Nizam al-Ithbat fi al-Fiqh al-Islami
نظام الإثبات في الفقه الإسلامي
خپرندوی
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ژانرونه
نظامُ الإثبات في الفِقهِ الإسلامي
القضاء من الأمور المعروفة والمقدرة عند الأمم. مهما تفاوتت هذه الأمم في درجات الحضارة رقيًا وانحطاط. ذلك لن الخصومة من لوازم الطبيعة البشرية، فلو لم يكن هناك رادع للقوي عن الضعيف لاختل النظام وعمت الفوضى، وإلى هذا أشار المولى ﷿ في الآية الكريمة: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ (الحج:٤٠)، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْض﴾ (البقرة:٢٥١)، فلا غرابة إذن أن تحترم الشريعة الإسلامية القضاء، وتعنى به وترسى قواعده منذ أول نشأتها.
فبع الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، ومع بداية إرساء قواعد الدولة الإسلامية، وتأسيس أجهزتها وسلطاتها، أخذ القضاء مكانه في صدارة الأجهزة عنى الرسول الله ﷺ بتأسيسها، فجاء في الحلف الذي عقده النبي ﷺ بين المهاجرين وأهل المدينة من المسلمين وغيرهم، (وأنه كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث واشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله ﷿ وإلى محمد ﷺ ١ فكان هذا صريحًا في أن كل خصومة أو نزاع يرد إلى القاضي الأول محمد رسول الله ﷺ.
على أن بساطة ذلك المجتمع الناشىء لم تكن تستدعي في المدينة نفسها كثيرًا من القضاة، حيث لم تكن هماك خصومات كثيرة. ومع ذلك فقد كان ﷺ ينيب عنه بعض أصحابه حين يرسل بعضهم واليا إلى ناحية أعلنت خضوعها لحكومة الإسلام الأولى. فكان هؤلاء يحكمون بما علموه منه - ﷺ - وبما استفادوه من صحبته.
_________
١ سيرة ابن هشام ج ١ ص ٥٠٤ ط البابي الحلبي سنة ١٣٧٥ هـ
58 / 146
فلا غرابة إذن إذا نبغ في القضاء عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، أمثال عليّ ﵁، الذي بعثه النبي ﷺ قاضيًا إلى اليمن قائلًا: " إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء". قال عليّ: فما زلت قاضيًا وما شككت في قضاء بعد " ١.
وعمر بن الخطاب ﵁ الذي جمعت رسالته إلى أبي موسى الأشعري ﵁ أحدث النظريات في النظم القضائية ٢. ومنهم عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت ﵃، وغير هؤلاء كثيرون.
فجاء بذلك الفقه الإسلامي منذ فجره حاويًا لنظامه القضائي الذي يتسق مع عدله وشموله، ومن يرجع إلى كتب الفقه الإسلامي يجد بحوث الفقهاء القيمة في مختلف فروعالقضاء، في ضبط الدعوى وشروطها، ونظام قبولها وردها. وفي مراتب القضاء المطلق منه والمقيد كالحسبة وولاية المظالم، وفي أدب القاضي وما يجب ان يتصف به، وإمكان تخصيصه بالزمان والمكان والدعوى، وفي علاقة القاضي بالحاكم، وغيره من علوم القضاء.
ولعل أهم هذه العلوم ذلك الذي يتعلق بالإثبات. والإثبات كما يعرفه رجال القانون الوضعي هو: إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي يجدها القانون على صحة واقعة قانونية يدعيها أحد طرفي الخصومة وينكرها الطرف الآخر " ٣ أو هو ما عرف عند فقهاء الشريعة الإسلامية بطرق القضاء.
وترجع أهمية الإثبات إلى أنه الأداة الضرورية التي يعول عليها القاضي في التحقيق من الوقائع المطروحة في الدعوى، والوسيلة العملية التي يعتمد عليها الأفراد في صيانة حقوقهم المترتبة على تلك الوقائع، حتى أنه ليصح القول بأن كل تنظيم قضائي يقتضي حتما ً وجود نظام للإثبات. والواقع أن الغالبية العظمى من النظم القضائية نزلت على حكم هذه الضرورة وعنيت بالإثبات، إلا أنها لم تلتزم في ذلك مذهبًا معينا. وبالاستقراء والنظر في هذه النظم نجدها قد سلكت ثلاثة مذاهب في الإثبات:
_________
١ سنن أبي داود ج ٣ ص ٣٢٨ ط هندية حديثة.
٢ كتاب عمر إلى أبي موسى في القضاء أخرجه الدارقطني في سننه ج ٤ ص ٢٠٦ ط دار المحاسن للطّباعة سنة ١٣٨٦ هـ وفي التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب العظيم أبادي قال: أخرجه البيهقي في المعرفة.
٣ الدكتور عبد الودود يحيى: دروس في قانون الاثبات ص٣. الدكتور أحمد أبو الوفاء: التعليق على نصوص قانون الاثبات ص ٢٢٢
58 / 147
الأول: مذهب الإثبات المطلق، ويرمى هذا المذهب إلى عدم تقييد القاضي بطرق معينه وبل يترك للقاضي الحرية الكاملة في اتخاذ الدليل الذي يطمئن إليه، فله أن يستكمل ما نقص من الأدلة التي عجز عنها الخصم، وله أن يحكم بعلمه الشخصي، وله استدراج الخصوم ومباغتهم لانتزاع الحقيقة من أقوالهم. وإلى هذا المذهب تميل القوانين الوضعية الجنائية الحديثة بحجة تطور الجريمة وأساليبها وصعوبة إثباتها بالطرق المحددة.
غي أن هذا المذهب منتقد من حيث أنه يمنح القاضي سلطة واسعة قد تؤدى إلى اعتسافه وانحرافه عن جادة الصواب. فيتحكم في تعيين طرق الإثبات وتحديد قيمتها بما يهوي دون رقابة، كما يؤدى إلى اضطراب العدالة، وفقدان الثقة بالقضاء لاختلف التقدير من قاض لآخر، كما يشجع الظالمين المماطلين على المنازعة في الحق الثابت أملا في الإفادة من اختلاف القضاة في التقدير ز
الثاني: مذهب الاثبات المقيد، ويقوم هذا المذهب بالحد من السلطة المطلقة الممنوحة للقاضي في المذهب السابق، وذلك بتحديد طرق معينة للإثبات، فلا يستطيع الخصوم إثبات دعواهم من خلالها، ولا يستطيع القاضي تكوين عقيدته إلا بهذا الدليل الذي حدده القانون، فلا يحكم بعلمه الشخصي، ولا يجعل للدليل قيمة أكثر مما هو محدد له بالقانون.
وعيب هذا المذهب - بالرغم مما يكلفه للقضاء من ثقة واستقرار - أنه يجعل دور القاضي سلبيًا، ووظيفته آلية، مما يؤدي إلى يصدر القاضي حكما بغير ما ارتاح له ضميره، إذا نمى إلى اعتقاده أن الحقيقة الواقعة ظاهرة بدليل من غير الطرق التي حددها القانون.
الثالث: مذهب الاثبات المختلط: هو المذهب الذي يجمع بين المذهبين السابقين، فيحاول الجمع بين مميزاتها، والتخفيف من مضارها، فهو مع تحديده لطرق الإثبات إلا أنه يمنح القاضي سلطة في تقدير الأدلة، فمثلا: له أن يقضي بما أجمع عليه الشهود، أو أن يقضي بعكسه، وله سلطة تقدير القرائن. وهذا المذهب هو ما تأخذ به أغلب القوانين الوضعية المعاصرة، فتبلغ حدها الأقصى في المواد الجنائية من جهة حرية القاضي في تقدير الأدلة، وحدها الأدنى في المواد المدنية حيث تكون سلطة القاضي في تقدير الأدلة أقل كثيرا من سلطنه في المواد الجنائية ١.
