تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
نساء في حياة دستويفسكي
نساء في حياة دستويفسكي
تأليف
ليونيد جروسمان
ترجمة
أنور إبراهيم
تقديم
يقول دستويفسكي في معرض وصفه لواحد من أبطاله إنه: «برغم ما كان يتمتع به من ذكاء، لم يكن يدرك من أمور النساء شيئا، ومن ثم فإن دائرة كاملة من الأفكار والظواهر ظلت مجهولة بالنسبة له.»
هذا العالم الخاص من المشاعر والهواجس والمعاناة جذب إليه دستويفسكي بشكل غير عادي في فترة ازدهاره الإبداعي. في شبابه كان ما يزال غريبا بدرجة كبيرة عن دائرة «هذه الظواهر». يقول عنه أحد رفاقه في سنوات الشباب: «لم أسمع مطلقا منه أنه كان مغرما بواحدة ما، أو حتى أنه أعجب بشدة بامرأة بعينها ... بعد عودته إلى بطرسبورج قادما من المنفى في سيبيريا أصبحت دراسة وتحليل شخصية أي من معارفنا من النساء والفتيات ... واحدة من هواياته المحببة.»
وبالفعل، انفتح في سيبيريا عصر حكايات دستويفسكي الغرامية. ومنذ ذلك الحين ظهرت في طريق حياته شخصيات نسائية رائعة انعكست سماتهن بقوة في بطلات رواياته. هذا هو السبب وراء ولعه الشخصي الهائل بدراسة العديد من النماذج النسائية التي ظهرت في فترة نضجه الإبداعي.
في شبابه الباكر أغفل دستويفسكي تماما حياته العاطفية، غارقا في مخطوطات كتبه. لقد صرفه السعي وراء الظهور الأدبي بقوة أكبر عن الانفعالات الرومانسية.
تكتب أنا جريجوريفنا دستويفسكايا (زوجته الثانية) في مذكراتها قائلة: «سألت فيودور ميخايلوفيتش عن غرامياته، وقد أدهشني، بناء على ذكرياته، أنه لم يقع في هوى أي امرأة على نحو جاد في شبابه. ويرجع السبب في ذلك، من وجهة نظري، إلى أنه بدأ في سن مبكرة للغاية في الانخراط في حياة عقلية محضة. لقد ابتلعه الإبداع كلية، ومن ثم تراجعت حياته الخاصة إلى خلفية المشهد، ليندمج بعد ذلك بكل خياله في السياسة، وهو ما دفع بسببه ثمنا باهظا.
كانت الجميلة أفدوتيا ياكوفليفنا بانايفا هي الحب الأول لدستويفسكي. كانت عاطفة روحية سرية، وبالطبع كانت من طرف واحد؛ فقد كانت بانايفا هي «زوجة الشاعر نكراسوف» معبود جيل شباب الأربعينيات، التي استطاعت أن تأخذ بلب ألكسندر دوما نفسه. ويبدو أن بانايفا كانت تعامل دستويفسكي بحنو واهتمام وتلقائية دون أن يخطر ببالها - على الأرجح - ما سوف يؤدي إليه هذا الأمر من أثر في «حياته العاطفية».»
في رسالة لأخيه ميخائيل، مؤرخة السادس عشر من نوفمبر عام 1845م، يقول دستويفسكي: «قمت بالأمس بأول زيارة لي إلى «بانايف»، ويبدو أنني وقعت في هوى زوجته. امرأة ذكية وجميلة، إضافة إلى استقامتها وعطفها.»
ثم يبعث إليه برسالة ثانية بعد عدة أسابيع يخبره فيها بأنه كان: «مغرما ببانايفا حقا، ولكن الأمر انتهى الآن، ولا أعرف بعد ...»
تتجاهل أنا جريجوريفنا دستويفسكايا هذا الجانب في «مذكراتها» (التي كتبتها في زمن آخر)، وفي محاوراتها الخاصة تولي هذا الأمر قليلا من الاهتمام: «كان غرامه ببانايفا أمرا عابرا، ولكن هذا الغرام كان على أية حال هو الوحيد في سنوات شبابه. في بيت بانايفا، بدأ الناس يسخرون من دستويفسكي، بينما راحت بانايفا التركية، صاحبة الحس المرهف في إسباغ مشاعر الشفقة على دستويفسكي الذي قابل مشاعرها بامتنان قلبي وحب رقيق مخلص ...»
لكن هذا الحب المبكر المكتوم لم يكن سوى مشهد واحد من تاريخ حياته العاطفية.
في سيبيريا فقط كان مقدرا عليه أن يعاني أول حب له؛ الحب الأكثر تعذيبا وتمزيقا وكآبة.
الفصل الأول
هناك أمر على جانب كبير من الأهمية، وهو أن دستويفسكي أحب وللمرة الأولى امرأة مريضة، منهكة القوى، انهالت عليها الحياة بالضربة تلو الأخرى. امرأة فقيرة معدمة، كتب عليها الجنون والموت.
وللأسف، فإن كافة المراحل المضنية التي مر بها هذا الحب الأولى لدستويفسكي لا يمكن تقديمها بصورة كاملة. يبدو أن الخطابات المسهبة التي كتبها دستويفسكي من سيميبالاتينسك إلى كوزنيتسك قد ضاعت إلى الأبد. يذكر فرانجيل أن هذه الخطابات كانت تملأ كراسات كاملة.
إن الظروف القاسية التي عاشتها ماريا ديمترييفنا، وما عانته من أحداث درامية وفقد، لم تكن لتسمح لها أن تتعامل بقدر كاف من الاهتمام بهذه الخطابات والمذكرات، التي ضاعت بداهة في ركن سحيق في سيبيريا.
مارينا ديمترييفنا إيسايفا؛ الزوجة الأولى لدستويفسكي.
إن الجانب الهام والعميق من القصة المأساوية لحب دستويفسكي الأول، التي كتبها في اعترافاته المطولة، لم تصل إلينا. وسوف يكون علينا أن نقيم فصولها الضائعة استنادا إلى المعلومات غير المباشرة.
على أية حال، فإن صورة ماريا ديمترييفنا، والعديد من مشاهد هذه العلاقة العاطفية، قد انعكست بشكل واضح وجاد في إبداع دستويفسكي. نجدها في رواية «مذلون ومهانون» في الحب المتفاني لبطل الرواية المستعد للتضحية بمشاعره من أجل سعادة شخصين آخرين. إن هذه المشاهد تنقل إلينا بوضوح جانبا من غرام دستويفسكي في سيبيريا.
وفي «الجريمة والعقاب» يقدم نموذج كاترينا إيفانوفنا صورة طبق الأصل من ماريا ديمترييفنا، لينبعث معها مصيرها كله. إن مشهد وفاة زوجة مارميلادوف قد كتب تحت انطباع الحزن على الزوجة الأولى لدستويفسكي، بل إننا نجد أيضا بعض العبارات التي تذكرنا بوصف هذا الحادث الحزين كما وردت في خطابات دستويفسكي.
إن المظهر الخارجي لماريا ديمترييفنا في لحظة تعرفها على دستويفسكي؛ أي قبل عشر سنوات من موتها، يتميز بقدر كبير من الجاذبية. آنذاك كانت تبلغ من العمر ستة أو سبعة وعشرين عاما، إذا كان سنها قد أشير إليه بشكل صحيح في خطاب دستويفسكي إلى شقيقته في عام 1857م: «أبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاما، بينما تبلغ هي تسعة وعشرين.»
ويصفها فرانجيل بأنها: «حسناء ذهبية الشعر، متوسطة القامة، نحيفة للغاية، شديدة الحساسية، مندفعة. آنذاك كانت هذه الحمرة المشئومة تداعب وجهها الشاحب، ليذهب بها مرض السل بعد بضع سنوات إلى القبر. كانت امرأة واسعة الاطلاع، تلقت تعليما جيدا، وكانت محبة للمعرفة، طيبة محبة للحياة بشكل استثنائي، كما كانت سريعة التأثر والانفعال.»
وقد التقاها الناقد ن. ستراخوف على نحو عابر في بطرسبورج، وتركت لديه انطباعا طيبا بشحوبها ورقة ملامحها، على الرغم من أنه كان من الواضح إصابتها بمرض مميت.
هذه الطبيعة الحساسة المندفعة هي ذاتها التي أسرت دستويفسكي على الفور.
ها هو دستويفسكي يصف بنفسه قصة علاقتهما في خطابه إلى شقيقته في عام 1857م: «بعد أن عدت في عام 1854م من أومسك إلى سيميبالاتينسك، تعرفت على موظف يقيم هنا هو وزوجته. الرجل من روسيا، يتمتع بالذكاء والطيبة، مثقف، وقد أحببته كأخ ... كان عاطلا، ولكنه كان ينتظر أن يلحقوه مرة أخرى بالخدمة. كان لديه زوجة وابن. أما زوجته فهي ماريا ديمترييفنا إيسايفا. ما تزال في ريعان الصبا، وقد استقبلاني كأني واحد من أقاربهم. وفي النهاية، وبعد عناء طويل، حصل على عمل في مدينة كوزنيتسك من أعمال محافظة تومسكايا، وهي تبعد عن سيميبالاتينسك سبعمائة فرسخ. ودعتهم، وكان الفراق أكثر وطأة على نفسي من فقدان الحياة نفسها.»
حاشية: حدث ذلك في مايو عام 1855م. ولست أبالغ هنا. بعد وصوله إلى كوزنيتسك، مرض إيسايف فجأة، ثم وافته المنية تاركا زوجة وابنا دون قرش واحد، وحيدة في بلدة غريبة، دون مساعدة، وفي حالة مزرية. ما إن عرفت بذلك (وكنا نتراسل)، حتى اهتممت بالأمر وأرسلت لها نقودا في أقرب فرصة. كم كنت سعيدا عندما علمت بتسلمها النقود! وأخيرا استطاعت أن تكتب لأهلها ولأبيها. كان أبوها يعيش في أستراخان ويحتل وظيفة هامة (مدير الحجر الصحي). كان صاحب رتبة رفيعة ويتقاضى راتبا كبيرا، لكن الرجل كانت لديه ثلاث فتيات وأبناء يخدمون في الحرس. كانت كنيته كونستان. وهو حفيد لمهاجر فرنسي شارك في الثورة الأولى، نبيل، جاء إلى روسيا واستقر فيها، أما أبناؤه فهم روس من جهة الأم. ماريا ديمترييفنا هي الابنة الكبرى، وكان والدها يفضلها على الجميع.
