسْوَاق. قبل تمكنهم من الْحُصُول على الرصيد الحافل من الْعلم الصَّحِيح والعقيدة الصافية النقية، وَذَلِكَ بدراستهم عُلُوم الْكتاب وَالسّنة وأصول دراستهما من أَفْوَاه أهل الْعلم المتمكنين مِنْهُ دراية وَرِوَايَة.
_________
١ لوامع الْأَنْوَار البهية: ج (١ /٢٥) .
١_ الْجَعْد بن دِرْهَم: نعم: أول فتْنَة شنعاء فِي هَذَا الْبَاب تَأْوِيل صِفَات الْبَارِي جلّ وَعلا وتعطيلها أَو تحريفها أَو إنكارها بِالْكُلِّيَّةِ قَامَ بهَا رجل يُسمى: الْجَعْد بن دِرْهَم. قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "عداده فِي التَّابِعين" ثمَّ قَالَ: "مُبْتَدع ضال، زعم أَن الله لم يتَّخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا، وَلم يكلم مُوسَى، فَقتل على ذَلِك بالعراق يَوْم النَّحْر"٢. _________ ٢ ميزَان الِاعْتِدَال: ٣٩٩ /١.
١_ الْجَعْد بن دِرْهَم: نعم: أول فتْنَة شنعاء فِي هَذَا الْبَاب تَأْوِيل صِفَات الْبَارِي جلّ وَعلا وتعطيلها أَو تحريفها أَو إنكارها بِالْكُلِّيَّةِ قَامَ بهَا رجل يُسمى: الْجَعْد بن دِرْهَم. قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "عداده فِي التَّابِعين" ثمَّ قَالَ: "مُبْتَدع ضال، زعم أَن الله لم يتَّخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا، وَلم يكلم مُوسَى، فَقتل على ذَلِك بالعراق يَوْم النَّحْر"٢. _________ ٢ ميزَان الِاعْتِدَال: ٣٩٩ /١.
1 / 295
وَقَالَ الْحَافِظ فِي لِسَان الْمِيزَان: "وللجعد أَخْبَار كَثِيرَة فِي الزندقة مِنْهَا: أَنه جعل فِي قَارُورَة تُرَابا وَمَاء فاستحال دودا أَو هواما فَقَالَ: أَنا خلقت هَذَا لِأَنِّي كنت سَبَب كَونه، فَبلغ ذَلِك جَعْفَر بن مُحَمَّد فَقَالَ: ليقل كم هُوَ؟ وَكم الذكران مِنْهُ وَالْإِنَاث إِن كَانَ خلقه وليأمر الَّذِي يسْعَى إِلَى هَذَا أَن يرجع إِلَى غَيره. فَبَلغهُ ذَلِك فَرجع"١ انْتهى.
وَذكره الْعَلامَة الإِمَام أَبُو سعد عبد الْكَرِيم السَّمْعَانِيّ فِي الْأَنْسَاب فِي نِسْبَة الْجَعْدِي إِذْ قَالَ: "وَجَمَاعَة نسبوا إِلَى رَأْي الْجَعْد بن دِرْهَم مولى سُوَيْد بن غَفلَة وَقع إِلَى الجزيرة وَأخذ بِرَأْيهِ جمَاعَة وَكَانَ الْوَالِي بهَا إِذْ ذَاك مَرْوَان بن مُحَمَّد، فَلَمَّا جَاءَت الخراسانية نسبوه إِلَيْهِ شنعة عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: وَقتل الْجَعْد بن دِرْهَم خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي عَامل هِشَام بن عبد الْملك"٢.
وَهَكَذَا قَالَ الإِمَام عز الدّين بن الْأَثِير فِي تَهْذِيب الْأَنْسَاب نقلا عَن السَّمْعَانِيّ فِي هَذِه النِّسْبَة٣.
وَقَالَ الْعَلامَة الديار بكري صَاحب (الْخَمِيس): "وَكَانَ مَرْوَان هَذَا يعرف بالجعدي نِسْبَة إِلَى مؤدبه وأستاذه جعد بن دِرْهَم وَكَانَ زنديقا"٤ انْتهى.
قلت: وَقد سَاق الإِمَام الْعَلامَة الْحَافِظ شيخ الْإِسْلَام عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ الْمُتَوفَّى سنة ٢٨٠ هجري إِسْنَاده فِي كِتَابه البارع النافع الْمُفِيد: (الرَّد على الْجَهْمِية) هَكَذَا فِي قتل هَذَا الزنديق: حَدثنَا الْقَاسِم بن مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن حبيب بن أبي حبيب عَن أَبِيه عَن جده حبيب بن أبي حبيب قَالَ: "خَطَبنَا خَالِد بن عبد الله القسي يَوْم الْعِيد الْأَضْحَى فَقَالَ: أَيهَا النَّاس ارْجعُوا فضحوا تقبل الله منا ومنكم فَإِنِّي مضح بالجعد بن دِرْهَم أَنه زعم أَن الله ﵎ لم يتَّخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا وَلم يكلم مُوسَى تكليما سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الْجَعْد بن دِرْهَم علوا كثيرا ثمَّ نزله فذبحه.
ثمَّ سَاق إِسْنَاد آخر بقوله: حَدثنَا هِشَام بن مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ المكفوف ثَنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان الْبَاهِلِيّ ثَنَا خلف بن خَليفَة الْأَشْجَعِيّ قَالَ: "أُتِي خَالِد بن عبد القسي بِرَجُل قد عَارض الْقُرْآن فَقَالَ: قَالَ الله فِي كِتَابه: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ . وَقلت أَنا: مَا هُوَ أحسن مِنْهُ إِنَّا أعطيناك الْجمَاهِر فصل لِرَبِّك وجاهر وَلَا تُطِع كل سافه وَكَافِر، فَضرب خَالِد عُنُقه وصلبه فَمر بِهِ خلف بن خَليفَة وَهُوَ مصلوب
_________
١ لِسَان الْمِيزَان: ١٠٥ /٢.