_________
١ محمد عبد اللطيف: قانون الإثبات في المواد المدنية ص ٦. الدكتور سليمان مرقص: اصول الإثبات في المواد المدنية ص ٧.
58 / 148
فإلى أى هذه المذاهب يتجه الفقه الإسلامي في منهجه للإثبات؟
يميل بعض الفقهاء وأبرزهم ابن القيم الجوزية إلى مذهب الإثبات المطلق الذي يعطي القاضي الحرية المطلقة في تكوين عقيدته من أي دليل يعرض عليه وولا يتقيد بطريق إثبات معين، ويتضح ميل ابن القيم إلى مذهب إطلاق الإثبات مما يأتي:
أولًا: تفسيره للبينة حيث يجعلها كل ما يبين من الحق، ولا يقصرها على شهادة الشهود كما قال غيره من الفقهاء. فيقول: " فالبينة اسم لكل ما يبين من الحق، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه " ١.
ثانيًا: إجازته للقاضي أن يتوصل للحق بالتحايل على الخصم استدلالًا بما كان يفعله إياس بن معاوية وشريح ٢.
ثالثًا: إجازته للقاضي أن يقضي بالفراسة بالرغم من استتار خطوات الاستنتاج فيها، وأن الدليل المأخوذ منها غير معروف لغير القاضي. وستعرض رأي ابن القيم في الحكم بالفراسة بشىء من التفصيل إن شاء الله.
رابعًا: يقول في اعلام الموقعين: " فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره. والله تعالى لم يحضر طرق العدل وأدلته وأمارته في نوع واحد وأبطل غيره. فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها. والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وانما المراد غاياتها التي هي المقاصد "٣.
فأنت ترى صراحة نصه على عدم التقيد بطريق محدد للإثبات، فأي سبيل يبين به وجه الحق يكون دليلًا معتبرًا مادام قد كشف للقاضي وجه الدعوى.
وبناء على هذا القول الذي يقضي بعدم حصر أدلة الثبوت عنده، فقد ذكر في كتابه الطرق الحكيمة كثيرا من طرق القضاء التي يخالفه فيها كثير من الفقهاء كالقرعة، وشهادة الكفار، والفراسة، وغيرها
_________
١ الطرق الحكيمة ص ٢٩ ط مطبعة مصر سنة ١٩٦٠ م.
٢ إياس بن معاوية بن قرة المزني، قاضي البصرة ومضرب المثل في الفطنة والذكاء والفراسة توفي سنة ١٢٢ هـ. الاعلام ج ١ ص ٣٧٦ ط مصورة بيروت. وشريح بن الحارث الكندي من أشهر القضاء في صدر الإسلام، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية. توفي سنة ٧٨ هـ. الاعلام ج ٣ ص ٢٣٦.
٣ اعلام الموقعين ج ٤ ص ٣٧٣ ط دار الجيل بيروت.
58 / 149
مذهب جمهور الفقهاء:
أما بالنسبة لجمهور الفقهاء وما اتجهت إليه أنظارهم في الإثبات، فيرى بعض فقهاء القانون المصرى أنهم أخذوا بمذهب الإثبات المقيد نظرًا لما رآه منهم في تحديد الشهادة تحديدًا دقيقًا، وجعلها مراتب مترتبة، والتزامهم بهذا التحديد ١.
وفي نظري أن هذا القول ليس بصحيح، فالفقهاء لم يأخذوا بمذهب تقييد افثبات على ما هو عليه عند أصحابه، إنما القول بأنهم أقرب إلى المذهب المختلط هو الصواب عندي، علما بأن نظرة الفقه الإسلامي للإثبات نظرة متميزة لم يكن همها أن تكون ضمن أي من المذاهب المذكورة.
ونرى ان الفقه الإسلامي كان قريبًا من المذهب المختلط للأسباب الآتية:
أولًا: إنهم حددوا طرق الإثبات وجعلوها في أدلة معينة، ولكنهم لم يجدوا من سلطة القاضي في تقدير الأدلة كما فعل أنصار المذهب المقيد. وبذلك لم يجعل الفقهاء وظيفة القاضي آلية لا أثر لها في تقدير الأدلة، فللقاضي عند جمهور الفقهاء أن يقضي بغير ما أجمع عليه الشهود إذا ظهر الحق من طريق غيرهم، ومن ذلك قالوا: لا تحد المرأة إذا شهد عليها أربعة بالزنا وظهر أنها بكر ٢.
ثانيًا: إنهم أعطوا القاضي سلطة تقدير القرائن. هذه السلطة وإن كانت تضيق في مجال الحدود، إلا أنها تتسع في غيرها من الدعاوى الجنائية، كما تتسع في دعاوى المعاملات المالية. وسيتضح هذا القول عند كلامنا عن القرائن إن شاء الله. وسلطة تقدير القرائن هو ما نميز به المذهب المختلط.
ثالثًا: إنهم لم يجيزوا للقاضي ان يقضي يعلمه الشخصي، وهذا ما تميز به المذهب المختلط.
رابعًا: قالوا: إنه لا يلزم الأمر باستشهاد رجلين أو رجل وامرأتين في الديون وقت التحمل ألا يحكم القاضي بذلك الدين. فإن ثبت من طريق آخر كالنكول، أو شاهد ويمين المدعى قضى به٣.
_________
١ انظر: أصول الإثبات في المواد المدنية السابق ذكره. هامش ص ٤.
٢ تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي الشافعي ج ٩ ص ١١٤ ط البابي الحلبي سنة ١٢١٥ هـ. المغني لابن قدامة الحنبلي ج ٨ ص ٢٠٧ ط دار المنار سنة ١٣٦٧هـ. البحر الزخار فقه زيدي جـ ٥ ص ١٨٠ ويقول بذلك الدسوقي المالكي وإن كان المذهب على خلاف هذا القول.
انظر الشرح الكبير وحاشية الدسوقي جـ ٤ ص ٣١٩ ط مطبعة السعادة مصر سنة ١٣٢٩ هـ.
٣ بداية المجتهد جـ ٢ ص ٤٦٩ ط البابي الحلبي سنة ١٣٧٩ هـ. الطرق الحكيمة ص ١٤. طرق القضاء في الشريعة الإسلامية: لأحمد إبراهيم ص ١٣.
58 / 150
ولا شك أن هذا مزج بين تحديد الأدلة وحرية القاضي في تقديرها، كما أنه تخفيف لمضار تقييد الإثبات، وهو ما لجأ إليه أنصار المذهب المختلط.
خامسًا: إنهم جعلوا الشهادة حجة فيما قامت عليه مهما كان المدعى به، ولم يقيدوها بقدر معين كما فعل بعض القانونيين من أنصار المذهب المختلط ١.
وهذا يدل على أن بعض القوانين التي أخذت بالمذهب المختلط أشد تضييقا من الفقه الإسلامي، لأن القاضي في هذه القوانين لا يحكم بشهادة الشهود إذا جاوز الحق المدعى به القدر الذي حدده القانون، ولو اعتقد القاضي صحتها وصدقها فيما قامت عليه.
كل هذه الأسباب جعلت نظرة جمهور الفقهاء أقرب إلى المذهب المختلط الذي يجمع بين مزايا المذهبين الآخرين المقيد والمطلق، ويخفف من مضارها، فهو يحدد أدلة الإثبات ولا يحد من سلطة القاضي في تقدير هذه الدلة، كما لا يطلق للقاضي الحرية ليتخذ دليله في الدعوى من أي دليل يراه أو يطمئن إليه، حتى لا يتعسف القضاة فتتمكن تهمة استغلالهم لسلطة وظيفتهم، فكان أن حدد الفقه الإسلامي طرقا للإثبات لا يتجاوزها القاضي ‘ وليس للخصوم أن يثبتوا دعواهم بغيرها.
وبالرغم من قولنا أن الفقه الإسلامي كان قريبا من مذهب الإثبات المختلط، إلا أنه قد حوى نظامًا لفثبات تفرد به وميزه عن القوانين التي أخذت بالمذهب المختلط، ذلك لأنه لم يكن متأثرًا بمذهب معين، إنما هو تشريع من لدن حكيم خبير.