صديقتي العزيزة، أكتب إليك تفصيلا، لكنني لم أكتب إليك الأهم. إنني أهيم بهذه المرأة منذ زمن بعيد إلى درجة الجنون، أحبها أكثر من حياتي. لو أنك عرفت هذا الملاك، لما أخذتك الدهشة. إنها تمتلك خصالا رائعة؛ ذكية، رقيقة، مثقفة، مثال نادر من النساء المثقفات مع شيء من الوداعة، تدرك ما عليها من واجبات، متدينة. لقد رأيتها في لحظات الشقاء عندما كان زوجها عاطلا عن العمل. لا أريد أن أصف لك ما كانا عليه من ضنك. ليتك رأيت على أي نحو من نكران الذات وقوة التحمل واجهت به هذه المرأة هذه التعاسة التي يمكن أن نصفها تماما بالبؤس. إن مصيرها الآن بشع؛ إنها تعيش في كوزنيتسك، حيث توفي زوجها. يعلم الله من يحيط بها وهي الأرملة اليتيمة بكل معنى الكلمة. بالطبع كان حبي لها سرا لم أصرح به.
لقد أحبت ألكسندر إيفانوفيتش، زوجها، مثل أخ، ولكنها، بعقلها وقلبها، لم تستطع أن تفهم حبي لها، لم تخمن ذلك. والآن هي امرأة حرة (بعد وفاة زوجها منذ عام ونصف العام)، وعندما رقيت إلى درجة ضابط، كان أول ما فعلت أن عرضت عليها الزواج. إنها تعرفني، تحبني وتحترمني. ومنذ أن افترقنا ظللنا نتبادل الخطابات. وافقت وقالت «نعم»، وإذا لم تقع أحداث طارئة ... فإننا سنتزوج قبل 15 فبراير؛ أي قبيل عيد الرماد. صديقتي العزيزة، أختي الحبيبة، لا تغضبي، لا تغتمي ولا تنسيني، ليس هناك شيء أفضل لأفعله ...»
لكن هذا المديح الحماسي الذي كاله دستويفسكي لماريا ديمترييفنا إيسايفا في خطابه لأقاربه، كان عليه أن يتراجع عنه في مراسلاته مع فرانجيل. لقد اتخذت العلاقات المتبادلة بين فيودور ميخايلوفيتش وزوجة المستقبل على الفور منحى خاطئا، وأصبح كل منهما مصدر عذاب للآخر. يقول فرانجيل: لقد أبدت مشاعر العطف الدافئ نحو دستويفسكي. كانت تعامله بلطف. لا أظن أنها كانت تعرف قدره بعمق. الأمر ببساطة أنها كانت تعطف على شخص تعيس ظلمه القدر. ربما تكون قد تعلقت به، لكنها لم تقع في حبه بأي شكل من الأشكال. كانت تعلم أنه مصاب بداء الصرع، وأنه في أمس الحاجة إلى المال، وأنه كما قالت: «رجل بلا مستقبل.» أما فيودور ميخايلوفيتش فقد رأى في شعور العطف والأسى حبا متبادلا، وراح يحبها بكل ما في الشباب من حمية.
غير أن دستويفسكي سرعان ما شعر باليأس؛ لأن ماريا ديمترييفنا لا تبادله حبا بحب، فعندما نقل إيسايف إلى كوزنيتسك، على بعد 500 فرسخ من سيميبالاتينسك، وقع دستويفسكي فريسة لليأس العميق. يشكو دستويفسكي حاله لفرانجيل قائلا: «لقد وافقت على السفر. لم تعترض، وهذا أمر شائن!»
عندما حانت لحظة الفراق راح يبكي بكاء مرا مثل طفل، وعندما اختفى عن ناظريه ركب المسافرين، ظل واقفا كالمقيد بالأغلال، متابعا إياهم ودموعه تنهمر على خده.
لقد ظهرت هناك خطابات أكثر إيلاما من العلاقات الشخصية. لم تتوقف ماريا ديمترييفنا عن تعذيب دستويفسكي وهي بعيدة عنه، وهي تجأر بالشكوى من الفقر والمرض، ومن الحالة المحزنة التي وصل إليها زوجها، ومن المستقبل البائس. لكن أكثر ما أثار الاضطراب والعذاب عند دستويفسكي هو شكوى مراسلته من الوحدة التي لا تحتمل، وحاجتها إلى شخص ما يفرج همها.
آنذاك بدأ التلميح أكثر حماسا حول اسم صديق جديد في كوزنتيسك؛ «مدرس شاب لطيف»، يمتلك خصالا نادرة و«روحا سامية»، هنا سقط دستويفسكي في كآبة نهائية، راح يمشي كالظل، بل وأهمل رواية «مذكرات من البيت الميت»، التي كان منشغلا بالعمل على إتمامها في تلك الفترة بكل ولع. وعندما عاتبه فرانجيل على ذلك رد عليه قائلا: «كتبت لي تقول إنني أتكاسل عن العمل. أبدا يا صديقي، لكن علاقتي بماريا ديمترييفنا قد شغلتني كلية في العامين الأخيرين. كنت أعيش، وإن كنت أعاني، لكنني، على أقل تقدير، كنت أعيش!»
في شهر أغسطس من عام 1855م، تلقى دستويفسكي خطابا من ماريا ديمترييفنا يفيد أن زوجها قد توفي. وأخبرته أن إيسايف قد مات في ظروف قاسية لا تحتمل، وأن ابنها قد جن من البكاء واليأس، وأنها تتعذب من الأرق ومن نوبات حادة من المرض. ثم حكت له أنها دفنت زوجها بنقود اقترضتها من أغراب، وأنه لم يتبق لديها شيء سوى الديون، وأن شخصا ما أرسل إليها ثلاثة روبلات: «لقد دفعتني الحاجة لأن أقبل ... وقبلت ... الإحسان ...»
انكب دستويفسكي بكل كيانه في تدبير الأمور المتعلقة بمصير ماريا ديمترييفنا. حصل على مال من فرانجيل. سعى ليلحق باشا إيسايف بالجيش. بذل ما في وسعه بتضحية بطولية، وكان على استعداد أن يجثو على ركبتيه «ليتسول من أجل منافسه المدرسي من كوزنيتسك، الذي تحمل له ماريا ديمترييفنا مودة عميقة (يقول فرانجيل عن هذا المدرس إنه «شخصية تافهة»).
لكن كل ذلك لم يفلح، كما يبدو، في أن يعيد عاطفة ماريا ديمترييفنا الودية نحو دستويفسكي. بعد عام تقريبا من وفاة إيسايف، في صيف 1856م، يرسل دستويفسكي خطابات إلى فرانجيل تفيض باليأس: «أشعر وكأن بي مسا من الجنون ... لقد مضى الأمر!» «أحوالي سيئة للغاية، أنا في يأس تام. يصعب أن تتصور ما عانيته من شقاء.» وفي خطابه المؤرخ الحادي والعشرين من يوليو يقول: «أخشى أن تتزوج، وعندها قد ألقي بنفسي في الماء أو أغرق في الشراب.»
بحلول شتاء عام 1857م فقط؛ أي بعد مرور عام ونصف على وفاة إيسايف، إذا بالأمور تسير أخيرا لصالح دستويفسكي. وإلى هذه الفترة يعود خطابه الذي أرسله إلى فرانجيل حول زواجه المقبل. وأخيرا وبعد طول انتظار للسعادة، يغلق دستويفسكي عينيه عن الماضي كله. يكتب دستويفسكي في خطابه مطمئنا نفسه من جراء الذكريات التي عذبته من منافسه غير بعيد: «إنها تحبني، أعرف ذلك يقينا.»
وفي سياق حديثه إلى فرانجيل عن هذا الجزء المظلم من قصته الغرامية يقول: «سوف تتخلى عن حبها الجديد.»
لكن دستويفسكي لم يجد بطبيعة الحال سعادته المرجوة في هذا الزواج. ها هو فرانجيل يحدد الملمح الرئيسي في العلاقات التالية: «كانت ماريا ديمترييفنا تعاني دوما من المرض، تجتاحها نوبات من الجموح والغيرة.»
كانت دراما الغيرة قد بدأت قبل ذلك في سيميبالاتينسك، على أثرها تفككت الصداقة الأسرية تماما.
كانت ماريا ديمترييفنا تشعر بالشك العدواني تجاه عائلة زوجها باعتبارها قريبة مريضة وفقيرة، وكان وسواس الكراهية يدفعها للتعامل مع العائلة بكل ما تملك من هياج وحقد. ظلت طوال حياتها تعتقد أن ميخائيل ميخايلوفيتش عدو غامض، ولم تظهر رغبتها في التصالح معه إلا وهي على حافة القبر.
في غضون ذلك كان المرض يزداد حدة، وسرعان ما انعكس انتقالها إلى بطرسبورج للإقامة الدائمة بها على تطور مرض السل الرئوي. وفي شتاء عام 1863-1864م، اضطر الزوجان دستويفسكي إلى اتخاذ موسكو مقرا لإقامتهما بسبب الضعف الشديد الذي أصاب ماريا ديمترييفنا. وبدءا من فصل الربيع ازدادت حدة المرض، وفي منتصف شهر أبريل أرسل دستويفسكي خطابا إلى أخيه يقول فيه: «بالأمس داهمت ماريا ديمترييفنا نوبة حاسمة؛ تفجر الدم من حلقها وأغرق صدرها، وراح يخنقها ...»
وفي اليوم التالي، السادس عشر من أبريل من عام 1864م، جاءت خاتمة قصة حب دستويفسكي المؤلمة؛ ماتت ماريا ديمترييفنا. فيما بعد يكتب دستويفسكي قائلا: «أحبتني بلا حدود، وأنا أحببتها أيضا بلا حدود، ولكنني لم أكن سعيدا معها ... وعلى الرغم من أننا كنا تعيسين معا بشكل مطلق، بسبب شكوكها وطبعها المرضي العجيب، فإننا لم نستطع أن نتوقف عن حب كل منا للآخر، بل كلما ازداد بؤسنا، ازداد تعلقنا كل بالآخر.»
في نفس يوم وفاة زوجته، يخط دستويفسكي وهو أمام جثتها الهامدة بضعة تأملات في دفتر مذكراته حول فكرة الحب والزواج، حول رسالة كل شخص على الأرض: «16 أبريل. ماشا ترقد على الطاولة. ترى هل سألتقي بماشا مرة أخرى؟
أن تحب إنسانا قدر حبك لنفسك، وفقا لوصايا المسيح، أمر مستحيل. قانون الفرد يشد الإنسان إلى الأرض والأنا تعوقه، ومع ذلك فالمسيح وحده استطاع ذلك، لكن المسيح كان خالدا. إنه المثال الذي نسعى إليه وينبغي، بناء على قانون الطبيعة، أن يسعى إليه الإنسان ... إن السعادة العظمى هي في أن يهب الإنسان نفسه كاملة لجميع الناس ولكل شخص وبكل تفان.