٢ الْأَنْسَاب للسمعاني: ٢٨٧ /٣.
٣ اللّبَاب فِي تَهْذِيب الْأَنْسَاب: ٢٨٢ /١.
٤ تَارِيخ الْخَمِيس: ١٨٣ /٢.
1 / 296
فَضرب بِيَدِهِ على خَشَبَة فَقَالَ: إِنَّا أعطيناك العمود فصل لِرَبِّك على عود فَأَنا ضَامِن لَك أَن لَا تعود" انْتهى ١
قلت: هَذَا ثَابت عَن خَالِد بن عبد الله القسي الَّذِي كَانَ عَاملا لهشام بن عبد الْملك وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ١١٨ هجري فِي وَاسِط، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة هَكَذَا٢.
_________
١ الرَّد على الْجَهْمِية للْإِمَام الدَّارمِيّ: ص ٩٧.
٢ المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة: ص ١٧٤.
٢_ أَبُو مُحرز جهم بن صَفْوَان: وتبه فِي غيه وضلاله جهم بن صَفْوَان أَبُو مُحرز، قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "السَّمرقَنْدِي الضال المبتدع، رَأس الْجَهْمِية هلك فِي زمَان صغَار التَّابِعين وَمَا عَلمته روى شَيْئا لكنه زرع شرا عَظِيما" انْتهى٣. وَقَالَ الْحَافِظ فِي لِسَانه: "وَكَانَ قتل جهم بن صَفْوَان سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة وَسَببه أَنه كَانَ يقْضِي فِي عَسْكَر الْحَارِث بن شُرَيْح الْخَارِج على أُمَرَاء خُرَاسَان فَقبض عَلَيْهِ نصر بن سيار فَقَالَ لَهُ: استبني. فَقَالَ: لَو مَلَأت هَذَا الْمَلأ كواكب وأنزلت إِلَيّ عِيسَى بن مَرْيَم مَا نجوت، وَلم كنت فِي بَطْني لشققت بَطْني حَتَّى أَقْتلك وَلَا تقوم علينا مَعَ اليمانية أَكثر مِمَّا قُمْت، وَأمر بقتْله، وَكَانَ جهم من موَالِي بني راسب وَكتب لِلْحَارِثِ" انْتهى٤. قلت: وَقد عقد الإِمَام الْحَافِظ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ فِي كِتَابه عنوانا وَهُوَ: (بَاب الإحتجاج فِي إكفار الْجَهْمِية) ثمَّ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: "ناظرني رجل بِبَغْدَاد منافخا عَن هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية فَقَالَ لي: بِأَيّ حجَّة تكفرون هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية وَقد نهي عَن إكفار أهل الْقبْلَة؟ بِكِتَاب نَاطِق تكفرونهم أم بأثر أم بِإِجْمَاع؟ فَقلت: مَا الْجَهْمِية عندنَا من أهل الْقبْلَة وَمَا نكفرهم إِلَّا بِكِتَاب مسطور وَأثر مأثور وَكفر مَشْهُور: أما الْكتاب: فَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن مُشْركي قُرَيْش من تكذيبهم بِالْقُرْآنِ فَكَانَ من أَشد مَا أخبر عَنْهُم من التَّكْذِيب أَنهم قَالُوا هُوَ مَخْلُوق كَمَا قَالَت الْجَهْمِية سَوَاء، قَالَ الوحيد: وَهُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ وَهَذَا قَول جهم إِن هَذَا إِلَّا مَخْلُوق وَكَذَلِكَ قَول من يَقُول بقوله، وَقَول من قَالَ: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ﴾ و﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ و﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ﴾ معناهم فِي جَمِيع ذَلِك وَمعنى جهم بن صَفْوَان فِي قَوْله يرجعان إِلَى أَنه مَخْلُوق لَيْسَ بَينهمَا فِيهِ من البون كغرز إبرة وَلَا كقيس شَعْرَة. فَبِهَذَا نكفرهم كَمَا أكفر الله بِهِ أئمتهم من _________ ٣ ميزَان الِاعْتِدَال: ١ /٤٢٦. ٤ لِسَان الْمِيزَان: ٢ /١٤٢.
٢_ أَبُو مُحرز جهم بن صَفْوَان: وتبه فِي غيه وضلاله جهم بن صَفْوَان أَبُو مُحرز، قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "السَّمرقَنْدِي الضال المبتدع، رَأس الْجَهْمِية هلك فِي زمَان صغَار التَّابِعين وَمَا عَلمته روى شَيْئا لكنه زرع شرا عَظِيما" انْتهى٣. وَقَالَ الْحَافِظ فِي لِسَانه: "وَكَانَ قتل جهم بن صَفْوَان سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة وَسَببه أَنه كَانَ يقْضِي فِي عَسْكَر الْحَارِث بن شُرَيْح الْخَارِج على أُمَرَاء خُرَاسَان فَقبض عَلَيْهِ نصر بن سيار فَقَالَ لَهُ: استبني. فَقَالَ: لَو مَلَأت هَذَا الْمَلأ كواكب وأنزلت إِلَيّ عِيسَى بن مَرْيَم مَا نجوت، وَلم كنت فِي بَطْني لشققت بَطْني حَتَّى أَقْتلك وَلَا تقوم علينا مَعَ اليمانية أَكثر مِمَّا قُمْت، وَأمر بقتْله، وَكَانَ جهم من موَالِي بني راسب وَكتب لِلْحَارِثِ" انْتهى٤. قلت: وَقد عقد الإِمَام الْحَافِظ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ فِي كِتَابه عنوانا وَهُوَ: (بَاب الإحتجاج فِي إكفار الْجَهْمِية) ثمَّ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: "ناظرني رجل بِبَغْدَاد منافخا عَن هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية فَقَالَ لي: بِأَيّ حجَّة تكفرون هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية وَقد نهي عَن إكفار أهل الْقبْلَة؟ بِكِتَاب نَاطِق تكفرونهم أم بأثر أم بِإِجْمَاع؟ فَقلت: مَا الْجَهْمِية عندنَا من أهل الْقبْلَة وَمَا نكفرهم إِلَّا بِكِتَاب مسطور وَأثر مأثور وَكفر مَشْهُور: أما الْكتاب: فَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن مُشْركي قُرَيْش من تكذيبهم بِالْقُرْآنِ فَكَانَ من أَشد مَا أخبر عَنْهُم من التَّكْذِيب أَنهم قَالُوا هُوَ مَخْلُوق كَمَا قَالَت الْجَهْمِية سَوَاء، قَالَ الوحيد: وَهُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ وَهَذَا قَول جهم إِن هَذَا إِلَّا مَخْلُوق وَكَذَلِكَ قَول من يَقُول بقوله، وَقَول من قَالَ: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ﴾ و﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ و﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ﴾ معناهم فِي جَمِيع ذَلِك وَمعنى جهم بن صَفْوَان فِي قَوْله يرجعان إِلَى أَنه مَخْلُوق لَيْسَ بَينهمَا فِيهِ من البون كغرز إبرة وَلَا كقيس شَعْرَة. فَبِهَذَا نكفرهم كَمَا أكفر الله بِهِ أئمتهم من _________ ٣ ميزَان الِاعْتِدَال: ١ /٤٢٦. ٤ لِسَان الْمِيزَان: ٢ /١٤٢.