فإذا كان مذهب الإثبات المختلط قد ترك للقاضي الحرية في استخلاص حكمه من أي دليل يعرض عليه في الدعوى الجنائية، فإن الفقه الإسلامي قد قصم الدعاوى الجنائية إلى ثلاث طوائف، قيد الأدلة في طائفتين، وهما الحدود والقصاص، وترك له الحرية في طائفة التعزير، وسنرى إيضاحًا أكثر لهذا القول عند كلامنا عن القرائن إن شاء الله.
كما أن القواينين التي أخذت بالمذهب المختلط قد سعت إلى تقييد الإثبات في الدعوى المديمية بقدر كبير، فلم تأخذ بشهادة الشهود مثلًا إذا جاوز الحق المدعى به قدرًا معينًا، كما لم تقبل إثبات بعص الحقوق المدنية إلا بالكتابة، بينما لا نجد هذه القيود في الفقه الإسلامي، فالشريعة الإسلامية بما تغرسه في الفرد من إصلاح وتهذيب، وبما تحثه عليه من مراقبة الله ﷿ تبعده عن تهمة الكذب والتزوير، فهي بذلك تفترض أمانة الشخص.
_________
١ يقيد القانون المصري الشهادة في الحقوق المدنية فلا يحكم بها إذا جاوز الحق المدعى به عشري جنيها. مجموعة الأعمال التحضيرية جـ ٣ ص ٣٩٦.
58 / 151
وصدقه فيما شهد به، ولذلك كانت هذه الشهادة حجة فيما قامت به، وللقاضي أن يستند عليها في حكمه مهما كان القدر المدعى به، وهذا لا يمنعه من مساءلة الشهود ومعرفة مدى صدقهم ومعرفتهم للواقعة المطروحة.
كما أن مبدأ الإثبات بالكتابة مع وجوده واحترام الفقه الإسلامي له وحثه عليه، إلا أن الفقهاء لم يجعلوه شرطا لا يجوز الإثبات إلاّ به.
الآن، وبعد أن بينا تفرد الفقه الإسلامي في نظامه للإثبات، وتميزه عن نظم الإثبات الوضعية، بقي لنا أن نتناول سمات أدلة الإثبات في الفقه الإسلامي، وأقسامه، وما تميز به كل دليل منها، ومصدره الأصولي، وليكن ذلك حديثنا في مقال قادم عن شاء الله تعالى.
58 / 152
مدخل
...
نظامُ الإثبات في الفقه الإسلامي
للدكتور عوض عبد الله أبو بكر أستاذ مساعد بكلية الشريعة
دراسة مقارنة
بينا في مقالنا السابق أن الفقه الإسلامي قد حوى نظامًا متميزًا ومتفردًا في الإثبات، يتسق مع نظامه الشامل العادل. فهو مع تحديده لأدلة إثبات الدعوى- على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء- إلا أنه لم يحد من سلطة القاضي في تقدير الأدلة حتى لا يجعل وظيفة القاضي إلية لا أثر لها في الحكم. كما أنه لم يطلق للقاضي الحرية الكاملة في تحديد الأدلة تجنبا لتعسف القضاة في استعمال هذا الحق فيستغلون سلطة وظيفتهم.
وقبل أن نتناوله هذه الأدلة نود أن نشير إلى أن القوانين الوضعية بعد مناقشات وتعديلات قد لجأت إلى تحديد الأدلة في الدعوى المدنية والتجارية، اتفاقًا بذلك مع قول جمهور الفقهاء، إلا أنها قد خالفت الفقهاء في تحديد القيمة لكل دليل من هذه الأدلة، كما سنرى إن شاء الله- أما في الدعوى الجنائية فإن القانونيين يميلون إلى رأى ابن قيم الجوزية الذي يقضي بعدم حصر أدلة الثبوت، ولذلك نجدهم يطلقون للقاضي الحرية الكاملة في الدعوى الجنائية ليستمد إقناعه من أي دليل يعرض عليه.
أما فيما يتعلق بأدلة الإثبات في الفقه الإسلامي، فإننا نجدها قد انقسمت إلى قسمين رئيسيين: قسم اتفق الفقهاء على حجته وقبوله كدليل في الدعوى، يعول عليه القضاة، ويتمسك به الخصوم في إثبات دعواهم، وقسم اختلف الفقهاء في قبوله دليلًا للإثبات. ومنشأ هذا الإختلاف في هذا القسم الأخير هو: إما لعدم قوة الأدلة الدالة على اعتباره، أو للإحتياط الشديد الذي تميزت به بعض المذاهب الإسلامية، فاحتاطت للقضاة حتى لا يكون تعويلهم على أدلة ظنية لا تطمئن إليها النفوس، فتضطرب الأحكام وتختلط الحقوق.
ولنلق الآن نظرة عامة على هذه الأدلة، ولنشير إلى موقف القانونيين في بعض مسائلها.
القسم المتفق عليه: أولًا: الإقرار: والمعنى الاصطلاحي للاقرار كما تدل عليه عبارات الفقهاء هو إخبار الإنسان بحق عليه لغيره. فلا يسمى إخبار الغير بحق لآخر إقرارا.١ الأصل في الإقرار: وقد ثبتت حجية الإقرار بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول: _________ ١ البحر الرائق لابن نجيم جـ٧، ص٢٤٩ ط دار المعرفة بيروت. وانظر أيضا منحة الخالق على البحر الرائق لابن عابدين جـ٧،ص ٢٤٩. تبصرة الحكام لابن فرحون جـ ٢ ص ٥٣ المطبعة البهية مصر سنة ١٣٠٢هـ
القسم المتفق عليه: أولًا: الإقرار: والمعنى الاصطلاحي للاقرار كما تدل عليه عبارات الفقهاء هو إخبار الإنسان بحق عليه لغيره. فلا يسمى إخبار الغير بحق لآخر إقرارا.١ الأصل في الإقرار: وقد ثبتت حجية الإقرار بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول: _________ ١ البحر الرائق لابن نجيم جـ٧، ص٢٤٩ ط دار المعرفة بيروت. وانظر أيضا منحة الخالق على البحر الرائق لابن عابدين جـ٧،ص ٢٤٩. تبصرة الحكام لابن فرحون جـ ٢ ص ٥٣ المطبعة البهية مصر سنة ١٣٠٢هـ
59 / 91
فالكتاب: قوله تعالى: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ (البقرة: ٢٨٢) فأمر سبحانه من عليه الحق بالإملال، وإملاله هو إقراره وإلا لما كان فيه فائدة، ولما أمر الله به. وكذلك قوله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ (النساء: ١٣٥) وشهادة الإنسان على نفسه هو إقراره بالحق.
أما السنة: فما روى متفقًا عليه من أنه ﷺ قبل إقرار ماعز بالزنا. وعند مسلم وأصحاب السنن أنه قبل إقرار الغامدية بالزنا، فعامل كلا منهما بموجب الإقرار بإقامة الحد عليه١.
أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة من عهده ﷺ إلى يومنا هذا على أن الإقرار حجة على المقر، وجرت بذلك في معاملاتها وأقضيتها.
أما المعقول: فهو أن العاقل لا يقر بشيء ضار بنفسه أو ماله إلا إذا كان صادقا فيه.
والإقرار هو أول الحجج الشرعية وأقواها، لأنه ليس هناك أبلغ من أن يقضي الإنسان على نفسه بالإعتراف بثبوت الحق عليه. ولما كان للإقرار هذه القوة وهذه الأهمية في الإثبات، كان لابد من عناية الفقهاء به وضبطه حتى يكون صحيحا واضح الدلالة. ولذا فقد جعلوا له شروطًا لابد من توافرها، بعضها في المقر، وبعضها في المقر له، وبعضها في المقر به.