على هذا النحو فإن قانون الأنا يندمج مع قانون الإنسانية وفي اندماجها، أنا والجميع (وهما يبدوان طرفي نقيض)، وبشكل متبادل، يضحي كل واحد من أجل الآخر، وفي الوقت نفسه يبلغان أيضا الهدف الأسمى للتطور الفردي لكل منهما.
هذا ما يمكن أن نسميه بجنة المسيح. إن التاريخ كله، سواء تاريخ البشرية، أو جزئيا تاريخ كل فرد على حدة، ليس سوى التطور، الصراع، السعي وتحقيق الهدف ...
وهكذا فإن الإنسان يسعى على الأرض نحو المثال المناقض لطبيعته. عندما لا يحقق الإنسان قانون السعي نحو المثال؛ أي عندما لا يضحي بذاته من أجل الناس، من أجل كائن آخر (أنا وماشا)، فإنه يشعر بالمعاناة، ويسمي هذه الحالة بالذنب. وهكذا فإن على الإنسان أن يشعر دائما (دون انقطاع) بالمعاناة التي تتساوى ونعيم الجنة، تنفيذ العهد، التضحية.
هذا هو التوازن الأرضي، وإلا ستصبح الحياة على الأرض بلا معنى ...»
بعد عام ونصف ينقل دستويفسكي ما تبقى في ذاكرته الإبداعية عن رفيقة حياته الأولى ليضعه في شخصية كاترينا إيفانوفنا مارميلادوفا في رواية «الجريمة والعقاب»، ليكون مصير وشخصية صديقه مارميلادوفا الكثير من الظروف التي مرت في سيرة حياة زوجته الأولى؛ الشباب اللامبالي، الزواج من سكير مدمن، «العفو اليائس»، تطور حدة مرض السل الرئوي، نوبات الغضب ثم شلالات من دموع الندم؛ كلها سمات كاترينا إيفانوفنا المأخوذة من طبيعة عرفها الكاتب عن قرب ليجسدها مستخدما السبك الفني للمادة الواقعية الخام.
لقد استخدم دستويفسكي عند وضعه لهذه الشخصية بعض لمسات أيضا من خطابات كوزنيتسك التي كتبتها ماريا ديمترييفنا؛ فيوم وفاة كاترينا إيفانوفنا مارميلادوفا تتلقى «صدقة» مقدارها ثلاثة روبلات، بل إن دستويفسكي استخدم سمات زوجته الأولى في الفترة التي سبقت وفاتها ليضعها في المظهر الخارجي لبطلته: «هي امرأة نحيلة نحولا رهيبا، دقيقة القسمات، طويلة القامة، حسنة الهيئة، لها شعر رائع كستنائي اللون، على خديها بقعتان حمراوان فعلا. إنها تسير في الغرفة طولا وعرضا، وقد شدت يديها إلى صدرها تضغطه بهما، وكانت أنفاسها قصيرة مقطعة، وكانت عيناها تسطعان ببريق محموم، ولكن نظرتها حادة ثابتة. إن هذا الوجه الذي التهمه مرض السل يحدث مرآه على ضوء الشمعة الصغيرة الذائبة أثرا أليما في النفس.»
على هذا النحو يتذكر دستويفسكي رفيقته الأولى في الحياة. وعلى طريقة رامبرندنت يرسم دستويفسكي الضوء في شفق بطرسبورج في تلاعب الظلال الكثيفة العابرة، التي راحت تتجمع على خديها الشاحبين لتبرز عينين ثابتتين محمومتين؛ إنه وجه معذبة عظيمة ترزح تحت وطأة الحياة، وبهذه الألوان القاتمة صور دستويفسكي لوحة لقبر صديقته المسلولة.
في حديث شخصي دار بيني وبين أنا جريجوريفنا دستويفسكايا، أخبرتني ببعض المعلومات الإضافية عن الزواج الأول دستويفسكي: «لقد أحب فيودور ميخايلوفيتش زوجته الأولى بقوة؛ لأنه أول شعور حقيقي له في الحياة؛ فقد مر شبابه كله في العمل الأدبي. وتحت انطباع نجاحه الأول المدوي، استغرقته الكتابة تماما، ولم يكن لديه وقت ليقيم أي علاقة غرامية حقيقية. أما ولعه ببانايفا فكان أمرا عابرا لا يؤخذ في الحسبان. على أن الأمر مع ماريا ديمترييفنا قد جرى على نحو مختلف.»
لقد كان شعورا جارفا بكل ما فيه من أفراح وأتراح. في سنواتها الأخيرة: «كان للمرض الذي اشتدت حدته على الراحلة أثر خاص على ما أحاط علاقتهما من عذاب.»
لقد عرفت من الأطباء الذين كانوا يتولون علاج ماريا ديمترييفنا أنها عند اقتراب نهايتها لم تكن في حالة نفسية سوية على الإطلاق. كانت تنتابها حالات غريبة من الهلاوس، وأحيانا ما كانت تبدأ فجأة في الغمغمة قائلة: «الشياطين، ها هي الشياطين!» ولم تكن تهدأ إلا بعد أن يقوم الطبيب بفتح النافذة متظاهرا بطرد الشياطين من الغرفة.»
1
الفصل الثاني
في عام 1864م وصلت إلى مجلة «العصر» قصتان من مدينة فيتيبسك النائية خطتهما يد امرأة بتوقيع مختصر لشخص يدعى يوري أوربسيلوف.
كتبت القصة الأولى بروح القص الحديث، كما لو أنها استلهمت قصيدة الشاعر الشهير دوبروليوبوف التي يقول فيها:
أخشى ما أخشاه
أن يكتب على شاهد قبري،
أن كل ما تمنيته بشراهة
وأنا على قيد الحياة
قد ذهب أدراج الرياح،
وأن السعادة أبت أن تبتسم لي.
فتاة من علية القوم، مغرمة بطالب فقير، تتكتم مشاعرها، ثم تدرك أخيرا بعد وفاة بطلها أنها خسرت سعادتها.
أما القصة الأخرى فتتناول موضوعا أكثر تعقيدا، وكان من الحتمي أن تلفت إليها اهتمام دستويفسكي. تصف القصة الأزمة المعقدة التي عاشها شاب من النبلاء الأثرياء، أعجب بفكرة الكمال الأخلاقي، فقادته في سياق بحثه عن الحقيقة إلى صومعة في دير من الأديرة.
انضم هذا النبيل ليصبح تلميذا لواحد من النساك الصارمين هو الأب أمفروسي ليخضع للنظام الصارم للدير. لكن لقاء على غير انتظار مع أميرة شابة أثارت فيه الحنين إلى عالم آخر وإلى حياة مختلفة، فإذا به يغادر صومعته بحثا عن الفكرة الأسمى للوجود وسط الناس.
وعندما أصيب بالإحباط يقفل عائدا إلى الأب ليموت في صومعته الضيقة بعد أن عانى اليأس العميق في إمكانية الوصول إلى الطريق القويم.
برغم مما بدا من نضج غير كاف في فنية الكتابة، فقد كشفت الرواية عن موهبة فائقة لدى الكاتب في «تصوير النفس البشرية»، وقد جرى تصوير العالم الداخلي لأزمات البطل (في كنيسة أوسبينسكي، وفي الدير القائم في شارع تفيرسكايا).
بثقة بالغة وعلى نحو درامي، وفي سياق تقلبات السرد، نجد أن التباينات النفسية في النص قد تم التخطيط لها بفهم كامل للمؤثرات البنائية.
رأى دستويفسكي أن القصتين جديرتان بالاعتبار. وبعد أن أشار محرر مجلة «العصر»
1
إلى ما وقع فيه المؤلف المبتدئ من زلات، فقد عبر في رده الودي عن تقديره لموهبة هذا المؤلف المجهول، وتعهد بنشر المادة التي أرسلت إليه في أقرب عدد من مجلته.
سرعان ما انعقدت أواصر التعارف بين دستويفسكي وهذه الفتاة الشابة التي توارت خلف الاسم المستعار «يوري أوربيسلوف».
لقد ترك هذا اللقاء أثرا قويا على دستويفسكي، وينبغي علينا أن نعترف أن من بين النساء اللائي افتتن بهن دستويفسكي، كانت أنا فاسيليفنا كورفين كروكوفسكايا، بلا أدنى شك، أكثرهن موهبة ونبوغا وجمالا.
أنا كورفين كروكوفسكايا.
لم تصف أنا جريجوريفنا في مذكراتها «خطيبة دستويفسكي» بشكل صحيح على ما يبدو، كما أنها لم تذكر شقيقتها صوفيا التي نالت شهرة واسعة فيما بعد باعتبارها عالمة رياضيات، وكانت فتاة تتميز بجمال فائق وشخصية متكبرة.
كانت أنا فاسيليفنا فتاة ممشوقة القوام، طويلة، دقيقة القسمات، ذات شعر طويل أشقر. كانت بعينيها الخضراوين المبتسمتين تشبه عروس البحر. كانت حادة الذكاء جريئة، مستقلة ذات جمال مدهش. كانت تعد في طفولتها أميرة الحفلات الراقصة. وفي شبابها قطعت أشواطا من البحث عن طريقها الفكري في عدد من القضايا الروحية، الأمر الذي عكس على نحو واضح طبيعتها المتفردة.
أنا فاسيليفنا هي ابنة لإقطاعي واسع الثراء، قضت سنوات شبابها في ضيعتها المعروفة باسم باليبين بالقرب من فتيتيبسك. ولما كانت تشعر بالملل في هذا الريف الموحش، فقد اندفعت، وهي ابنة خمسة عشر ربيعا، إلى قراءة الروايات الإنجليزية القديمة في المكتبة العريقة في القرية. لقد أخذت بلبها ثماني شخصيات فرسان العصور الوسطى.
تحكي صوفيا كوفاليفسكايا في مذكراتها قائلة: «المصيبة الأخرى أن بيتنا الريفي كان بيتا كبيرا ضخما، له برج ونوافذ على الطراز القوطي، بني إلى حد ما بذوق القلاع في العصور الوسطى. إبان الفترة التي تلبست فيها أختي روح الفروسية لم يكن باستطاعتها أن تكتب خطابا واحدا دون أن تبدأه بكلمة (قصر باليبينو)
Chiâteau Palibino .
ظلت الغرفة العليا في البرج مهجورة زمنا طويلا، حتى إن درجات السلم الحاد المؤدي إليها كانت يفوح برائحة عطنة، وهنا أمرت أختي بتنظيفه من الغبار وبيوت العنكبوت، وعلقت على جدران الغرفة سجادا قديما وبنادق فتشت عنها في مكان ما بين سقط المتاع المهمل في العلية، ثم حولتها إلى مكان لإقامتها الدائمة.