1 / 297
قُرَيْش، وَقَالَ: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ إِذا قَالَ: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ لِأَن كل إفْك وَتقول وسحر واختلاق وَقَول الْبشر، كُله لَا شكّ فِي أَنه مَخْلُوق. فاتفق من الْكفْر بَين الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وجهم ابْن صَفْوَان: الْكَلِمَة وَالْمرَاد فِي الْقُرْآن أَنه مَخْلُوق فَهَذَا الْكتاب النَّاطِق فِي إكفارهم.
وَأما الْأَثر فِيهِ: فَمَا حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن يزِيد وَجَرِير بن حَازِم عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة أَن عَليّ بن أبي طَالب ﵁ أَتَى بِقوم من الزَّنَادِقَة فحرقهم بلغ ذَلِك ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ: أما أَنا فَلَو كنت لقتلتهم لقَوْل رَسُول الله ﷺ: "من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ" وَلما حرقتهم لنهى رَسُول الله ﷺ: "لَا تعذبوا بِعَذَاب الله" زَاد سُلَيْمَان فِي حَدِيث جرير: فَبلغ عليا مَا قَالَ ابْن عَبَّاس ﵄ فَقَالَ: وَيْح ابْن أم الْفضل إِنَّه لغواص على الهنات.
قَالَ أَبُو سعيد: فَرَأَيْنَا هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية أفحش زندقة، وَأظْهر كفرا، وأقبح تَأْوِيلا لكتاب الله ورد صِفَاته فِيمَا بلغنَا عَن هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَة الَّذين قَتلهمْ عَليّ ﵇ وحرقهم فمضت السّنة من عَليّ وَابْن عَبَّاس ﵄ فِي قتل الزَّنَادِقَة لما أَنَّهَا كفر عِنْدهمَا وَأَنَّهُمْ عِنْدهمَا مِمَّن بدل دين الله وتأوّلا فِي ذَلِك قَول رَسُول الله ﷺ وَلَا يجب على رجل قتل فِي قَول يَقُوله حَتَّى يكون قَوْله ذَلِك كفرا. وَلَا يجب فِيمَا دون الْكفْر قتل إِلَّا عُقُوبَة فَقَط فَذَاك الْكتاب فِي إكفارهم وَهَذَا الْأَثر" انْتهى.
قَالَ السندي عَفا الله عَنهُ: "أما حَدِيث ابْن عَبَّاس ﵄ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو سعيد بِإِسْنَادِهِ عَن شَيْخه سُلَيْمَان بن حَرْب فَهُوَ حَدِيث أخرجه الإِمَام البُخَارِيّ فِي الْجَامِع الصَّحِيح فِي كتاب الْجِهَاد بَاب رقم (١٤٩) وَهُوَ بعنوان (بَاب لَا يعذب بِعَذَاب الله) عَن شَيْخه عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ. وَأخرجه أَيْضا فِي كِتَابه اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين والمعاندين وقتالهم بَاب رقم (٢) وَهُوَ بعنوان (حكم الْمُرْتَد والمرتدة واستتابتهم) أخرجه عَن شَيْخه أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَأخرجه أَيْضا الإِمَام أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي سُنَنهمْ وَكَذَا ابْن مَاجَه وَالْإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده فِي عدَّة مَوَاضِع.
فالقائل بِخلق الْقُرْآن فِي نظر السّلف ﵏ مبدل دينه كَمَا أثبت ذَلِك أَبُو سعيد رَحمَه الله تَعَالَى من استدلاله بآيَات من الْكتاب الْحَكِيم ثمَّ قَالَ أَبُو سعيد رَحمَه الله تَعَالَى:
"ونكفرهم أَيْضا بِكفْر مَشْهُور وَهُوَ تكذيبهم بِنَصّ الْكتاب، أخبر الله ﵎ أَن الْقُرْآن كَلَامه، وَادعت الْجَهْمِية أَنه خلقه، وَأخْبر الله ﵎ أَنه كلم مُوسَى تكليما، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: لم يكلمهُ الله بِنَفسِهِ وَلم يسمع مُوسَى نفس كَلَام الله إِنَّمَا سمع كلَاما خرج إِلَيْهِ
1 / 298
من مَخْلُوق، فَفِي دَعوَاهُم دَعَا مَخْلُوق مُوسَى إِلَى ربوبيته فَقَالَ: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْك﴾ فَقَالَ لَهُ مُوسَى فِي دَعوَاهُم –صدقت ثمَّ أَتَى فِرْعَوْن يَدعُوهُ أَن يُجيب إِلَى ربوبية مَخْلُوق كَمَا أجَاب مُوسَى فِي دَعوَاهُم، فَمَا فرق بَين مُوسَى وَفرْعَوْن فِي مَذْهَبهم فِي الْكفْر إِذا فَأَي كفر بأوضح من هَذَا؟
وَقَالَ الله ﵎: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾ .
وَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَا قَالَ لشَيْء قطّ قولا وكلاما كن فَكَانَ وَلَا يَقُوله أبدا وَلم يخرج مِنْهُ كلَاما قطّ وَلَا يخرج، وَلَا يقدر على الْكَلَام فِي دَعوَاهُم، فالصم بدعواهم والرحمن بِمَنْزِلَة وَاحِدَة فِي الْكَلَام، فَأَي كفر بأوضح من هَذَا؟
وَقَالَ الله ﵎: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ و﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي﴾ و﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ وَقَالَ: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم﴾ قَالَ هَؤُلَاءِ: لَيْسَ لله يَد وَمَا خلق آدم بيدَيْهِ إِنَّمَا يَدَاهُ نعمتاه أَو رزقاه، فَادعوا فِي يَدي الله أوحش ممال ادَّعَتْهُ الْيَهُود ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ وَقَالَت الْجَهْمِية يَد الله مخلوقة، لِأَن النعم والأرزاق مخلوقة لَا شكّ فِيهَا، وَذَاكَ محَال فِي كَلَام الْعَرَب فضلا أَن يكون كفرا. لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يُقَال: خلق آدم بنعمته، ويستحيل أَن يُقَال فِي قَول الله ﵎: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ بنعمتك الْخَيْر، لِأَن الْخَيْر نَفسه هُوَ النعم نَفسهَا. ومستحيل أَن يُقَال فِي قَول الله تَعَالَى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم﴾ نعْمَة الله فَوق أَيْديهم، وَإِنَّمَا ذَكرنَاهَا هُنَا الْيَد مَعَ ذكر الْأَيْدِي فِي الْمُبَايعَة بِالْأَيْدِي فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ .
ويستحيل أَن يُقَال: ﴿يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ نعمتاه فَكَأَن لَيْسَ لَهُ إِلَّا نعمتان مبسوطتان. لَا تحصى نعمه وَلَا تستدرك، فَلذَلِك قُلْنَا: إِن هَذَا التَّأْوِيل محَال من الْكَلَام فضلا عَن أَن يكون كفرا"١ انْتهى.
قلت: مَا أوضح هَذَا الْكَلَام حجَّة وبرهانا وَمَا أبينه فِي هَذَا الْموقف الخطير الَّذِي ضل فِيهِ أَقْدَام الْمُتَأَخِّرين تقليدا لهَؤُلَاء الأشرار الَّذين أثاروا هَذِه الشكوك والأوهام نَحْو هَذِه الْحَقِيقَة الناصعة وَالْحجّة القوية الباهرة من إِثْبَات الْبَارِي ﷾ على وَجه يَلِيق بجلاله وكماله فَهَذَا الشَّيْخ مُحَمَّد زاهد الكوثري الَّذِي سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ يَقُول فِي مقالاته الْكُبْرَى مَا نَصه:
"بِدعَة الصوتية حول الْقُرْآن" ثمَّ قَالَ: "وَالْوَاقِع أَن الْقُرْآن فِي اللَّوْح وَفِي لِسَان جِبْرِيل ﵇ وَفِي لِسَان النَّبِي ﷺ وألسنة سَائِر التالين وَقُلُوبهمْ وألواحهم
_________
١ كتاب الرَّد على الْجَهْمِية: ص ٩٣ -٩٥ المطبوع فِي ليدن سنة ١٩٦٠ م.
1 / 299
مَخْلُوق حَادث مُحدث ضَرُورَة وَمن يُنكر ذَلِك يكون مسفسطا سَاقِطا من مرتبَة الْخطاب" ثمَّ يَقُول: "وَهَذَا تتبين شَهَادَة ابْن تَيْمِية فِي حق الْعلمَاء وَلَيْسَ عِنْده سوى أَلْفَاظ مرصوصة لَا إِفَادَة تحتهَا فِي بحوثه الشاذة كلهَا، وَغير الْمُفِيد لَا يعد كلَاما، وَلم يَصح فِي نِسْبَة الصَّوْت إِلَى الله حَدِيث١" انْتهى.
وسوف يَأْتِي الرَّد على هَذَا الْكَلَام الْقَبِيح فِيمَا بعد فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
_________
١ مقالات الكوثري: ص ٢٧ -٢٨. .
٣_ وَاصل بن عَطاء الْبَصْرِيّ: وَالرجل الثَّالِث من هَؤُلَاءِ الَّذين هم رَأس الْكفْر: وَاصل بن عَطاء الْبَصْرِيّ الغزال الْمُتَكَلّم. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "البليغ، المتشدق الَّذِي كَانَ يثلغ بالراء فلبلاغته هجر الرَّاء وتجنبها فِي خطابه، سمع من الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره قَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ: رجل سوء كَافِر". قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ – وَبِقَوْلِهِ قلت -: "كَانَ من أجلاء الْمُعْتَزلَة، ولد سنة ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَمِمَّا قيل فِيهِ. وَيجْعَل الْبر قمحا فِي تصرفه ... وَخَالف الرَّاء حَتَّى احتال للشعر وَلم يطق مَطَرا فِي القَوْل يَجعله ... فعاذ بالغيث إشفاقا من الْمَطَر وَله من التصانيف: كتاب المرجئة، وَكتاب التَّوْبَة، وَكتاب مَعَاني الْقُرْآن وَكَانَ يتَوَقَّف فِي عَدَالَة أهل الْجمل وَيَقُول: إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فسقت لَا بِعَينهَا، فَلم شهِدت عِنْدِي عَائِشَة وَعلي وطَلْحَة على باقة بقل لم أحكم بِشَهَادَتِهِم، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة"٢ انْتهى. قلت: هَذَا الزنديق ترْجم لَهُ ياقوت الْحَمَوِيّ فِي مُعْجم الأدباء تَرْجَمَة طَوِيلَة وَجَاء فِيهَا: "وَكَانَ وَاصل فِي أول أمره يجلس إِلَى الْحسن الْبَصْرِيّ فَلَمَّا ظهر الِاخْتِلَاف، وَقَالَت الْخَوَارِج بتكفير مرتكبي الْكَبَائِر، وَقَالَ جمَاعَة بإيمَانهمْ، خرج وَاصل عَن الْفَرِيقَيْنِ وَقَالَ _________ ٢ ميزَان الِاعْتِدَال: ٤ /٣٢٩.