ويمكن إجمال هذه الشروط في أنه يشترط في المقر أن يكون عاقلًا بالغًا، طائعًا، مختارًا، وأن لا يكون هازلًا، كما يشترط في المقر له أن يكون موجودًا حال الإقرار، أو وجد قبله ومات، وأن يكون أهلا للملك، وأن يكون سبب استحقاقه للمقر به مقبولًا عقلًا، فلو أقر للحمل وقال عن بيع باعه، لغا الإقرار، وألا يكون المقر له مجهولًا جهالة فاحشة٢.
التهمة في الإقرار: ومن الشروط التي تدل على بعد نظر فقهاء الشريعة هو أنه يشترط لصحة الإقرار عندهم ألا يكون المقر متهما في هذا الإقرار، فلو كان متهما فيه لم يصح إقراره، إذ التهمة تخل برجحان جانب الصدق على جانب الكذب، ولأن الإقرار شهادة على النفس كما قدمنا والشهادة ترد بالتهمة. ومن الأمثلة على رد الفقهاء الإقرار بتهمة المقر، إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين. وتكييف هذه التهمة التي تلحق بالمريض مرض الموت: هو أن المريض وقد أحس بدنو أجله وقرب رحيله عن الدنيا وفراقه لماله الذي سيؤول إلى خلفاء غيره، ربما أراد أن يؤثر بعض هؤلاء الخلفاء على غيرهم بميل الطبع أو ربما أراد أن يحرم بعضهم لضغينة يحملها عليهم، فيذهب إلى تنفيذ غرضه بصورة الإقرار من غير أن يكون للمقر له دين عليه أصلا، فكان متهما في هذا الإقرار فيرد الإقرار. ويظهر القول بعدم صحة إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين، واضحا جليا في عبارات _________ ١ صحيح مسلم بشرح النووي جـ ١١ ص ١٩٥. ط المطبعة المصرية ومكتبتها. وانظر جمع الفوائد جـ١ ص ٧٤٩ ط دار التأليف مصر.. ٢ بداية المجتهد جـ ٢ ص ٤٦١ ط ألبابي الحلبي سنة ١٣٧٩ هـ، المرافعات الشرعية لمحمد زيد بك الابياني ص ٤٤ وما بعدها٠ الأصول القضائية في المرافعات الشرعية. علي قراعة ص ٧٠.
التهمة في الإقرار: ومن الشروط التي تدل على بعد نظر فقهاء الشريعة هو أنه يشترط لصحة الإقرار عندهم ألا يكون المقر متهما في هذا الإقرار، فلو كان متهما فيه لم يصح إقراره، إذ التهمة تخل برجحان جانب الصدق على جانب الكذب، ولأن الإقرار شهادة على النفس كما قدمنا والشهادة ترد بالتهمة. ومن الأمثلة على رد الفقهاء الإقرار بتهمة المقر، إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين. وتكييف هذه التهمة التي تلحق بالمريض مرض الموت: هو أن المريض وقد أحس بدنو أجله وقرب رحيله عن الدنيا وفراقه لماله الذي سيؤول إلى خلفاء غيره، ربما أراد أن يؤثر بعض هؤلاء الخلفاء على غيرهم بميل الطبع أو ربما أراد أن يحرم بعضهم لضغينة يحملها عليهم، فيذهب إلى تنفيذ غرضه بصورة الإقرار من غير أن يكون للمقر له دين عليه أصلا، فكان متهما في هذا الإقرار فيرد الإقرار. ويظهر القول بعدم صحة إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين، واضحا جليا في عبارات _________ ١ صحيح مسلم بشرح النووي جـ ١١ ص ١٩٥. ط المطبعة المصرية ومكتبتها. وانظر جمع الفوائد جـ١ ص ٧٤٩ ط دار التأليف مصر.. ٢ بداية المجتهد جـ ٢ ص ٤٦١ ط ألبابي الحلبي سنة ١٣٧٩ هـ، المرافعات الشرعية لمحمد زيد بك الابياني ص ٤٤ وما بعدها٠ الأصول القضائية في المرافعات الشرعية. علي قراعة ص ٧٠.
59 / 92
فقهاء الحنفية والحنابلة والمالكية، أما الإمام الشافعي فإنه وإن كان متفقًا معهم في الحد من تصرفات المريض مرض الموت فيما يتعلق بالوصية والبيع والشراء بمحاباة، إلا أنه لم يوافقهم في عدم قبول إقراره لانتفاء التهمة في نظره١.
وما يقال عن المريض مرض الموت، يمكن أن يقال عن المدين المحجور عليه بسبب الدين، فقد ذهب فقهاء الحنفية والحنابلة إلى وقف سريان إقراره، وقالوا:" إن إقرار المدين بحق حال الحجر عليه تصرف يضر بالغرماء. ومقصود الحجر هو منع المدين من كل تصرف يضر بهم، إذ أن الحجر لحقهم، والمدين متهم في هذا الإقرار، وعليه فإنه لا يشارك المقر له الغرماء فيما حجر عليه من مال، ولكن يؤاخذ المقر بإقراره، ويلزمه بعد قضاء ديون الغرماء الذين طلبوا الحجر على المدين "٢.
وقد قررت هذه الأحكام منذ زمن بعيد في الفقه الإسلامي لمصلحة الورثة في مال مورثهم، والدائنين في مال مدينهم، فاحتاط الفقهاء ومنعوا التصرفات التي تلحق بهم الضرر. وفي نفس الوقت وقف القانون الغربي جامدًا ولم يستطع أن يقرر شيئًا من هذا القبيل. ولذا لجأ القانونيون في مصر لاستمداد هذه الأحكام من الشريعة الإسلامية.
يقول الدكتور محمد كامل مرسي: "ولكن الرأي الصحيح هو أن الأحكام التي أتى بها الشارع المصري خاصة بالبيع الحاصل في مرض الموت ليست مبنية على فكرة عدم أهلية المريض، وقد جاءت بها الشريعة الإسلامية مراعاة لمصلحة الورثة والمحافظة على حقوقهم بمنع المورث من إيثار بعضهم على بعض "٣.
ويقول الدكتور عبد الناصر العطار: "لم يعرف القانون المدني مرض الموت، فيرجع في تعريفه إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدرًا رئيسيًا للتشريع، ومصدرًا تاريخيًا استمد المشرع منه أحكام المريض مرض الموت، ومصدر احتياطيًا لابد من الرجوع إليه إذا لم يوجد نص أو عرف "٤.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أصالة هذه الشريعة وكمالها وتفردها بكثير من الأحكام التي عجزت القوانين الوضعية أن تأتى بمثلها.
ثانيًا: الشهادة: ويطلق عليها جمهور الفقهاء البينة، فالأصل أن البينة تطلق على كل ما يبين به الحق، ولكن جمهور الفقهاء خصوها بالشهادة، ولذا قد عتب عليهم ابن القيم في هذا التخصيص وقال:" إن من خصَّ البينة بشهادة الشهود لم يوف مسماها حقه ". _________ ١ أصول البزدوي وكشف الأسرار جـ ٤ ص ٣٠٩ ط المطبعة العثمانية سنة ١٣٥٨ هـ. المغني لابن قدامة جـ ٦ ص ٧٣ ط دار المنار سنة ١٣٦٧ هـ. قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي المالكي ص ٢٤٢ ط دار العلم بيروت. الأشباه والنظائر للسيوطي ص ٢٦٢ ط مصطفى محمد سنة ٣٥٥اهـ ٥ الهداية مع تكملة فتح القديرة٨ ص ٢٥٤ ٠ المطبعة الأميرية مصر سنة ١٣١٥هـ. المغني لابن قدامة جـ ٤ ص ٤٣٩ ٣مجلة القانون والاقتصاد، العدد الثالث السنة الثامنة مارس ١٩٣٨ م. ص ٢٧٣.. ٤الدكتور عبد الناصر العطار: إثبات الملكية بند ٢٤ ص ١١٢..