ما زلت حتى الآن أنظر فأرى قوامها الرشيق اللدن المجسم في فستانها الأبيض الملتصق بها تماما، وقد تدلت ضفيرتاها الشقراوان الثقيلتان حتى بلغتا أسفل خصرها. في هذا الثوب كانت تجلس وراء طارة التخريم لتنسج بالخرز على الكانفاه شعار عائلة ماتفي كوروفين، ثم تنظر عبر النافذة إلى الطريق الطويل علها ترى فارسها قادما: - أختي أنا، أختي أنا! هل ترين؟ هناك شخص ما قادم. - لا أرى سوى أرض متربة ونجيل أخضر!
2
واحدة من روايات بوليفيير عن الفاتنة إديت - رقبة البجعة وعشيقها جاراليد - تركت أثرا قويا على هذه الفتاة الشديدة الحماس، وأثار لديها أزمة أخلاقية عميقة. إن مشكلة الحب والموت على النحو الذي في هذه الرواية الخيالية قد أصاب القارئة ابنة الستة عشر ربيعا بالذهول. «السعادة في أوضح صورها، والحب في أعلى سوراته حمية ينتهيان بالموت ...» الفرسان والسيدات الفاتنات أصحاب القصص الغرامية، إذا بهم يفقدون على الفور حماسهم، هدف جديد - إخماد الشك الذي اندلع بداخلها بواسطة تعذيب الذات وإنكارها - تمثل في كتاب لا يبرح مكتبها هو «محاكاة المسيح»، لغوما الكيمبييسكي.
زد على ذلك، أن المسرحيات المنزلية التي كشفت عن موهبة رائعة في التمثيل لدى هذه الموهبة الشابة النشيطة، وليلفت انتباهها إلى مدرسة المسرح ثم إلى الانتصارات على خشبته.
وحتى هذه الموهبة لم تهدئ مما يعتمل في نفسها من جيشان سوى فترة قصيرة.
سرعان ما ظهر في بيت هذا الإقطاعي الابن الشاب لأحد قساوسة الكنيسة، الذي أنهى لتوه الدراسة في الثانوية الدينية بنظامها الحديث، وبعد أن تخلى عن مستقبله الديني، التحق بكلية للعلوم الطبيعية، وفي زيارة إلى أبيه في الإجازة الصيفية، إذا به يفاجئ العجوز بإعلانه أن الإنسان تعود أصوله إلى القردة، وأنه لا وجود للروح، وإنما توجد ردود فعل كما أثبت ذلك البروفيسور سيتشيونوف وما إلى ذلك من أفكار.
وها هي المرأة، التي كانت منذ زمن غير بعيد فارسة ثم ناسكة مسيحية وممثلة موهوبة يشار إليها بالبنان، تعجب بشدة بهذا الطالب القادم من بطرسبورج، ثم إذا بها تهتم بقراءة الكتب والمجلات التي كانت تثير اهتمام أترابها، وإذا بمجلات مثل «المعاصر» و«الكلمة الروسية» و«الجرس» التي يصدرها جيرتسين تظهر في هذا البيت الإقطاعي الذي كان يتلقى بانتظام تلك المجلات الرزينة مثل
Athenaeum
و
Revue de deux Mondes
و«البشير الروسي».
كما جرى استجلاب صناديق من الكتب الجديدة مثل «فسيولوجيا الحياة» أو «تاريخ الحضارة». وعندئذ اتخذ الوالدان قرارا مفاجئا؛ إرسال ابنتهما للدراسة في بطرسبورج.
في خضم هذا المزاج الجديد، وقبل أن تحصل على الموافقة على السفر، تقرر أنا فاسيليفنا كروكوفسكايا أن تكرس نفسها للأدب، وترسل سرا إلى هيئة تحرير مجلة «العصر» في بطرسبورج مخطوطة قصتها باسم باليبين المستعار. بعد نجاحاتها الأولى في الصحافة والصراعات العائلية المضنية، تحصل الكاتبة الشابة أخيرا على السماح لها بالتعرف شخصيا على الصحفي والمعتقل السابق دستويفسكي. وفي شتاء عام 1865م يتم في بطرسبورج هذا التعارف المشهود.
كان اللقاء الأول غير موفق ومتكلف، في حضور أقارب أنا فاسيليفنا المفرطين في التأدب، لم يشعر الكاتب أنه على سجيته، بل شعر بالارتباك على نحو واضح. بدا عجوزا مريضا، «وراح طوال الوقت يعبث في عصبية بذقنه الخفيفة الشقراء ثم يعض شاربه، زد على ذلك أن وجهه كله كان يرتعش.»
على أن الزيارة التالية كانت أكثر توفيقا، عندما وجد دستويفسكي الشقيقتين وحدهما في البيت، وعلى الفور توطدت العلاقة. سرعان ما أصبح الكاتب سيد البيت. كان مغرما بقوة بالأخت الكبرى، كما أصبح فجأة المحبوب الأول للأخت الصغرى، المراهقة صوفيا، التي ظلت محتفظة إلى الأبد بشعور الصداقة العميقة تجاه الكاتب.
انتعشت مشاعر دستويفسكي بصحبة الأختين، فراح يتحدث على نحو بالغ الجاذبية، بوضوح وبهاء، عن حكاية تعرضه للإعدام، وعن نوبات الصرع التي تداهمه، وعن أفكاره الإبداعية المكنونة. ذات مرة أثار الرعب في نفوس مستمعيه الشباب أثناء حديثه في وجود أم الفتاتين، عندما عرض عليهن الحالة النفسية التي سيكون عليها بطله القادم ستافروجين وهو يقوم بالاعتراف.
على أن دستويفسكي لم يكن يشعر أنه على طبيعته في الأمسيات الكبرى. كان دستويفسكي يرتبك، يشعر بالاضطراب ويكسو وجهه الحياء، محاولا التماسك وهو وسط أصحاب المقام الرفيع والأكاديميين الكبار وضباط الحرس المتألقين. إحدى هذه الأمسيات كانت علامة على نهاية علاقة أنا فاسيليفنا بهذا المعجب الذي يفتقد إلى اللباقة إلى حد كبير. لقد ظهرت لدى هذه الفتاة ذات الطبع الجامح الرغبة في أن تخالف دستويفسكي الرأي، الأمر الذي أثار عصبيته وتعنته على نحو لم يحدث من قبل.
تحكي صوفيا كوفاليفسكايا أن قضية العدمية كانت موضوع الجدل الدائم والملح بينهما. وكان الجدل بينهما في هذه القضية يظل محتدما أحيانا إلى ما بعد منتصف الليل، وكلما استمر حديثهما حمي وطيس الجدل الذي يعبر فيه كل منهما عن أكثر الآراء تطرفا.
أحيانا ما كان دستويفسكي يصيح قائلا: «إن شبابنا الحالي كله غبي وغير ناضج. إن زوجا من الأحذية اللامعة أفضل عندهم من بوشكين!»
تقول صوفيا بثقة إن: «بوشكين قد أصبح بالفعل قديما بالنسبة لزمننا.» وهي تعلم أن لا شيء يثير جنون دستويفسكي قدر الحديث عن بوشكين دون احترام.
كان دستويفسكي عندما يشتط غضبا يأخذ قبعته ويغادر المكان، معلنا في انتصار أن الجدل مع فتاة عدمية لا جدوى من ورائه، وأنه لن يأتي لزيارتنا مرة أخرى.
وهكذا اقترب الأمر من نهايته، وذات يوم قامت الأخت الصغرى صوفيا المتيمة بحب دستويفسكي بحفظ «السوناتا الحماسية» لبيتهوفن، وهو العمل المفضل عند الكاتب، بينما راحت تقوم بعزف هذه المقطوعة الصعبة من أجله، كان دستويفسكي يقوم في ركن غرفة الاستقبال الصغيرة بالإفصاح الحاسم عن مشاعره للأخت الكبرى.
راح يقول لها في همس تشوبه الرغبة العارمة : «يمامتي أنا فاسيليفنا، افهميني، لقد أحببتك منذ الدقيقة الأولى التي رأيتك فيها، بل وتنبأت بذلك من قبل عندما كنا نتبادل الرسائل. لا أحبك حب الأصدقاء، وإنما أهيم بك بكل كياني ...»
لكن أنا فاسيليفنا كروكوفسكايا كانت قد حسبت لكل ما يخص مشاعرها حسابه. كانت تعلم مسبقا أن من الممكن أن يقدر المرء شخصا ما تقديرا رفيعا لما يملكه من موهبة، ولا تكون لديه في الوقت نفسه الرغبة في أن يتزوج منها. كان الحس الأنثوي لدى هذه الفتاة ذات الثمانية عشر ربيعا يجعلها تتنبأ أن زوجة دستويفسكي ينبغي أن تكرس حياتها كلها من أجله، وأن تتخلى عن حياتها الشخصية. على مدى الشهور الثلاثة من تعارفهما أدركت أن دستويفسكي العنيد ذا المزاج العصبي قد سيطر على مشاعرها كلية، كما لو أنه تسلل إلى كيانها، وأنه حرمها من أن تكون هي ذاتها. وهنا لم يكن أمامها إلا أن ترفض خطبة دستويفسكي.
ما إن انتهى فصل الشتاء حتى غادرت عائلة كروكوفسكي مدينة بطرسبورج، وفي نهاية الخريف من نفس العام تلقت أنا فاسيليفنا خبرا يفيد خطبة دستويفسكي من «فتاة رائعة، أحبها ووافقت على الزواج منه».
لكن الإعجاب ب «حورية البحر» ترك أثرا لا يمحى لدى الكاتب الكبير. بعد بضع سنين، وفي شهر مايو عام 1868م، يكتب دستويفسكي إلى مايكوف خطابا جاء فيه: «أعلم أن لديه (يقصد بافل إيسايف ربيبه) بعض خطابات كنت قد تلقيتها في هذا العام، وهي خطابات على جانب كبير من الأهمية. أحد هذه الخطابات تلقيته من صديقتي السابقة كروكوفسكايا. ليته يعيد إرساله إلي هنا. هذا أمر شديد الأهمية بالنسبة لي» (الخطابات، ص187). هذه السطور القليلة التي تنم عن قلق بالغ، إنما تعكس أنه على الرغم من مرور عدة سنوات والبعد مئات الكيلومترات، فإن ذكريات الكاتب عن «الحورية» المسماة باليبين كانت ما تزال تعبث بمشاعره.