٣_ وَاصل بن عَطاء الْبَصْرِيّ: وَالرجل الثَّالِث من هَؤُلَاءِ الَّذين هم رَأس الْكفْر: وَاصل بن عَطاء الْبَصْرِيّ الغزال الْمُتَكَلّم. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "البليغ، المتشدق الَّذِي كَانَ يثلغ بالراء فلبلاغته هجر الرَّاء وتجنبها فِي خطابه، سمع من الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره قَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ: رجل سوء كَافِر". قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ – وَبِقَوْلِهِ قلت -: "كَانَ من أجلاء الْمُعْتَزلَة، ولد سنة ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَمِمَّا قيل فِيهِ. وَيجْعَل الْبر قمحا فِي تصرفه ... وَخَالف الرَّاء حَتَّى احتال للشعر وَلم يطق مَطَرا فِي القَوْل يَجعله ... فعاذ بالغيث إشفاقا من الْمَطَر وَله من التصانيف: كتاب المرجئة، وَكتاب التَّوْبَة، وَكتاب مَعَاني الْقُرْآن وَكَانَ يتَوَقَّف فِي عَدَالَة أهل الْجمل وَيَقُول: إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فسقت لَا بِعَينهَا، فَلم شهِدت عِنْدِي عَائِشَة وَعلي وطَلْحَة على باقة بقل لم أحكم بِشَهَادَتِهِم، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة"٢ انْتهى. قلت: هَذَا الزنديق ترْجم لَهُ ياقوت الْحَمَوِيّ فِي مُعْجم الأدباء تَرْجَمَة طَوِيلَة وَجَاء فِيهَا: "وَكَانَ وَاصل فِي أول أمره يجلس إِلَى الْحسن الْبَصْرِيّ فَلَمَّا ظهر الِاخْتِلَاف، وَقَالَت الْخَوَارِج بتكفير مرتكبي الْكَبَائِر، وَقَالَ جمَاعَة بإيمَانهمْ، خرج وَاصل عَن الْفَرِيقَيْنِ وَقَالَ _________ ٢ ميزَان الِاعْتِدَال: ٤ /٣٢٩.
1 / 300
بِمَنْزِلَة بَين المنزلتين، فطرده الْحسن عَن مَجْلِسه فاعتزل عَنهُ وَتَبعهُ عَمْرو بن عبيد، وَمن ثمَّ سموا وجماعتهم الْمُعْتَزلَة"١.
ثمَّ قَالَ ياقوت: "وَله من التصانيف: مَعَاني الْقُرْآن، وَكتاب التَّوْبَة، وَكتاب الْخطب فِي التَّوْحِيد، وَكتاب الْمنزلَة بَين المنزلتين" ثمَّ ذكر بَقِيَّة الْكتب الَّتِي صنفها هَذَا الزنديق فِي الاعتزال وَنفي الصِّفَات وطعنه فِي أَصْحَاب النَّبِي ﷺ كَمَا شاهدت ذَلِك من كَلَام الإِمَام الذَّهَبِيّ رَحمَه الله تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يقبل شَهَادَة عَليّ وَعَائِشَة وَطَلْحَة على باقة بقل.
وَهَذَا من أقبح الْكفْر وأشنعه.
وَترْجم لَهُ القَاضِي أَبُو الْعَبَّاس شمس الدّين أَبُو بكر بن خلكان فِي وفيات الْأَعْيَان تَرْجَمَة مفصلة وفيهَا أَخْبَار زندقته وكفره وانحرافه٢.
وَترْجم لَهُ الْعَلامَة السَّمْعَانِيّ فِي الْأَنْسَاب فِي نِسْبَة المعتزلي فأجاد فِيهَا وَأفَاد أَن الإِمَام قَتَادَة بن دعامة السدُوسِي التَّابِعِيّ الْمَعْرُوف هُوَ الَّذِي سماهم الْمُعْتَزلَة.
وَقَالَ الْحَافِظ فِي لِسَانه بعد إِيرَاد كَلَام الإِمَام الذَّهَبِيّ من الْمِيزَان: "وَقَالَ المَسْعُودِيّ هُوَ قديم الْمُعْتَزلَة وشيخها، وَأول من أظهر القَوْل بالمنزلة بَين المنزلتين، وكنيته أَبُو حُذَيْفَة".
قَالَ الْحَافِظ: "كَانَ بشار الشَّاعِر صديق أبي حُذَيْفَة وَاصل وَكَانَ مدح خطبَته الَّتِي نزع مِنْهَا الرَّاء ثمَّ رَجَعَ عَنهُ لما دَان بالرجعة وَكفر جَمِيع الْأمة لأَنهم لم يتابعوا عليا فَسئلَ عَن عَليّ فَقَالَ: وَمَا شَرّ الثَّلَاثَة أم عَمْرو. قلت: وَمَا أَظن إِلَّا وهما فِي حق وَاصل"٣ انْتهى.
قلت: كَأَن الْحَافِظ فِي هَذَا الْكَلَام يَقُول: إِن المَسْعُودِيّ وبشار بن برد الشَّاعِر لم يقبل مِنْهُمَا هَذَا الشَّيْء الْوَارِد فِي حق عَليّ ﵁ لِأَنَّهُمَا موصوفان بالتشيع وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.