ثانيًا: الشهادة: ويطلق عليها جمهور الفقهاء البينة، فالأصل أن البينة تطلق على كل ما يبين به الحق، ولكن جمهور الفقهاء خصوها بالشهادة، ولذا قد عتب عليهم ابن القيم في هذا التخصيص وقال:" إن من خصَّ البينة بشهادة الشهود لم يوف مسماها حقه ". _________ ١ أصول البزدوي وكشف الأسرار جـ ٤ ص ٣٠٩ ط المطبعة العثمانية سنة ١٣٥٨ هـ. المغني لابن قدامة جـ ٦ ص ٧٣ ط دار المنار سنة ١٣٦٧ هـ. قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي المالكي ص ٢٤٢ ط دار العلم بيروت. الأشباه والنظائر للسيوطي ص ٢٦٢ ط مصطفى محمد سنة ٣٥٥اهـ ٥ الهداية مع تكملة فتح القديرة٨ ص ٢٥٤ ٠ المطبعة الأميرية مصر سنة ١٣١٥هـ. المغني لابن قدامة جـ ٤ ص ٤٣٩ ٣مجلة القانون والاقتصاد، العدد الثالث السنة الثامنة مارس ١٩٣٨ م. ص ٢٧٣.. ٤الدكتور عبد الناصر العطار: إثبات الملكية بند ٢٤ ص ١١٢..
59 / 93
والشهادة في اصطلاحهم هي إخبار الإنسان بحق لغيره على غيره، أوهي إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء١.
الأصل في الشهادة وحكمها: وأداء الشهادة واجب في غير الحدود، لقول الله تعالى: ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ (البقرة: ٢٨٢) وقوله تعالى: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ (البقرة: ٢٨٣) . أما جرائم الحدود فالستر مطلوب فيها، وإذا كان الستر مطلوبًا فيها، فإن الأخبار بها يكون خلاف الأولى، وما كان خلاف الأولى لا يكون واجبًا٢.
نصاب الشهادة: أما نصاب الشهادة فهو على أربع مراتب: الأولى: الشهادة على الزنا ونصابها أربع رجال. الثانية: الشهادة على بقية الحدود والقصاص ونصابها رجلان، ولا تقبل فيها شهادة النساء. الثالثة: الشهادة على ما لا يطلع عليه الرجال من عيوب النساء كالولادة، والبكارة فيكتفي فيها بشهادة امرأة واحدة. الرابعة: سائر حقوق العباد، سواء أكانت مالًا أو غير مال كالبيع والهبة والنكاح والإِجارة والوصية، ونصابها رجلان أو رجل وامرأتان. والشهادة حجة من الحجج الشرعية تثبت بها جميع الحقوق، سواءً كانت من حقوق الله الخالصة أومن حقوق العباد، مهما كانت قيمة الشيء المدعي به، طالما توفر النصاب المشترط للحق المدعي به، وطالما توفرت الشروط والضوابط التي قررها الفقه الإسلامي لهذه الشهادة، سواء تعلقت بالشاهد وما يتعلق به من تزكية، وتحمل، وأداء، ومعاينة للمشهود به، أو سماع فيما يقبل السماع فيه، أو تعلقت بالمشهود له، أو المشهود به. والشهادة ليست كالإقرار القاصر على المقر وحده، إنما هي حجة متعدية يثبت بها الحق المدعي به على الغير.
مقارنة بين الفقه والقانون في موضوع الشهادة: (١) الشهادة في الفقه الإسلامي دليل كامل يثبت به جميع الحقوق سواء أكانت من حقوق الله الخالصة أومن حقوق العباد مهما كان القدر المدعي به، أما في القانون الوضعي فهي دليل احتياطي واستثنائي غير كامل، فلا يؤخذ بها كدليل إلا في حدود معينة (المواد ٦٠ إلى ٦٤ إثبات _________ ١ الطرق الحكمية ص ١٤، بداية المجتهد جـ ٢ ص ٤٦٣، فتح القدير لابن الهمام جـ ٦ ص ٣. . ٢ البحر الرائق جـ ٧ ص٦٠، حاشية ابن عابدين جـ٣ ص ١٩٨. .
الأصل في الشهادة وحكمها: وأداء الشهادة واجب في غير الحدود، لقول الله تعالى: ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ (البقرة: ٢٨٢) وقوله تعالى: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ (البقرة: ٢٨٣) . أما جرائم الحدود فالستر مطلوب فيها، وإذا كان الستر مطلوبًا فيها، فإن الأخبار بها يكون خلاف الأولى، وما كان خلاف الأولى لا يكون واجبًا٢.
نصاب الشهادة: أما نصاب الشهادة فهو على أربع مراتب: الأولى: الشهادة على الزنا ونصابها أربع رجال. الثانية: الشهادة على بقية الحدود والقصاص ونصابها رجلان، ولا تقبل فيها شهادة النساء. الثالثة: الشهادة على ما لا يطلع عليه الرجال من عيوب النساء كالولادة، والبكارة فيكتفي فيها بشهادة امرأة واحدة. الرابعة: سائر حقوق العباد، سواء أكانت مالًا أو غير مال كالبيع والهبة والنكاح والإِجارة والوصية، ونصابها رجلان أو رجل وامرأتان. والشهادة حجة من الحجج الشرعية تثبت بها جميع الحقوق، سواءً كانت من حقوق الله الخالصة أومن حقوق العباد، مهما كانت قيمة الشيء المدعي به، طالما توفر النصاب المشترط للحق المدعي به، وطالما توفرت الشروط والضوابط التي قررها الفقه الإسلامي لهذه الشهادة، سواء تعلقت بالشاهد وما يتعلق به من تزكية، وتحمل، وأداء، ومعاينة للمشهود به، أو سماع فيما يقبل السماع فيه، أو تعلقت بالمشهود له، أو المشهود به. والشهادة ليست كالإقرار القاصر على المقر وحده، إنما هي حجة متعدية يثبت بها الحق المدعي به على الغير.
مقارنة بين الفقه والقانون في موضوع الشهادة: (١) الشهادة في الفقه الإسلامي دليل كامل يثبت به جميع الحقوق سواء أكانت من حقوق الله الخالصة أومن حقوق العباد مهما كان القدر المدعي به، أما في القانون الوضعي فهي دليل احتياطي واستثنائي غير كامل، فلا يؤخذ بها كدليل إلا في حدود معينة (المواد ٦٠ إلى ٦٤ إثبات _________ ١ الطرق الحكمية ص ١٤، بداية المجتهد جـ ٢ ص ٤٦٣، فتح القدير لابن الهمام جـ ٦ ص ٣. . ٢ البحر الرائق جـ ٧ ص٦٠، حاشية ابن عابدين جـ٣ ص ١٩٨. .
59 / 94
مقارنة بين الشهادة والإقرار:
(١) الشهادة حجة كاملة لاتصال القضاء بها، لأن القاضي ولايته عامة وتتعدى إلى الكل، أما الإقرار فإنه حجة قاصرة على المقر وحده، ولا يحاسب الغير بإقراره، وذلك لقصور ولايته على غيره، ولذا فإنه لو أقر مجهول النسب بالرق جاز على نفسه وماله ولا يسري هذا الإقرار على أولاده.
(٢) الشهادة لا توجب حقا إلا باتصال القضاء بها، أما الإقرار فإنه موجب للحق بنفسه عند عامة الفقهاء وإن لم يتصل به القضاء. والجدير بالذكر أن القانون الوضعي لا يعترف إلا بالإقرار القضائي، أما الإقرار في غير مجلس القضاء فلا عبرة له عندهم (مادة ١٦ من مشروع قانون الإثبات السوداني لسنة ١٩٨١) .
(٣) يصح الإقرار بالمعلوم والمجهول، ويقبل إقراره، بخلاف الشهادة فإنها لا تكون إلا بعد العلم بالمشهود به. فلو قال لفلان علىّ دين أو حق، قبل، ولو أقر بزناه بامرأة لا يعرفها حد ولابد من علم الشهود بالمشهود عليه فلو قالوا لا نعرفها ترد شهادتهم.