يحكي دستويفسكي فيما بعد لأنا جريجوريفنا قائلا: «أنا فاسيليفنا واحدة من أفضل النساء اللائي قابلتهن في حياتي . كانت شديدة الذكاء، ناضجة، تمتلك ثقافة أدبية واسعة، وكان لديها قلب طيب ورائع. كانت فتاة تمتلك خصالا خلقية رفيعة، على أن أفكارنا كانت على طرفي نقيض، وكان من المستحيل أن تتراجع عن أفكارها، بل كانت متمسكة بها بشدة؛ ولهذا كان من الأرجح ألا ينجح زواجنا. أحللتها من وعدها، وتمنيت لها مخلصا أن تقابل الرجل الذي يشاركها أفكارها، وأن تجد سعادتها معه!»
بعض فتيات دستويفسكي المتكبرات المسيطرات، مثل كاترينا إيفانوفنا في «الإخوة كارامازوف»، يعكسن وجها من وجوه «خطيبة دستويفسكي» صاحبة الشخصية المهيمنة.
3
الفصل الثالث
واحدة من أكثر قصص الحب عاشها دستويفسكي قوة ترجع إلى مطلع الستينيات من القرن التاسع عشر. أما بطلة هذه القصة وهي أبوليفاريا سوسلوفا؛ الفتاة الشابة التي تركت أثرا عميقا في إبداع الروائي الروسي الكبير بعد ذلك.
يمكننا استقطاع بعض المعلومات الشخصية عن بالينا
1
من كتاب لوبوف دستويفسكايا (ابنة دستويفسكي الكبرى). عاشت أبوليفاريا سوسلوفا في مطلع الستينيات (من القرن التاسع عشر) في بطرسبورج، حيث خالطت الشباب التقدمي. وعلى الرغم من أن دستويفسكي لم يكن يشارك كثيرا في الأمسيات الأدبية للشباب، فضلا عن أنه لم يكن قد حظي بهذا القدر من النجاح، الذي حظي به بعد ذلك في السبعينيات، فمن المؤكد أن سوسلوفا قد تعرفت عليه في إحدى هذه الأمسيات، وعلى الرغم من أن الأراشيف الموجودة لدستويفسكي لا تضم أي خطابات غرامية أرسلتها له أبوليفاريا، فإننا يمكن أن نثق في ابنة الكاتب التي تؤكد أن دستويفسكي قد تلقى بالفعل خطابا من هذا النوع كان له أثر عميق على أبيها بفضل نبرته المخلصة وما فيه من شاعرية.
يبدو أن الفتاة الشابة وقد بهرتها عبقرية الفنان العظيم، راحت تعبر له عن إعجابها به، وقد استجاب دستويفسكي لهذا الشعور الملتهب الذي بثته فتاة في شرخ الصبا.
على أية حال لا يخامرنا أي شك في أن قصة الحب بينهما قد بلغت ذروتها في عام 1863م. في صيف هذا العام يسافر دستويفسكي بصحبة سوسلوفا إلى الخارج. وفي خطاباته إلى إخوته يتحدث بصراحة تامة عن السعادة في السفر مع كائن تحبه. والحقيقة فإن شكوكه المعتادة وميله إلى العبوس، والأهم خسائره الفادحة على مائدة القمار، قد عكرت صفو هذه الرحلة التي قام بها عبر أوروبا بصحبة محبوبته الشابة. «مغامرات عديدة متنوعة، لكنها رديئة إلى حد مخيف على الرغم من وجود أبوليفاريا سوسلوفا. من الصعب أن يشعر المرء هنا بالسعادة؛ لأنك انفصلت عن الجميع، عن الذين ما زلت حتى الآن تحبهم، والذين تعذبت مرارا بسببهم، وحتى لو هجرت السعادة كلها، وهجرتك حتى تلك الأشياء التي يمكن أن تكون مفيدة، فإن الأنانية تظل هي الفكرة التي تكرر سعادتي (إن كانت هناك سعادة بالفعل)».
2
إن رفيقة سفر دستويفسكي تعاني من الخسارة، ترهن خاتمها، تعاني معه من رعب الإفلاس المفاجئ، عندما يحين موعد الارتجاف عن سداد مستحقات الفندق. تعكس رواية «المقامر» بشكل مرتب تاريخ علاقة دستويفسكي وسوسلوفا، وما تضمنته من العديد من المشاهد الغرامية.
لم تكن علاقات دستويفسكي سوسلوفا متكافئة؛ كانا يتخاصمان ثم يعودان، تنتابهما سورات من الهوس الجامح الذي بدا أنه لا ينطفئ. لم ينقطعا عن تبادل الرسائل من حين لآخر حتى بعد الزواج الثاني لدستويفسكي.
3
في الثالث والعشرين من أبريل (الخامس من مايو بالتقويم القديم) من عام 1867م؛ أي بعد شهرين من زواجه بأنا جريجوريفنا، في الأسبوع الثاني من رحلة زواجهما، يرسل دستويفسكي من درزدن إلى سوسلوفا خطابا يخبرها فيه تفصيلا عن التحول الكبير في حياته. وبنبرة ملؤها الحنان والصراحة، يكتب كلمات يكشف فيها عن شخصية مراسلته: «لقد ترك خطابك لي انطباعا حزينا في نفسي. تقولين إنك حزينة للغاية. لا أعرف عن حياتك في العام الأخير شيئا، كما لا أعرف كذلك عن أحوالك العاطفية أي شيء، ولكن استنادا إلى معرفتي التامة بك، فإن من الصعب أن تعرفي معنى السعادة. أواه يا عزيزتي! لست أدعوك إلى أن تأخذي طريق السعادة الرخيصة الضرورية. إنني أحترمك (وكان هذا شعوري دائما) لما تتحلين به من عزيمة وإصرار، لكنني أعرف أن قلبك لا يستطيع إلا أن يسعى للحياة، وأنت نفسك تعتبرين الناس إما متألقين دوما، وإما أنهم على الفور أوغاد سفلة. إنني أصدر حكمي هنا بناء على حقائق، وعليك أن تصلي إلى النتائج بنفسك. إلى اللقاء أيها الصديق دوما.»
يتضح لنا من يوميات أنا جريجوريفنا التي سجلتها في درزدن أن مراسلات دستويفسكي مع سوسلوفا، والتي كانت تتسم بالحيوية، أصابتها بالغم والكدر. لقد تركت خطابات باليفا لديها انطباعا صادما. ها هي أنا جريجوريفنا تصف قراءة دستويفسكي لخطاب من خطابات سوسلوفا أرسلته من درزدن في الخامس عشر من مايو: «كنت أراقب طول الوقت تعبيرات وجهه عندما كان يقرأ هذا الخطاب الشهير. لقد راح يعيد قراءة الصفحة الأولى المرة تلو الأخرى، كما لو كان في حالة لا يستطيع معها أن يفهم ما يقرؤه، ثم في النهاية أتم قراءة الخطاب لتكسو وجهه كله حمرة شديدة، وقد خيل لي أن يديه كانتا ترتجفان. تظاهرت بأنني لا أعرف عن الخطاب شيئا، وسألته: ماذا كتبت سونيتشكا؟
4
فأجاب أن الخطاب ليس من سونيتشكا، وبدت على وجهه ابتسامة تشوبها المرارة. ابتسامة لم أرها على وجهه إطلاقا من قبل. كانت إما ابتسامة احتقار أو أسى. الحقيقة لا أعرف، لكنها ابتسامة ذاهلة أسيانة على نحو ما. ثم بدا لي مرتبكا على نحو شديد وكأنه لم يفهم عما أتحدث.»
سوسلوفا.
لا بد أن ندرك أن أبوليفاريا سوسلوفا كانت محط رغبات دستويفسكي الجامحة. امرأة متطرفة، تندفع بمشاعرها إلى منتهاها لتصل إلى الذروة النفسية والمعيشية. لقد أظهرت طوال حياتها هذا «الإصرار» الذي يدل على طبيعة شهوانية شديدة الولع؛ طبيعة نهمة إلى المشاعر الحسية. إن ميلها لتقسيم الناس إلى قديسين وأوغاد أمر مميز لولعها الحسي الدائم وتفانيها، وكما يبدو لكونها كانت كائنا جهنميا بحق. إن لديها قلبا يتوق إلى المظاهر النبيلة، للتعاطف والطيبة (دموعها على شقيق دستويفسكي المريض)، وهذا القلب نفسه ليس أقل نزوعا نحو النزوات الحسية الخرقاء واضطهاد الآخرين، بل وحتى الانتقام منهم. هذه الصفات بكل تأكيد تكشفت بفضل شهادة ف. ف. روزانوف، الذي تزوج من عشيقة دستويفسكي السابقة في نفس عام وفاته.
إن روزانوف، وقد أصبح زوجا لها، يكشف بوضوح تام عن شخصية سوسلوفا بكل سماتها العاصفة والحادة. ينبغي فقط أن نضع في اعتبارنا أن الحديث يدور هنا عن امرأة لم تعد في شرخ شبابها (في مطلع الثمانينيات كانت أبوليفاريا سوسلوفا قد تخطت الأربعين)، وأن شهادة روزانوف يمكن أن تكون منحازة إلى الجانب الرديء فيها. ومع ذلك فإن هذه الشهادة تكتسب أهمية لا شك فيها من الناحية الفعلية، وهي تتفق في الكثير من جوانبها مع شهادات أشخاص آخرين.
يتحدث روزانوف عن سوسلوفا قائلا: «تزوجت منها وأنا في الفصل الثالث من الجامعة، هجرتني لتقع في غرام شاب يهودي بعد ست سنوات من حياتنا معا لتعيش في نيجني، في بيتها هناك.» فيما بعد وفي وثيقة قدمها روزانوف لإدارة السينود بشأن حياته العائلية، يتحدث فيها عن زوجته الأولى (متحدثا عن نفسه بضمير الغائب) فيقول: «أبوليفاريا، اسم العائلة سوسلوفا، روزانوف بعد الزواج، هجرت زوجها ف. ف روزانوف في عام 1886م بحجة أن زوجها - خلافا لما بذله لها من وعد - يلتقي بشاب يهودي يدعى جولدوفسكي، وهو الشخص الذي يدير توزيع كتبه على المكتبات، وقد وقعت (أبوليفاريا) في غرام هذا الجولدوفسكي، ثم لم تجد منه تعاطفا تجاهها. وعلى نحو لم يسمع به من قبل، راحت تلاحقه، وبواسطة خلافات لا يمكن وصفها دفعت زوجها ليقطع كل صلة به. وجولدوفسكي شاب ينتمي لعائلة يهودية محترمة، دعته سوسلوفا نفسها لاستضافته صيفا لدى آل روزانوف. عموما كانت هذه إحدى نزوات سوسلوفا البشعة من ناحية سخافتها.»