فَإِن هَذَا وَمن قبله من أَئِمَّة الْكفْر والضلال هم الَّذين لَهُم هَذِه الجهود الخبيثة والمساعي الخسيسة فِي إبِْطَال هَذِه العقيدة الإسلامية الصَّحِيحَة الصافية النقية الَّتِي جَاءَ بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم٤
_________
١ مُعْجم الأدباء: ٢٤٣ –٢٤٧ /٩.
٢ وفيات الْأَعْيَان: ٦ /٧ -١١.
٣ لِسَان الْمِيزَان: ٦ /٢١٥.
٤ انْظُر مقَاتل الطالبين لأبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ: ص ٢٩٣.
1 / 301
قَالَ الْعَلامَة أَبُو هِلَال العسكري الْمُتَوفَّى سنة ٣٩٥ هجري فِي كِتَابه (الْأَوَائِل): "أول من صنف فِي الْكَلَام أَبُو حُذَيْفَة وَاصل بن عَطاء" ثمَّ قَالَ بعد هَذَا العنوان مُبَاشرَة: لم يعرف فِي الْإِسْلَام كتاب كتب على أَصْنَاف الْمُلْحِدِينَ وعَلى طَبَقَات الْخَوَارِج وعَلى غَالِيَة الشِّيعَة والمشايعين فِي قَول الحشوية قبل كتب وَاصل بن عَطاء، وكل أصل نجده فِي أَيدي الْعلمَاء فِي الْكَلَام، وَالْأَحْكَام فَإِنَّمَا هُوَ مِنْهُ ثمَّ قَالَ: "وَهُوَ أول من سمى معتزليا"١ انْتهى.
قلت: هُوَ أول من ألف وصنف فِي الْإِلْحَاد وَالْكفْر فِي هَذَا الْبَاب بالتفصيل مَعَ أَن لَهُ سلفا كَمَا تقدم فِي هَذَا الانحراف الخطير.
وَلِهَذَا ترْجم لَهُ الشَّيْخ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن النديم الْمُتَوفَّى سنة ٣٤٦ هجري فِي الفهرست قَالَ: "الْمقَالة الْخَامِسَة وَهِي خَمْسَة فنون فِي الْكَلَام والمتكلمين:
الْفَنّ الأول: فِي ابْتِدَاء أَمر الْكَلَام والمتكلمين من الْمُعْتَزلَة والمرجئة وَأَسْمَاء كتبهمْ".
ثمَّ ترْجم لهَذَا الزنديق تَرْجَمَة مختصرة ومناظرته مَعَ تِلْمِيذه الضال عَمْرو بن عبيد وانتصاره وغلبته على عمر بن عبيد الَّذِي يَأْتِي فِي تَرْجَمته فِيمَا بعد.
ثمَّ قَالَ: "وأخباره كَثِيرَة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ٨٠ لِلْهِجْرَةِ بِمَدِينَة الرَّسُول ﷺ وَتوفى فِي سنة ١٣١ هـ"٢.
هَذِه هِيَ سلسلة الْإِلْحَاد والزندقة لعبت دورا هاما فِي إِفْسَاد العقيدة الإسلامية الصَّحِيحَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُول الله ﷺ وَأَصْحَابه الْكِرَام وَمن تَبِعَهُمْ بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين.
_________
١ الْأَوَائِل: ص ٢٩٨ -٣٠٠.
٢ الفهرست: ص ٢٥١.
٤_ عَمْرو بن عبيد بن بَاب: ثمَّ جَاءَ بعد هَذَا الزنديق الضال عَمْرو بن عبيد بن بَاب، أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ المعتزلي القدري مَعَ زهده وتألهه. قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "روى عَن الْحسن وَأبي قلَابَة وَعنهُ الحمادان، وَعبد الْوَارِث، ويحي الْقطَّان، وَعبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَعلي بن عَاصِم. وَوَلَاؤُهُ لبني تَمِيم، وَكَانَ من شَرط الْحجَّاج.
٤_ عَمْرو بن عبيد بن بَاب: ثمَّ جَاءَ بعد هَذَا الزنديق الضال عَمْرو بن عبيد بن بَاب، أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ المعتزلي القدري مَعَ زهده وتألهه. قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "روى عَن الْحسن وَأبي قلَابَة وَعنهُ الحمادان، وَعبد الْوَارِث، ويحي الْقطَّان، وَعبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَعلي بن عَاصِم. وَوَلَاؤُهُ لبني تَمِيم، وَكَانَ من شَرط الْحجَّاج.
1 / 302
قَالَ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان أَن عَمْرو بن عبيد سُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَأجَاب فِيهَا وَقَالَ: هَذَا من رَأْي الْحسن، فَقَالَ لَهُ رجل: إِنَّهُم يروون عَن الْحسن خلاف هَذَا؟ قَالَ: إِنَّمَا قلت هَذَا من رَأْي الْحسن –يُرِيد نَفسه-.
قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: "ابْن عون عَن ثَابت الْبنانِيّ قَالَ: رَأَيْت عَمْرو بن عبيد فِي الْمَنَام وَهُوَ يحك آيَة من الْمُصحف، فَقلت: أما تتقي الله. قَالَ: إِنِّي أبدل مَكَانهَا خيرا مِنْهَا".
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الرَّحْمَن بن جبلة عَن ثَابت بن حزم الْقطعِي حَدثنَا عَاصِم الْأَحول قَالَ: "جَلَست إِلَى قَتَادَة فَذكر عَمْرو بن عبيد فَوَقع فِيهِ، فَقلت لَا أرى الْعلمَاء يَقع بَعضهم فِي بعض، فَقَالَ: يَا أَحول أَو لَا تَدْرِي أَن الرجل إِذا ابتدع فَيَنْبَغِي أَن يذكر حَتَّى يحذر. فَجئْت مغتما فَقُمْت فَرَأَيْت عَمْرو بن عبيد يحك آيَة من الْمُصحف فَقلت لَهُ سُبْحَانَ الله قَالَ: إِنِّي سأعيدها، فَقلت: أعدهَا قَالَ: لَا أَسْتَطِيع". رَوَاهُ هدبة بن خَالِد عَنهُ.