ولا يوجد دليل من أدلة الإثبات غير الإقرار والشهادة اتفق الفقهاء على حجيته، وعليه فقد تبقى لنا الأدلة المختلف فيها وهذا ما سنحاول عرضه في مقال قادم إن شاء الله تعالى٠
_________
١الطرق الحكمية ص ٤٥. .
59 / 96
نظام الإثبات في الفقه الإسلامي
دراسة مقارنة
للدكتور عوض عبد الله أبو بكر
-٣-
الأدلة المختلف فيها:
بعد أن تناولنا في المقالين السابقين السمات الأساسية لنظام الإثبات في الفقه الإسلامي، ووضحنا تفرده بنظام يتسق مع عدله وشموله، وبينا أنه يحتوي على قسمين من أدلَة الإثبات –قسم اتفق عليه الفقهاء، وهو يتمثل في الإقرار والشهادة. وقسم آخر اختلفوا فيه –ومن هذا القسم المختلف فيه موضوع بحثنا في هذا المقال- اليمين والنكول عنه وعلم القاضي.
اليمين والنكول عنه:
النكول عن اليمين هو الامتناع عنها حينما توجه إلى المدعى عليه من القاضي بطلب المدعي١. فإذا لم يكن للمدعي بينة وطلب يمين المدعى عليه فنكل، قال أبو حنيفة وأصحابه يقضى عليه بنكوله، ذلك لأن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى واليمين لإبطالها، وجب أن نكل أن تحقق عليه الدعوى، وقالوا إن عثمان ﵁ قد قضى بالنكول، ولم يعلم له مخالف من الصحابة فكان ذلك إجماعا٢.
_________
١ اتفق الفقهاء على أن الحقوق الخالصة لله تعالى- كالحدود- لا توجه اليمين إلى المدعى عليه لإثباتها، وإن كانت هناك رواية عن الشافعي تجيز ذلك. أما حقوق العباد الخالصة- كالأموال- فهذا اتفقوا على توجيه اليمين فيها، وإن كانت غير ذلك كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق، فمالك ورواية عن أحمد على منع توجيه اليمين فيها، والشافعي وبعض الحنفية وابن حزم على جواز توجيه اليمين فيها، وأبوحنيفة يقول إن كانت هذه الحقوق مما يحتمل البذل أي ترك المنازعة فيجوز توجيه اليمين فيها، وإن كانت غير ذلك كالنكاح والنسب فلا يجوز. أما الحقوق المشتركة بين العبد والرب فاختلفوا فيها- فمن رجح جانب العبد أوجب اليمين، ومن يرجح جانب الله لم ير ذلك.
٢ الاختيار لتعليل المختار للموصلي ج٢ ص١٦٢ ط السعادة مصر. ٢
60 / 73
غير أن مذهب أبي حنيفة بالقضاء بالنكول وحده منتقد من وجوه:-
الأول: إن النكول لا يدل على أن الحق قد ثبت على الناكل، لأنه قد يمتنع عن الحلف تورعا وترفعا حتى وإن كان صادقا في إنكاره للدعوى.
الثاني: قالوا لهم إنكم قد خالفتم قضاء عثمان ﵁، فإنه لم يقض بالنكول في بعض الوقائع التي رفعت إليه. يقول ابن حزم: "فكيف وقد خالفوا عثمان في هذه القضية نفسها، لأنه لم يجز البيع بالبراءة إلا في عيب لم يعلمه البائع، وهذا خلاف قولكم. ومن العجيب أن يكون حكم عثمان بعضه حجة وبعضه ليس بحجة، هذا على أن مالك بن أنس روى هذا الخبر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سالم بن عبد الله فقال فيه عن أبيه: فأبى أن يحلف وارتجع العبد فدل هذا على أنه اختار أن يرتجع العبد فرده إليه عثمان برضاه"١.
الثالث: إن دعوى الإجماع غير صحيحة، فالإجماع يكون صحيحا بعدم المخالف، لا بعدم العلم بالمخالف، وفرق بين عدم المخالف وعدم العلم به.
أما الأئمة مالك والشافعي وأحمد فيقولون إن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين لا يجب للمدعي بنكوله شيء، وإنما ترد اليمين إلى المدعي، فإذا حلف استحق المدعى به. وتوجيه هذا القول هو أن نكول المدعى عليه أضعف من شاهد المدعي، فالأولى أن يقوى بيمين الطالب، إذ النكول ليس بينة من المدعى عليه ولا إقرارا، فلم يقو على الاستقلال بالحكم، فإذا حلف معه المدعي قوي جانبه٢.
قالوا: وإن هذا المعنى يستفاد من الآية الكريمة في شأن الوصية في السفر ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِم ...﴾ الآية (المائدة ١٠٧-١٠٨) .
ووجه الاستدلال في الآية أنها أفادت رد اليمين إلى الجهة التي شرعت فيها أولا وهي الشاهدان إلى غيرهما، ويؤخذ منه رد اليمين من المدعى عليه إلى غيره٣.
_________
١ المحلى ج١٠ ص ٥٣٣-٥٣٤ ط دار الاتحاد العربي مصر.١
٢ الطرق الحكمية لابن القيم ص ١٣٧، بداية المجتهد ج٢ ص ٤٦٩. ٢
٣ الأم للشافعي ج ٧ ص ٣٤.٣
60 / 74
وكذلك استدلوا بما رواه الدارقطني والحاكم في المستدرك وصحح إسناده عن ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ قد رد اليمين على طالب الحق١.
ومع أن هذا المذهب أظهر من سابقه وأرجح لكونه اعتمد على أدلة نقلية منها ما هو منطوق في محل النزاع كحديث ابن عمر ﵁، إلا أنه لم يسلم أيضا من انتقاد وجه إليه، ويتلخص هذا الانتقاد في:
أولا: إن استدلالهم بالآية لا يستقيم لهم في موضوع النزاع، لأنها تدل على أن شاهدين يقومان مقام شاهدين آخرين ظهر كذبهما بعد الحلف، وليس ذلك موضوع الخلاف.
ثم إن الشافعية والمالكية وهم من أنصار هذا المذهب يقولون بنسخ هذه الآية بالآيات التي تمنع ولاية الكافر على المسلم، والشهادة فيها ولاية على المشهود عليه، ولذا فقد أبطلوا شهادة الكافر على المسلم. فكونهم لم يعملوا بالآية في موضوعها فمن باب أولى ألا يستدلوا بها هنا.
ثانيا: إن حديث ابن عمر الذي استندوا عليه مطعون في إسناده فلا يصح الاعتماد عليه. (انظر الهامش) .