كان لهذا الانفصال أثره المؤلم على روزانوف. يكتب روزانوف في أحد خطاباته قائلا: «أذكر عندما هجرتني سوسلوفا أنني انخرطت في البكاء، وأنني ظللت لمدة شهرين لا أعرف مكانا أذهب إليه، ولا أعرف فيما أنفق كل ساعة من الوقت الذي يمر بي.»
ثم يتحدث روزانوف بعد ذلك عن نزوات زوجته ورغبتها في الانفصال عنه، وهو ما رفضه بحسم.
قبل ذلك، عندما انتقل روزانوف من عمله في بريانسك إلى يليتس، دعا زوجته للعيش معه آملا أن تسير الحياة في مكان جديد، ووسط أناس جدد وظروف مختلفة على نحو أفضل، لكنها رفضت وعلى نحو قاس بأسلوب فظ، وأجابته بقولها: «آلاف الأزواج يعيشون في نفس وضعك (أي هجرتهن زوجاتهن)، ومع ذلك فهم لا ينبحون. الناس ليسوا كلابا.» وحتى أبوها، الذي خاطبه روزانوف راجيا أن يؤثر في ابنته وأن يحثها على العودة إلى زوجها، أجابه قائلا: «عدو الجنس البشري يسكن في بيتي الآن، وقد أصبح من المستحيل علي أنا نفسي أن أعيش فيه.» ظلت سوسلوفا تشك دائما أن هذا العجوز الذي تخطى السبعين من العمر سوف يتزوج، ومن ثم راحت تشهر به أمام أصدقائه ومعارفها.»
في عام 1897م وافق روزانوف على الطلاق من سوسلوفا، لكن حياة روزانوف العائلية ظلت مثقلة بالهموم بسبب رفض سوسلوفا الطلاق. أبلغني أحد أصدقاء روزانوف أن الكاتب الراحل أوفده في عام 1902م إلى سيفاستوبول؛ حيث كانت أبوليفاريا سوسلوفا تعيش آنذاك، لينتزع منها الموافقة الضرورية. كانت سوسلوفا قد بلغت آنذاك حوالي الستين من العمر. كانت تعيش وحيدة في بيتها الخاص (الذي اشتهر باسم «بيت أبوليفاريا روزانوف»). كان بيتها يثير الدهشة بنظافته وأناقته، ويخلق انطباعا بأن صاحبته امرأة عملية ذات شخصية حازمة.
وفي حديثها مع مندوب زوجها أبدت صلابة وإصرارا لا يلين. ولم تستطع أي حجج أن تثنيها عن إرادتها. تحدثت عن روزانوف بحقد بالغ. وعلى الرغم من إلحاح مبعوث زوجها، فقد رفضت أي شكل من أشكال التنازل على نحو قاطع. ووفقا لما ذكره لي صاحب الحديث مع سوسلوفا، فمن الواضح أنه ظل يتذكر بكثير من العذاب هذه المباحثات التي دارت بينه وبين أبوليفاريا سوسلوفا الحديدية.
هناك وثيقة شديدة الأهمية بالنسبة لتوصيف سوسلوفا أخبرني بها أيضا أ. س. فولجسكي. كان فولجسكي باحثا في أعمال دستويفسكي، وكان على معرفة شخصية بروزانوف. وقد توجه هذا الباحث إلى روزانوف بسؤال عن زوجته الأولى، وقد رد روزانوف عليه بخطاب يتضمن تصويرا رائعا لطبيعة هذه المرأة المتفردة.
5
التقيت بسوسليخا،
6
للمرة الأولى في منزل تلميذتي أ. م شيوجلوفا (كنت أبلغ من العمر سبعة عشر عاما، وكانت شيوجلوفا تبلغ العشرين، أما سوسلوفا فكانت في الثلاثين من عمرها). كانت ترتدي ثوبا أسود اللون دون ياقات أو أكمام (حدادا على أخيها). كان وجهها يحتفظ بآثار جمال غابر «رائع». كانت روسية مناصرة للملكية. كانت تترقب انتصار البوربون في فرنسا (حيث تركت فيها أفضل أصدقائها، أما في روسيا فلم يكن لها فيها أي أصدقاء)، وفي روسيا لم تحب سوى التقاليد الأرستقراطية.
وبنظرة امرأة لعوب خبيرة، أدركت أنها تركت أثرا صادما في نفسي، فراحت تتحدث ببرود وهدوء. إنها باختصار يكاترينا ميديتشي. كانت تشبهها تماما. امرأة بمقدورها ارتكاب جريمة دون مبالاة، أن تقتل بدم بارد، وربما تطلق النار على الهوجينون (الكاثوليكيين الفرنسيين) في ليلة القديس بارتولومي
7
وبكل حماس.
عموما فقد كانت سوسلوفا امرأة عظيمة بالفعل. أعرف أن الناس (ومنهم صديقة لها تدعى أنا أوسيبوفناج، كانت تكبرها بخمسة عشر عاما) كانوا مفتونين بها، أسرى لشخصيتها. لم أر روسية مثلها. كانت من وجهة روحها روسية تماما، منشقة دينية أو ربما أفضل من ذلك، السيدة العذراء لجماعة الخليستيين الذين كانوا يؤمنون في القرن السابع عشر بالتوحد مع الروح القدس.
وبمناسبة الحديث عن سوسلوفا يتذكر روزانوف إحدى الشخصيات من رواية «المذلون والمهانون»، تلك الأميرة التي يحكي عنها الأمير فالكوفسكي لإيفان بتروفيتش. تقول عنها الرواية: «حسناء من الطراز الأول. يا له من صدر، يا له من قوام، يا لها من مشية! كانت نظرتها حادة ثاقبة مثل أنثى نسر، وإنما مليئتان بالقسوة دائما وبالحذر. كانت تتصرف بوقار ومنعة وبكبرياء كامرأة صعبة المنال. كانت مشهورة بسلوكها البارد مثل الشتاء القارس، وكانت تبث الخوف في قلوب الجميع بفضيلتها الرهيبة التي لا سبيل إليها. كانت تنظر للجميع نظرة خالية من أي رغبة، مثل راهبة في كنيسة من العصور الوسطى ... ما الذي يمكن قوله عنها؟
لم تكن هناك امرأة أكثر عهرا من هذه المرأة ... كانت فتاتي شهوانية إلى حد أن الماركيز دي ساد كان يمكنه التعلم منها ... كانت الشيطان نفسه مجسدا، ولكنه شيطان جذاب، شديد الجاذبية، لا يمكنك التغلب عليه، وهلم جرا.»
هذا المقطع في رأي روزانوف كان من الممكن أن يمثل شخصية سوسلوفا أفضل تمثيل، على الرغم من أنه لا يمت إليها بصلة. لقد كتب دستويفسكي رواية «المذلون والمهانون» قبل أن يلتقي ببالينا، لكن إشارة روزانوف ذات أهمية كبرى لفهم شخصية سوسلوفا.
روزانوف يقارن هنا بينها وبين بطلات دستويفسكي الأخريات، وهي مقارنة يمكن أن تكون واقعية تماما. «إن دونيا، شقيقة راسكولنيكوفا تشبهها تماما وكذلك أجلايا،
8
إلا أنها لا تشبه جروشينكا
9
في شيء، أبدا، أبدا، أبدا. جروشينكا امرأة روسية، بذيئة، أما سوسليخا فلم تكن بذيئة ولا فظة ...» «لقد عاشت مع دستويفسكي. - لماذا انفصلت أبوليفاريا سوسلوفا عن دستويفسكي؟ - لأنه لم يرغب في تطليق زوجته المسلولة إلى أن تموت. - لكنها ماتت؟ - نعم، ماتت. بعد نصف عام، ماتت، لكنني هجرته. - ولماذا هجرته؟ - لأنه لم يرغب أن يطلقها، أصمت. لقد سلمت نفسي لحبه، دون أن أسأل، دون حسابات، وكان عليه أن يفعل مثلما فعلت، لكنه لم يفعل، ومن ثم فقد هجرته.
كان هذا أسلوبها، مثل هذا الحديث وقع لي معها حرفيا تقريبا. نفس الأفكار وفي جميع الأحوال.»
يؤكد روزانوف أن سوسلوفا لم تكن شديدة الذكاء، لكنها تميزت بجاذبية منقطعة النظير تماما. نوع من الأنوثة الطاغية الآسرة، لكنها على ما يبدو، ظلت «معذبة» حتى في شهواتها، حيث أظهرت فيها أيضا قدرا من الخروج على المعايير، لتسير في منعطفات خاطئة نتيجة طبيعتها المركبة من شظايا حطام. بعد مرور ثلاثين عاما لا يستطيع روزانوف أن يتذكر فتنة هذه المرأة الغربية دون أن ينتابه اضطراب عميق وشيء ما من الإعجاب الحاد، هذه المرأة التي هي ليست «يكاترينا ميديتشي»، ولا «السيدة العذراء».
إن خطاب روزانوف يلقي بمزيد من الضوء على طابع هذه العلاقة الغرامية المعقدة التي عاشها دستويفسكي. إن شخصية سوسلوفا قد كشفت له عن عدد من الجوانب الخفية في الطبائع الغائرة «للفتيات المتكبرات» أو «النساء الجهنميات»؛ ففي جميع رواياته التي كتبها في فترة النضج نجد أمامنا هذا النموذج النسائي الجديد، الذي أخذ في الصعود نحو شخصية رفيقته المتسلطة الآسرة إبان رحلته التي قام بها في عام 1863م.
10
الفصل الرابع
وأخيرا تظهر في طريق دستويفسكي المرأة التي كانت على استعداد أن تضع مصيرها كله؛ عواطفها الحية ، وأن تذيب شخصيتها كاملة دون نقصان في وسط أفكاره وطموحاته ومصالحه. كان اليوم الأول للقاء دستويفسكي مع هذه التي كانوا يسمونها قبل تعارفهما نيتوتشكا نيزفانوفا،
1
هو الرابع من أكتوبر عام 1866م، اليوم الذي فتح عصرا جديدا في تاريخ حياته.