قَالَ ابْن معِين: "لَا يكْتب حَدِيثه". وَقَالَ النَّسَائِيّ: "مَتْرُوك الحَدِيث"، وَقَالَ أَيُّوب وَيُونُس: "يكذب"، وَقَالَ حميد: "كَانَ يكذب على الْحسن". وَقَالَ ابْن حبَان: "كَانَ من أهل الْوَرع وَالْعِبَادَة إِلَى أَن أحدث وَاعْتَزل مجْلِس الْحسن هُوَ وَجَمَاعَة مَعَه فسموا الْمُعْتَزلَة" قَالَ: "وَكَانَ يشْتم الصَّحَابَة ويكذب فِي الحَدِيث وهما لَا تعمدا" وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره: "ضَعِيف".
ثمَّ قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: "يحي عَن حميد الطَّوِيل عَن عَمْرو بن النَّضر قَالَ: سُئِلَ عَمْرو بن عبيد يَوْمًا عَن شَيْء وَأَنا عِنْده فَأجَاب فِيهِ، فَقلت: لَيْسَ هَكَذَا يَقُول أَصْحَابنَا، فَقَالَ: وَمن أَصْحَابك؟ لَا أَبَا لَك. قلت: أَيُّوب وَيُونُس وَابْن عون، والتيمي، قَالَ: أُولَئِكَ أرجاس أنجاس أموات غير أَحيَاء".
قَالَ السندي: "أَيُّوب هُوَ أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة كيسَان السّخْتِيَانِيّ أَبُو بكر الْبَصْرِيّ" قَالَ الْحَافِظ نقلا عَن جملَة كَبِيرَة من أَئِمَّة الحَدِيث: "ثِقَة ثَبت حجَّة من كبار الْفُقَهَاء الْعباد من الطَّبَقَة الْخَامِسَة مَاتَ سنة ١٣١ هجري وَهُوَ من رجال الْكتب السِّتَّة"١.
وَيُونُس هُوَ: يُونُس بن ميسرَة بن حَلبس بمهملتين فِي طَرفَيْهِ وموحدة وزن جَعْفَر، وَقد ينْسب إِلَى جده، قَالَ الْحَافِظ نقلا عَن نقاد الحَدِيث وحماته، ثِقَة عَابِد معمر من الطَّبَقَة الثَّالِثَة توفى سنة ١٣٢ هجري وَهُوَ من رجال السّنَن الثَّلَاثَة: أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه."٢
_________
١ تقريب التَّهْذِيب: ١ /٨٩.
٢ الْمرجع السَّابِق: ٢ /٣٨٦.
1 / 303
وَابْن عون هُوَ: عبد الله بن عون بن أرطبا أَبُو عون الْبَصْرِيّ، قَالَ الْحَافِظ نقلا عَن جهابذة أهل الحَدِيث من عاصروا ابْن عون: "ثِقَة ثَبت فَاضل من أَقْرَان أَيُّوب فِي الْعلم وَالْعَمَل وَالسّن، من الطَّبَقَة السَّادِسَة مَاتَ سنة ١٥٠ هجري وَهُوَ من رجال الْجَمَاعَة"١.
والتيمي هُوَ: سُلَيْمَان بن طرخان التَّيْمِيّ، أَبُو الْمُعْتَمِر الْبَصْرِيّ نزل فِي تيم فنسب إِلَيْهِم. قَالَ الْحَافِظ نقلا عَن حماة السّنة ونقادها مِمَّن عاصروه: "ثِقَة، ثَبت من الطَّبَقَة الرَّابِعَة مَاتَ سنة ١٤٣ هجري وَهُوَ ابْن سبع وَتِسْعين سنة وَهُوَ من رجال الْجَمَاعَة٢.
فَقَوْل هَذَا الزنديق الملحد فِي حق هَؤُلَاءِ النقاد الْأَثْبَات الَّذين وقفُوا فِي وَجه زندقته وانحرافه، وكفره مدافعين عَن سنة رَسُول الله ﷺ، قَول زائغ وباطل لَا يلْتَفت إِلَيْهِ بِحَال من الْأَحْوَال إِلَّا مِمَّن كَانَ على شاكلته فِي الانحراف والزيغ والضلال والإلحاد وَالْكفْر وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى.
ثمَّ قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "الفلاس سَمِعت يحي يَقُول: قلت لعَمْرو بن عبيد كَيفَ حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة فِي السكتتين؟ فَقَالَ: مَا نصْنَع بسمرة قبح الله سَمُرَة".
قَالَ السندي: "قبح الله عَمْرو بن عبيد فَإِنَّهُ يسب سَمُرَة بن جُنْدُب بن هِلَال الْفَزارِيّ ﵁ وَهُوَ من أَصْحَاب النَّبِي ﷺ".
قَالَ الْحَافِظ فِي الْإِصَابَة: "وَكَانَ شَدِيدا على الْخَوَارِج فَكَانُوا يطعنون عَلَيْهِ، وَكَانَ الْحسن وَابْن سِيرِين يثنيان عَلَيْهِ"٣.
وَقَالَ الْحَافِظ فِي التَّهْذِيب: "وَكَانَ شَدِيدا على الحرورية فهم وَمن قاربهم يطعنون عَلَيْهِ، وَكَانَ عَظِيم الْأَمَانَة صَدُوق الحَدِيث يحب الْإِسْلَام وَأَهله".
وَقَالَ ابْن سعد فِي طبقاته الْكُبْرَى: "هُوَ من أَصْحَاب النَّبِي ﷺ وغزا مَعَه وَله حلف فِي الْأَنْصَار وروى عَن النَّبِي ﷺ أَحَادِيث كَثِيرَة ثمَّ نزل الْبَصْرَة بعد ذَلِك فاختلط بهَا ثمَّ أَتَى الْكُوفَة فَاشْترى بهَا دورا فِي بني أَسد بالكناسة وَله بَقِيَّة، وعقب. ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ قصَّة وَفَاته رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ٤".