_________
١ سنن الدارقطني ج٤ ص ٢١٣- وجاء في التعليق المغني على سنن الدارقطني للمحدث أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي "الحديث أخرجه البيهقي والحاكم وفي إسناد كلهم محمد بن مسروق وهو لا يعرف، وإسحاق بن الفرات مختلف فيه"
هل تكفي اليمين لقطع النزاع؟ لاشك أن المدعى عليه إذا أقر بالدعوى إقرارًا صحيحًا، أو ثبتت عليه الدعوى بشهود المدعي، وحكم القاضي بناء على ذلك انقطع النزاع بينهما لاتصال الحكم بالدليل الذي يؤدي إلى الحق غالبا، ولكن هل يعتبر الحال كذلك عند اتصال الحكم باليمين؟ أي هل تنقضي الدعوى إذا حلف المنكر عند عجز المدعي من تقديم بينته؟ وبمعنى آخر هل يجوز للمدعي أن يقدم بينة بعد احلاف المدعى عليه اليمين؟. جمهور الفقهاء يرون سماع بينة المدعي بعد حلف المدعى عليه اليمين، ويعتبرون إنهاء الدعوى باليمين إنما هو إنهاء مؤقت يمكن أن تعاد مرة أخرى إذا قدم المدعي البينة التي كان قد عجز عن تقديمها قبل اليمين، ويقولون إن البينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة،
هل تكفي اليمين لقطع النزاع؟ لاشك أن المدعى عليه إذا أقر بالدعوى إقرارًا صحيحًا، أو ثبتت عليه الدعوى بشهود المدعي، وحكم القاضي بناء على ذلك انقطع النزاع بينهما لاتصال الحكم بالدليل الذي يؤدي إلى الحق غالبا، ولكن هل يعتبر الحال كذلك عند اتصال الحكم باليمين؟ أي هل تنقضي الدعوى إذا حلف المنكر عند عجز المدعي من تقديم بينته؟ وبمعنى آخر هل يجوز للمدعي أن يقدم بينة بعد احلاف المدعى عليه اليمين؟. جمهور الفقهاء يرون سماع بينة المدعي بعد حلف المدعى عليه اليمين، ويعتبرون إنهاء الدعوى باليمين إنما هو إنهاء مؤقت يمكن أن تعاد مرة أخرى إذا قدم المدعي البينة التي كان قد عجز عن تقديمها قبل اليمين، ويقولون إن البينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة،
60 / 75
، ولأن البينة مثبتة واليمين نافية، والإثبات أولى من النفي، ولأن اليمين تكون مع عدم البينة، فإذا وجدت البينة سقط حكم اليمين، ولأن سقوط الدعوى باليمين ليس موجبا لسقوط الحق، فالحقوق لا تسقط إلا بقبض أو إبراء، وليست اليمين قبضًا ولا إبراء١.
ويرى بعض الفقهاء أن اليمين طريق من طرق الإثبات، فإذا حلف المدعى عليه سقط حق المدعي في الدعوى وترتب على ذلك اليمين قطع النزاع٢.
_________
١ المغني ج١٠ ص ١٠٤. ١
٢ المرافعات الشرعية لمحمد زيد بك الإبياني ص٩ وما بعدها.٢
اليمين مع الشاهد: روى مسلم وأحمد وأبو داود عن ابن عباس ﵁: "أن النبي ﷺ قضى بشاهد ويمين"، وفي رواية أحمد: "إنما كان ذلك في الأموال" وروى الدارقطني في سننه: "أن النبي ﷺ قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق" ٣. استنادًا على هذه الأحاديث ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي في المال، وما يؤول إلى المال من حقوق الأبدان كالنكاح والطلاق، ولا يحكم بذلك في القصاص والحدود. وخالف أبو حنيفة وأصحابه وقالوا: "لا يحكم بشاهد ويمين إذ الآية الكريمة ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم﴾ (البقرة: ٢٨٢) قد قصرت الإثبات في البينة على النحو المذكور، وحديث الشاهد واليمين زيادة على النص، والزيادة على النص تكون نسخا، وخبر الواحد لا ينسخ المتواتر"٤. وقد أورد الشوكاني ﵀ في نيل الأوطار أدلة الفريقين وانتصر لمذهب الجمهور قائلا: "جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له أدنى إلمام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من إنصاف، فالحق أن أحاديث العمل بشاهد ويمين زيادة على ما دل عليه قوله تعالى ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ...﴾ الآية وعلى ما دل عليه قوله ﷺ "شاهداك أو يمينه" غير منافية للأصل، فقبولها متحتم، وغاية ما يقال على فرض التعارض- وإن كان فرضا فاسدا- إن الآية والحديث المذكورين يدلان _________ ٣ سنن الدارقطني ج٣ ص٢١٤، نيل الأوطار ومنتقى الأخبار ج١٠ ص٢٨٢ ط الطباعة الفنية.٣ ٤ نيل الأوطار ج١٠ ص٢٨٤، تبصرة الحكام ج١ ص٢٦٨، إعلام الموقعين ج٣ ص٨٥٤
اليمين مع الشاهد: روى مسلم وأحمد وأبو داود عن ابن عباس ﵁: "أن النبي ﷺ قضى بشاهد ويمين"، وفي رواية أحمد: "إنما كان ذلك في الأموال" وروى الدارقطني في سننه: "أن النبي ﷺ قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق" ٣. استنادًا على هذه الأحاديث ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي في المال، وما يؤول إلى المال من حقوق الأبدان كالنكاح والطلاق، ولا يحكم بذلك في القصاص والحدود. وخالف أبو حنيفة وأصحابه وقالوا: "لا يحكم بشاهد ويمين إذ الآية الكريمة ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم﴾ (البقرة: ٢٨٢) قد قصرت الإثبات في البينة على النحو المذكور، وحديث الشاهد واليمين زيادة على النص، والزيادة على النص تكون نسخا، وخبر الواحد لا ينسخ المتواتر"٤. وقد أورد الشوكاني ﵀ في نيل الأوطار أدلة الفريقين وانتصر لمذهب الجمهور قائلا: "جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له أدنى إلمام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من إنصاف، فالحق أن أحاديث العمل بشاهد ويمين زيادة على ما دل عليه قوله تعالى ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ...﴾ الآية وعلى ما دل عليه قوله ﷺ "شاهداك أو يمينه" غير منافية للأصل، فقبولها متحتم، وغاية ما يقال على فرض التعارض- وإن كان فرضا فاسدا- إن الآية والحديث المذكورين يدلان _________ ٣ سنن الدارقطني ج٣ ص٢١٤، نيل الأوطار ومنتقى الأخبار ج١٠ ص٢٨٢ ط الطباعة الفنية.٣ ٤ نيل الأوطار ج١٠ ص٢٨٤، تبصرة الحكام ج١ ص٢٦٨، إعلام الموقعين ج٣ ص٨٥٤
60 / 76
بمفهوم العدد على عدم قبول الشاهد واليمين والحكم بمجردهما، وهذا المفهوم المردود عند أكثر أهل الأصول لا يعارض المنطوق وهو ما ورد في العمل بشاهد ويمين١.
_________
١ نيل الأوطار ج ١٠ ص ٢٨٤.