إن تاريخ ظهور الحب الأخير لدستويفسكي يتميز بالمفاجأة والسرعة. لقد ألزم العقد الصارم الذي وقعه دستويفسكي مع ستيلوفسكي، ألزم الكاتب بتسليم روايته الجديدة، والتي تقع فيما لا يقل عن عشر ملازم بحلول الأول من نوفمبر لطبعها تحت تهديد توقيع غرامة ثقيلة. يكشف لنا الخطاب التالي تفصيلا الاضطراب العملي في حياة دستويفسكي في هذه الفترة، والخطاب مؤرخ الثامن من مايو عام 1871: «لقد اشترى ستيلوفسكي مني مؤلفاتي في صيف عام 65 على النحو التالي؛ بعد وفاة أخي في عام 64 تحملت عنه الكثير من ديونه، وقد استخدمت أموالي الخاصة، وهي عشرة آلاف روبل (حصلت عليها من عمتي) في مواصلة إصدار مجلة «العصر»، مجلة أخي، لصالح عائلته، دون أن يكون لي أي حصة فيها، وحتى دون أن يكون لي الحق في وضع اسمي على غلاف (ترويسة) المجلة باعتباري محررا.
لكن المجلة أفلست، واضطررت لتركه، ثم واصلت بعد ذلك سداد ديون أخي وديون المجلة قدر استطاعتي. لقد أعطيت كمبيالات كثيرة لديميس وحده بالمناسبة (الآن بعد وفاة أخي). لقد جاء هذا المدعو ديميس إلي ورجاني أن أعيد توقيع كمبيالات أخي باسمي (كان ديميس هذا هو الذي يبيع الورق لأخي)، ووعدني أنه سوف ينتظر ما شاء لي الانتظار، وقد فعلت ذلك بحماقة بالغة.
وفي صيف عام 65 بدأ الجميع بملاحقتي بشأن كمبيالات ديميس وغيره (لا أذكر من)، ومن جانب آخر أظهر جافريلوفا عامل المطبعة أيضا كمبيالة لديه قيمتها ألف روبل، كنت قد أعطيتها له؛ لاحتياجي للمال حتى تستمر المجلة التي لا أملكها في العمل. لم يكن باستطاعتي أن أثبت قانونا عدم مسئوليتي عن الكثير من الكمبيالات، لكنني كنت أعلم علم اليقين (وخاصة فيما يخص كمبيالات ديميس) أن الأمر قد تم بتدبير من ستيلوفسكي، الذي ألب علي جافريلوف أيضا آنذاك. وفي الوقت نفسه إذا به يرسل إلي فجأة عرضا؛ أن أبيع له رواياتي مقابل ثلاثة آلاف روبل، بالإضافة إلى كتابة رواية خاصة بأكثر الشروط إهانة وتعجيزا. ولو أنني انتظرت لتسلمت من باعة الكتب ضعف هذا المبلغ مقابل طبع الرواية على أقل تقدير، ولو أنني انتظرت عاما آخر لحصلت على ثلاثة أضعاف المبلغ؛ أي سبعة آلاف روبل، مقابل بيع الطبعة الثانية من «الجريمة والعقاب» أسدد بها ديون المجلة وبازونوف وبارتس ومورد الورق.
ملحوظة: على هذا النحو أكون قد أنفقت على مجلة أخي وديونها اثنين وعشرين أو أربعة وعشرين ألفا؛ أي أنني أضعت جهودي كلها وأصبحت فوق ذلك الآن مدينا بخمسة آلاف روبل.
لقد أعطاني ستيلوفسكي آنذاك مهلة قدرها عشرة أو اثنا عشر يوما للتفكير، وهذه المهلة هي في الواقع مدة الجرد والاعتقال بسبب الديون ... طوال هذه الأيام العشرة طرقت كل الأبواب لكي أحصل على أموال أسدد بها الكمبيالات حتى أتجنب بيع مؤلفاتي لستيلوفسكي (ذهبت جهود دستويفسكي كلها أدراج الرياح). عندئذ وافقت، ووقعنا هذا العقد، الذي بين أيديكم نسخة منه.
2
سويت ديوني مع ديميس ومع جافريلوف وآخرين، أما الخمسة والثلاثون ألف روبل المتبقية فقد سافرت بها إلى الخارج.
عدت في أكتوبر ومعي الأجزاء الأولى من رواية «الجريمة والعقاب» التي بدأت في كتابتها في الخارج، ثم قمت بالاتصال بمجلة «البشير الروسي» التي تسلمت منها مقدما بضعة ...
بذلت كل ما في وسعي لإنهائها قبيل الأول من نوفمبر عام 66، وقد نجحت في ذلك (لو لم أسلمها في الموعد لكان قد التهمني)».
على الرغم من العقد المرعب، فقد ظل دستويفسكي يعمل طوال عام 1865م على إنجاز روايته «الجريمة والعقاب»، ولم يكن لديه سطر واحد مكتوب منها حتى الأول من أكتوبر؛ أي قبل موعد تسليم الرواية إلى ستيلوفسكي بشهر واحد.
هرع أصدقاء الكاتب لمساعدته، وعندما رفض بحزم اقتراحهم بأن يتولوا كتابة العمل سويا بأن يقسموا فصوله عليهم، فقد أشاروا عليه إلى المخرج الوحيد من المأزق الذي هو فيه؛ إذا كان من المستحيل عمليا كتابة رواية من عشر ملازم خلال شهر واحد، فربما يصبح بالإمكان إملاؤها.
أنا جريجوريفنا.
تشبث دستويفسكي بهذا الاقتراح، وسرعان ما ظهرت لديه - بتوصية من أصدقائه - أفضل تلميذة في فصول الاختزال؛ أنا جريجوريفنا سنيتكينا.
كان الانطباع الأول الذي تولد لدى دستويفسكي تجاه أنا جريجوريفنا مؤلما على نحو لا يمكن تصديقه. تتذكر أنا بعد خمسين عاما (في شتاء عام 1917م) لقاءها الأول مع زوج المستقبل بشعور بالعذاب لا ينسى: «لا يمكن لأي كلمات أن تعبر عن هذا الانطباع الثقيل المؤسف الذي تركه في نفسي فيودور ميخايلوفيتش لدى لقائنا الأول. بدا لي حائرا، مهموما بشدة، عاجزا، وحيدا، مضطربا، مريضا، وأنه يعاني وطأة البؤس، وأنه لا يرى وجهك، وليس بمقدوره أن يقيم معك حوارا ... والحقيقة أن هذا الانطباع قد زال عني في اللقاءات التالية ...»
لم تضم أنا جريجوريفنا هذه الكلمات في «مذكراتها»، وإنما وردت في واحدة من مذكراتها الأولى المؤرخة 26 مايو 1883م، وقد تحدثت هنا بصراحة مطلقة: «أود أن أذكر انطباعا واحدا: لا يوجد أحد في هذا العالم، من قبل أو من بعد، ترك في نفسي مثل هذا الانطباع الثقيل، الانطباع الخانق في الحقيقة، مثل الذي تركه علي فيودور ميخايلوفيتش في لقائنا الأول. لقد رأيت أمام عيني إنسانا تعيسا، مقتولا، معذبا. كانت ملامحه تشي بأنه إنسان فقد لتوه اليوم أو بالأمس شخصا عزيزا على قلبه، وأن مصيبة ما مؤلمة حلت به. عندما تركت فيودور ميخايلوفيتش، تبدد مزاجي الوردي السعيد مثلما يتبدد الدخان. انقشع قوس قزح أحلامي، وانتابني حزن وكدر شديدان، ورحت أسير في الطرقات وقد غشيني إحساس ما مبهم.»
ومن المشاهد المميزة لخبرة الإملاء الأولى: طلب مني الجلوس إلى مكتبه، وراح يقرأ بضعة سطور من «البشير الروسي». لم أتمكن من الكتابة، ونبهته إلى أنني لا أستطيع أن أتابعه، وأنه عند الحديث أو الإملاء لا يتحدثون بمثل هذه السرعة. راح يقرأ ببطء أكثر، ثم طلب مني أن أترجم ما كتبته اختزالا إلى الحديث العادي. كان يتعجلني طوال الوقت قائلا: «أخ، وقت طويل، هل يستغرق الأمر كل هذا الوقت للكتابة؟»
أسرعت، ولكنني لم أضع نقاطا بين عبارتين، على الرغم من أن الجملة التالية كانت تبدأ بحرف كبير، وكان من الواضح أنني أسقطت نقطة فقط. استاء فيودور ميخايلوفيتش بشدة بسبب إسقاط النقطة، وكرر عدة مرات عبارة: «هل هذا ممكن؟»
بعد انتهاء الكتابة المسائية في اليوم الأول لم يتبدل انطباعي. «عدت إلى البيت تحت تأثير نفس الانطباع الثقيل. كنت آسفة على آمالي التي انهارت، وكنت مشفقة على هذا الإنسان الغريب، التعيس وغير المفهوم بالنسبة لي. أمطرتني أمي، التي كانت تنتظرني على أحر من الجمر، بالأسئلة، ولكنني اكتفيت بأن أجيبها بقولي: أخ، ماما، لا تسأليني عن دستويفسكي ...»
لكننا، وفي «مذكرات» أنا جريجوريفنا أيضا، يمكننا على نحو واضح أن نتلمس هذا الانطباع الحزين وقد تسلل بين السطور.
أما البيت الذي عاش فيه دستويفسكي فكان يذكرها بهذا المسكن القبيح الذي عاش فيه راسكولنيكوف؛ بيت من بيوت بطرسبورج المؤجرة من منتصف القرن يضم عددا كبيرا من الشقق التي يسكنها تجار وحرفيون. في الشقة رقم 13 عاش دستويفسكي. كانت غرفة مكتبه يسودها الظلام والصمت: «... كان المرء يشعر هنا بنوع من الكآبة والانقباض من جراء الضجيج والسكون ...» «للوهلة الأولى بدا لي دستويفسكي رجلا تقدم به العمر كثيرا، ولكن ما إن بدأ في الحديث حتى أصبح أصغر عمرا، ورأيت أنه من المرجح أن يكون قد تجاوز الخامسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين. كان متوسط الطول، منتصب القامة للغاية، شعره كستنائي فاتح، حتى إنه يميل قليلا للحمرة، مدهون بدهان عطري وقد صفف بعناية، لكن ما أدهشني فيه هو عيناه؛ كانتا مختلفتين؛ فإحداهما بنية اللون، والأخرى متسعة الحدقة بحيث لا تكاد القزحية أن ترى. أضفت هذه الازدواجية على نظرة دستويفسكي شيئا من الغموض في التعبير. بدا لي وجه دستويفسكي الشاحب مألوفا للغاية، ولعل مرجع ذلك أنني شاهدت صورا له من قبل. كان يرتدي معطفا قديما للغاية من الجوخ الأزرق، ولكن قميصه كان ناصع البياض ...»