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي تَجْرِيد أَسمَاء الصَّحَابَة: "هُوَ حَلِيف الْأَنْصَار وَله رِوَايَة كَثِيرَة –أَي عَن النَّبِي ﷺ"٥ انْتهى.
_________
١ الْمرجع السَّابِق: ١ /٤٣٩.
٢ الْمرجع السَّابِق: ١ /٣٢٦.
٣ الْإِصَابَة: ٢ /٧٨ -٧٩.
٤ طبقالت ابْن سعد: ٧ /٤٩ -٥٠.
٥ تَجْرِيد أَسمَاء الصَّحَابَة: ١ /٢٣٩.
1 / 304
قلت: لَهُ شرف الصُّحْبَة فَلَا يجوز سبه وَشَتمه وَقد نهى النَّبِي ﷺ عَن سنّ أَصْحَابه رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.
أخرج الإِمَام البُخَارِيّ فِي الْجَامِع الصَّحِيح وَكَذَا مُسلم فِي صَحِيحه وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ فِي سنَنَيْهِمَا وَالْإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده، كلهم من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: "لَا تسبوا أَصْحَابِي، فَإِن أحدكُم لَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مدّ أحدهم وَلَا نصيفه" انْتهى.
وَقد تكلم الْحَافِظ فِي الْفَتْح١ على هَذِه الرِّوَايَة كلَاما جيدا مُفِيدا يتَعَلَّق براوي الحَدِيث إِذْ عزاها إِلَى أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بدل أبي سعيد هَكَذَا قَالَ خلف وَأَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي والحافظ أَبُو عَليّ الجياني الأندلسي وَغَيرهم ثمَّ هَكَذَا نقل عَن الإِمَام الْمزي رَحمَه الله تَعَالَى.
الشَّاهِد من هَذَا الحَدِيث إِن هَذَا الرجل بجهله وحماقته قد سبّ سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَعَ أَن السب من أكبر الْكَبَائِر خُصُوصا فِي حق من اخْتَارَهُمْ الله تَعَالَى لصحبة نبيه ﷺ وَنشر رسَالَته فِي الأفاق، فقبح الله عَمْرو بن عبيد الْبَاب وعامله بِمَا يسْتَحقّهُ، ثمَّ قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: "مَحْمُود بن غيلَان، قلت لأبي دَاوُد إِنَّك لَا تروي عَن عبد الْوَارِث قَالَ: وَكَيف أرُوِيَ عَن رجل يزْعم أَن عَمْرو بن عبيد خير من أَيُّوب وَيُونُس وَابْن عون؟
سهم بن عبد الحميد قَالَ: مَاتَ ابْن يُونُس بن عبيد فَعَزاهُ النَّاس، فَأَتَاهُ عَمْرو فَقَالَ: إِن أَبَاك كَانَ أصلك وَأَن ابْنك كَانَ فرعك وَأَن امْرأ قد ذهب أَصله وفرعه لحري أَن يقل بَقَاؤُهُ.
قَالَ الفلاس: عَمْرو مَتْرُوك صَاحب بِدعَة، قد روى عَنهُ شُعْبَة حديثين وَحدث عَنهُ الثَّوْريّ بِأَحَادِيث. قَالَ: سَمِعت عبد الله بن مسلمة الْحَضْرَمِيّ يَقُول: سَمِعت عَمْرو بن عبيد يَقُول: لَو شهد عِنْدِي عَليّ وَطَلْحَة، وَالزُّبَيْر وَعُثْمَان على شِرَاك نعل مَا أجزت شَهَادَتهم٢".
قَالَ السندي: "هَذَا كفر بِكِتَاب الله تَعَالَى وإلحاد وزندقة، وَقد عدلهم رَبهم جلّ وَعلا فِي كِتَابه فَأَي تَعْدِيل أعظم وأوثق من تَعْدِيل رب الْجلَال ﷾ لأَصْحَاب النَّبِي ﷺ فِي كِتَابه الْحَكِيم فِي عدَّة مَوَاضِع فِي آيَاته وسوره فَالله دِرْهَم رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم".
_________
١ الْفَتْح: ٧ /٣٥.
٢ ميزَان الِاعْتِدَال: ٣ /٢٧٥.
1 / 305
ثمَّ قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: "قَالَ مُؤَمل بن هِشَام: سَمِعت ابْن علية يَقُول: أول من تكلم فِي الاعتزال وَاصل بن عَطاء الْغَزالِيّ، وَدخل مَعَه فِي ذَلِك عَمْرو بن عبيد فأعجب بِهِ وزوجه أُخْته وَقَالَ لَهَا: زَوجتك بِرَجُل مَا يصلح إِلَّا أَن يكون خَليفَة" انْتهى. قلت: خَليفَة للشَّيْطَان وَأَتْبَاعه.
ثمَّ أَطَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة هَذَا الْفَاسِق الْفَاجِر نقلا عَن أَئِمَّة الحَدِيث الْكِبَار، فِيهَا من البلايا وَالْكفْر الَّذِي يقشعر مِنْهُ الْجلد ويضطرب مِنْهُ الْقلب، وَيفْسد بِهِ الضَّمِير.
قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: عبيد الله بن معَاذ، عَن أَبِيه أَنه سمع عَمْرو بن عبيد يَقُول: وَذكر الحَدِيث عَن الصَّادِق المصدوق ﷺ فَقَالَ: لم سَمِعت الْأَعْمَش يَقُول لكذبته، وَلم سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، وَلَو سَمِعت ابْن مَسْعُود يَقُوله مَا قبلته، وَلَو سَمِعت رَسُول الله – ﷺ يَقُول هَذَا لرددته، وَلَو سَمِعت الله يَقُول هَذَا لَقلت: لَيْسَ على هَذَا أخذت ميثاقنا"١ انْتهى.
قلت: إِن صَحَّ هَذَا فَهُوَ كفر صَرِيح والإسناد المساق رِجَاله كلهم ثِقَات وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى.
_________
١ ميزَان الِاعْتِدَال: ٣ /٢٧٨.
1 / 306