يمين القسامة: القسامة في اللغة تطلق على معنيين، بمعنى الحلف، يقال: أقسمت إذا حلفت، وبمعنى الحسن والجمال، يقال فلان قسيم الوجه، ورجل قسيم أي وسيم٢. أما في اصطلاح الفقهاء، فقد عرفها ابن قدامة في المغني بقوله: "القسامة هي الأيمان المكررة في دعوى القتل" ٣. ويقول ابن عرفة المالكي: "هي حلف خمسين يمينا أو جزأها على إثبات الدم"٤. وعند فقهاء الحنفية القسامة هي "أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار وجد فيها قتيل به أثر، يقول كل واحد منهم ما قتلته ولا علمت له قاتلا"٥. يتضح من هذه التعريفات أن القسامة هي أيمان قدرها خمسون يمينا يحلفها إما أولياء القتيل يثبتون بها الدم على المدعى عليه كما هو مفهوم جمهور من يقول بها، أو يحلفها من وجد القتيل بين ظهرانيهم ينفون بها نسبة القتل إليهم وهو مفهوم الحنفية. وقد اختلفوا فما القسامة هل هي قسم من أقسام اليمين؟ أم هي طريق آخر من طرق الإثبات إذ قد يترتب على حلفها عند الجمهور إثبات الدم المترتب عليه القود أو الدية. وعلى كل فإن القسامة طريق لإثبات الدم يقوم على حلف اليمين. ويحتج جمهور الفقهاء القائلون بالقسامة بالأحاديث الصحيحة التي نصت على مشروعيتها ففي صحيح البخاري عن بشير بن يسار: "زعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل ابن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي وجد فيهم قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا. فانطلقوا إلى النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا. فقال: الكبر الكبر. فقال _________ ٢ لسان العرب (فصل القاف من حرف الميم) . ٣ المغني ج٨ ص٦٥.٣ ٤ مواهب الجليل للحطاب ج٦ ص٢٦٩٤ ٥ العنابة بهامش تكملة فتح القدير ج٨ ص٣٨٣.٥
يمين القسامة: القسامة في اللغة تطلق على معنيين، بمعنى الحلف، يقال: أقسمت إذا حلفت، وبمعنى الحسن والجمال، يقال فلان قسيم الوجه، ورجل قسيم أي وسيم٢. أما في اصطلاح الفقهاء، فقد عرفها ابن قدامة في المغني بقوله: "القسامة هي الأيمان المكررة في دعوى القتل" ٣. ويقول ابن عرفة المالكي: "هي حلف خمسين يمينا أو جزأها على إثبات الدم"٤. وعند فقهاء الحنفية القسامة هي "أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار وجد فيها قتيل به أثر، يقول كل واحد منهم ما قتلته ولا علمت له قاتلا"٥. يتضح من هذه التعريفات أن القسامة هي أيمان قدرها خمسون يمينا يحلفها إما أولياء القتيل يثبتون بها الدم على المدعى عليه كما هو مفهوم جمهور من يقول بها، أو يحلفها من وجد القتيل بين ظهرانيهم ينفون بها نسبة القتل إليهم وهو مفهوم الحنفية. وقد اختلفوا فما القسامة هل هي قسم من أقسام اليمين؟ أم هي طريق آخر من طرق الإثبات إذ قد يترتب على حلفها عند الجمهور إثبات الدم المترتب عليه القود أو الدية. وعلى كل فإن القسامة طريق لإثبات الدم يقوم على حلف اليمين. ويحتج جمهور الفقهاء القائلون بالقسامة بالأحاديث الصحيحة التي نصت على مشروعيتها ففي صحيح البخاري عن بشير بن يسار: "زعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل ابن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي وجد فيهم قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا. فانطلقوا إلى النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا. فقال: الكبر الكبر. فقال _________ ٢ لسان العرب (فصل القاف من حرف الميم) . ٣ المغني ج٨ ص٦٥.٣ ٤ مواهب الجليل للحطاب ج٦ ص٢٦٩٤ ٥ العنابة بهامش تكملة فتح القدير ج٨ ص٣٨٣.٥
60 / 77
: لهم تأتون بالبينة. فقالوا: يا رسول الله مالنا بينة. قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله ﷺ أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة" ١.
ورواية مسلم وأبي داود: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته. قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف. قال: "تبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم". قالوا: يا رسول الله قوم كفار، فوداه رسول الله ﷺ من قبله". قال سهل: "فدخلت مربدا لهم فركضتني ناقة من تلك الإبل برجلها" ٢.
وعند الترمذي "تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم قاتلكم ... " ثم ساق الحديث.
وجه الدلالة من هذه الأحاديث أن رسول الله ﷺ شرع أيمان القسامة. وفي الروايتين الأخيرتين أجاز لأولياء القتيل أن يحلفوا خمسين يمينا على من اتهموه في بالقتل، ويستحقون بهذه الأيمان دم القاتل، وإلا حلف المتهمون خمسين يمينا لتبرئة أنفسهم من الاتهام الموجه إليهم.
ويتضح أيضًا من هذه الأحاديث اعتماد المدعين على قرينة العداوة بين اليهود والأنصار مما دعاهم إلى توجيه تهمة القتل إليهم، لاسيما وقد وجد القتيل بينهم، وقد أجاز لهم النبي ﷺ الحلف على ذلك.
هذا ولم يخالف في الأخذ بالقسامة إلا ما روى عن سالم بن عبد الله وسليمان ابن يسار وقتادة وأبى قلابة وعمر بن عبد العزيز والبخاري، محتجين بأن القسامة تخالف أصول التشريع الإسلامي، إذ أن الأصل في الشريعة ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل. ويقولون أن رسول الله ﷺ تلطف بالأولياء ليريهم أنه كيف لا يلزم الحكم بها في الإسلام لأنها كانت من أحكام الجاهلية. ويحتجون أيضا بأن الأيمان لا تأثير لها في الدماء فلا تصلح لإشاطتها. وتخالف القول بأن البينة على المدعى واليمين على من أنكر٣.
_________
١ صحيح البخاري (باب القسامة) ج٤ ص ١٥٦. ١
٢ صحيح مسلم مع شرح النووي ج١١ ص١٤٨، وسنن أبي داود ج٤ ص٢٩٩.٢
٣ صحيح البخاري (باب القسامة) ج٤ ص١٥٧، المبسوط للسرخسي ج٢٦ ص١٠٩، بداية المجتهد ج٢ ص٤٢٨.٣
60 / 78
علم القاضي:
وقد اختلف الفقهاء أيضًا في قضاء القاضي في حادثة بناء على علمه بحقيقتها فإن كان الحق المدعى به من حقوق الله الخالصة -كالحدود- فهذه اتفقوا على أنه لا يقضي فيها بعلمه، اللهم إلا ما روي عن ابن حزم الظاهري بجواز ذلك. أما إن كان من حقوق العباد -كالبيع والشراء- ففيها اختلاف بين الفقهاء.
قال متقدمو الحنفية: "إنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بناء على علمه الشخصي فيها"، وعن محمد بن الحسن "لا يقضي بشيء أصلا". وهو ما أفتى به المتأخرون منهم.
جاء في البحر الرائق: "علم القاضي بشيء ينفذ القضاء في غير الحدود، وأما القصاص، فله القضاء بعلمه كما في الخلاصة، وتركه المصنف للاختلاف وظاهر ما في جامع الفصوليين أن الفتوى على أن القاضي لا يقضي بعلمه لفساد قضاة الزمان"١.
وقول ابن حزم والمتقدمين من الحنفية هو أيضا رواية عن أحمد وقول للشافعي.
أما المشهور عند المالكية والرواية الأخرى لأحمد والشافعي لا يجوز للقاضي الحكم بعلمه الشخصي في الدعوى.
ويستند هذا القول الأخير- الذي يمنع القاضي من الحكم بناء على علمه - على أمرين:
_________
١ البحر الرائق ج ٧ ص٢٠٤ ط دار المعرفة بيروت، وانظر في الموضوع الأشباه والنظائر لابن نجيم ج ١ ص ٣٣٨ المطبعة العامرة مصر، والطرق الحكمية ص ٢٢٧ ونيل الأوطار ج ١ ص٢٨٧.
60 / 79
الحكم بالفراسة والقرائن
أولًا: الحكم بالفراسة
الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي
...
نظام الإثبات في الفقه الإسلامي "دراسة مقارنة"
للدكتور: عوض عبد الله أبو بكر أستاذ مساعد بكلية الشريعة
-٤-
الحكم بالفراسة والقرائن
أولًا: الحكم بالفراسة:
من وسائل الإثبات المختلف فيها عند فقهاء الشريع الحكم بالفراسة، وهل تصلح دليلا يعتمد عليه القاضي في بناء أحكامه، أم لاتصلح دليلا لبناء الأحكام القضائية. وقبل أن نعرض آراء الفقهاء ينبغي معرفة المقصود من الفراسة.
الفراسة لغة:
الفراسة بالكسر من التفرس. يقال: تفرس الشيء إذا توسمه، وتفرست فيه خيرا، توسمته، وهو يتفرس يتثبت وينظر، فالتفرس والتوسم معناهما واحد أي يفسر أحدهما بالآخر١.
الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي:
الأصل في الفراسة قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ (الحجر:٧٥)، فذكر أهل التفسير أن المتوسمين يعني المتفرسين وذلك اعتمادا على ما أثر عنه ﷺ. فقد روى أبو سعيد الخدري ﵁ أن النبي ﷺ قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. ثم تلا الآية"٢.
وعن أنس بن مالك ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: " إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم" ٣
_________
١ - تاج العروس "فصل الفاء من باب السين"
٢ - نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول للحكيم الترمذي ص٢٧١.ط. العثمانية.
٣ - مجمع الزوائد للهيثمي: ١/٢٦٨
62 / 119