بدأ العمل اليومي في اختزال رواية «روليتنبورج»، التي تغير اسمها فيما بعد إلى «المقامر»، من الثانية عشرة صباحا وحتى الرابعة بعد الظهر، وذلك على مدى شهر بأكمله تقريبا. من الرابع وحتى التاسع والعشرين من أكتوبر، تمت كتابة واحدة من أكثر أعمال الكاتب روعة فنية، ومن صوته الحي مباشرة. أما الأمر الذي فاق التوقع؛ فقد تمثل في سرعة إيقاع العمل ليعكس على نحو مثمر للغاية تماسك البناء الفني العام للرواية، ويضفي عليها توترا شديدا واندفاعا جذابا. تقع الرواية في عشر ملازم كتبت في ستة وعشرين يوما.
في الثلاثين من أكتوبر، يسلم دستويفسكي مخطوطة «المقامر» إلى ناشره. وبفضل هذا التوتر الإبداعي الفريد استطاع دستويفسكي أن يتجنب خطورة «الغرامات البشعة»، فضلا عن ذلك فقد تفادى دستويفسكي تهديدا آخر كان يعذبه طوال الوقت؛ مستقبله وحيدا، وخطورة أن تطول حياته الشاقة باعتباره كادحا مريضا دون أن يجد العزاء مع إنسان يحمل له مشاعر الحب. إن دستويفسكي الذي دخل عقده الخامس قد وجه كل رصيده الضخم من الحنان الذي ادخره طوال هذه السنين إلى موظفته ذات العشرين ربيعا.
إبان حمية العمل أخبر دستويفسكي كاتبته ذات مرة أنه يقف الآن عند مفترق الطرق، وأنه أمام اختيارات ثلاثة؛ إما أن يذهب إلى الشرق، القسطنطينية أو أورشليم، وأن يبقى هناك إلى الأبد. أو أن يذهب إلى الخارج ليلعب القمار وينغمس في هذا الولع بكل جوانحه. أو، أخيرا أن يتزوج للمرة الثانية ويبحث عن السعادة والسرور في الحياة العائلية. ما هي إلا أيام معدودة بعد انتهاء الكتابة، وإذا بدستويفسكي يروح يقص في الثامن من نوفمبر على أنا جريجوريفنا قصة حياته في شكل رواية اختلقها ليطلب يدها في خاتمتها. بعد مرور ثلاثة أشهر، وفي الخامس عشر من فبراير عام 1867م، يتزوجان، وفي ربيع العام نفسه، وبسبب الظروف المنزلية المرتبكة وتهديد الدائنين، يسافر الزوجان معا إلى الخارج.
يسجل دستويفسكي المرحلة الأولى من هذه العلاقة الغرامية في خطاباته. إنها ليست كراسات (يوميات)، مثل تلك التي كان يرسلها في الخمسينيات إلى ماريا ديمترييفنا إيسايفا ، وإنما هي مذكرات تميزت بنبرة الخطابات الثلاثة الأولى التي كتبها دستويفسكي إلى زوجة المستقبل، تمثل دون أدنى شك نوعا فريدا في المراسلات الغرامية في كل العصور. إنها تفسر لنا الانطباع المضني الذي اكتنف أنا جريجوريفنا من أثر لقائها الأول بالكاتب. كم كانت بائسة حزينة إلى ما لا نهاية هذه السطور الأولى التي كتبها هذا الكاتب الكهل إلى هذه الفتاة الغضة، التي وافقت أن تصبح رفيقة حياته. ترى ما الذي كتبه دستويفسكي في خطابه القصير الأول؟ وماذا لو عرفنا أنه كتبه لأنا جريجوريفنا في نفس يوم عيد ميلادها؟ يا لها من تهنئة! دستويفسكي يتحدث في خطابه عن مرضه، عن ضعفه، عن أعماله، عن ضرورة لقائه بالناشر، عن عمله المضني الشاق، عن جلوسه إلى المائدة وحيدا ... فقط عندما يقترب الخطاب الحزين من نهايته إذا به يخط سطرين ثلاثة يرسل لها فيها تحياته بنبرة ودودة. تبدي أنا جريجوريفنا ملاحظة مثيرة على الخطاب الأول الذي أرسله لها زوج المستقبل: «كان التاسع من ديسمبر يوم ميلادي، وكذلك ميلاد أمي أ. ن. سنيتكينا. كان من المعتاد أن يجتمع لدينا في هذا اليوم أقاربنا ومعارفنا. ألححت في دعوة فيودور ميخايلوفيتش لحضور مأدبة الغداء في هذا اليوم.
كان من الصعب عليه الحضور بسبب الضعف الذي أصابه بعد نوبة الصرع التي داهمته منذ فترة قريبة، والتي لم تكن آثارها قد زالت بعد. كما كان من المرهق له أن يلتقي لدينا بمجتمع لا يعرفه بعد؛ فمثل هذه اللقاءات، وهو في حالته المرضية هذه، كانت تمثل عبئا مضاعفا عليه، ومن ثم فقد فضل فيودور ميخايلوفيتش عدم الحضور، وكلف ربيبه بافل ألكسندروفيتش إيسايف بالحضور وتهنئة صاحبتي بعيد الميلاد. وقد حمل إلي هذا الخطاب وسوارا ذهبيا هو أول هدية أتلقاها من فيودور ميخايلوفيتش.»
لقد تبين لي أن دستويفسكي، إلى جانب المرض والوساوس والأوضاع الصعبة التي كانت تحيط عمله ومشقة العمل ذاته، كان يعاني أيضا من نوبات النفور من الناس. وإذا كان ثمة فتاة شابة تتطلع بأمل وحماس إلى مستقبلها، فليس هناك شك في أن صاحبة عيد الميلاد الأكبر سنا قد قضت يوم التاسع من ديسمبر 1866م في رعب وخوف على مصير ابنتها.
ما هي إلا أسابيع ثلاثة مضت حتى تلقت أنا من موسكو، حيث سافر دستويفسكي ليحصل على نقود للزفاف المرتقب، الخطاب الثاني. على مدى صفحتين يتحدث دستويفسكي ثلاث مرات تفصيلا وبتنويعات مختلفة عن آلام أسنانه التي عذبته طوال الرحلة، ثم يأتي على ذكر «مذكرات من العالم السفلي» على نحو عابر. ها هو يبدأ خطابه بوصف متذمر للرحلة نفسها: «عربات النوم فظيعة؛ رطوبة، برد، كتمة إلى حد البشاعة ...» وفي نهاية الخطاب يقدم خلاصة لحالته النفسية: «حزن، قلق، إنهاك ...» ومن جديد نجد كلمتين ثلاثا تائهة وسط هذه الشكايات والهواجس يحيي بها فتاته.
دستويفسكي يكتب الخطاب الثالث فقط إلى خطيبته بنبرة كلها حيوية وسرور. لقد كان ذلك بتأثير النجاح الكبير الذي أحرزه عند كاتكوف، الذي أعطاه المال الضروري ليدبر به أموره الشخصية.
إن النبرة التي سادها التجهم بشكل عام، والتي كتب بها العريس دستويفسكي خطاباته، لم تكن سوى مقدمة لكل مراسلاته القادمة إلى زوجته. هنا تنفتح على اتساعها صورة العذاب الأخلاقي المضني، والألم النفسي الذي لا يتوقف للمحب والمحبوب.
لكن أنا تحملت هذه التجربة الأليمة؛ استطاعت أن تصالح بين كل التناقضات التي تجمعت في مصيرهما المشترك، وأن تخفف من وطأتها، وأن تلم شتاتها. أما الشطط و، على ما يبدو، الخصال المتنافرة في شخصيتيهما فكانت قليلة. إلى جانب دستويفسكي الذي أبدع «العالم السفلي» وراسكولنيكوف آنذاك، عاشت نيتوتشكا سنيتكينا،
3
طفلة بكل معنى الكلمة في عام 1867م، مثقلا بحمل حزين ورثه عن ماض مؤلم، وعمل شاق منهك، وأفكار مجهضة وأخرى ممزقة، يصطحب معه إلى الخارج طالبة شابة، فوارة العواطف، شديدة الحساسية.
بمزيد من الخوف يربط دستويفسكي مستقبله القابل للانهيار بمصير مخلوق شاب أهل للثقة، جاهل تماما بالحياة، وغير مستعد بعد للتعامل معها. يكتب دستويفسكي من جنيف قائلا: «سافرت، ولكن هذه المرة كان الموت يخيم على قلبي. لم أكن أومن بالخارج، بمعنى أنني كنت أومن أن الأثر المعنوي للخارج سيكون غاية في السوء علي وحيدا مع مخلوق في ريعان الشباب يسعى جاهدا بفرح ساذج أن يقاسمني حياة غريبة الأطوار، وإذا بي أنظر فلا أرى في هذا الفرح الساذج سوى قدر كبير من افتقاد التجربة والاضطراب، والأمر الذي كدر من صفوي وزاد في تعذيبي «...» إنني شخص مريض، وقد أدركت سلفا أنها سوف تعاني الكثير معي.»
وفي رحلاته التالية لم يتوقف خوفه من رفيقته هذه «الطفلة ذات العشرين ربيعا، وهو أمر رائع وضروري»، ولكنه لم يجد في نفسه القوة والقدرة على الاستجابة.
كان يكتفي بتأمل هذا الحماس المتدفق، طزاجة الانطباعات، المعاناة النفسية المباشرة. «لقد اتضح أن أنا جريجوريفنا تمتلك سمات حازمة نادرة (وهو أمر محبب بالنسبة لي ومضحك). بالنسبة لها فإن الذهاب لمشاهدة دار بلدية سخيفة، على سبيل المثال، هو عمل جاد، فإذا بها تسجل وتصف، حتى إنها تملأ سبعة دفاتر بعلاماتها الاختزالية لتعود فتنقلها. أكثر من ذلك أن قاعات المعارض أخذت بلبها وشغلتها، وقد سعدت بذلك جدا؛ لأن ذلك ولد في روحها انطباعات شتى أبعدتها عن الملل.»
يخبر دستويفسكي أصدقاءه أن أنا هي «رحالة غير عادية»، وأنها وقفت أمام أبواب فينيسيا «تطلق الآهات والصيحات فقط»، وأنها وقد فقدت مروحتها في كنيسة سان مارك «راحت تبكي بحرقة!»
سرعان ما عرفت أنا الحياة الحقيقية بعيدا عن المعارض والجداريات، وفي بادن حاولت من صميم قلبها أن تدعم دستويفسكي الذي عاد يائسا بعد خسارته في القمار، وهنا راحت في حزم تجمع أشياءهما كلها لكي تخرج بأي طريقة من دوامة الولع بالقمار التي هوى فيها الكاتب، الذي كان قد أنهى لتوه كتابة روايته العبقرية «المقامر».
يقول دستويفسكي: «لقد اتضح أن أنا جريجوريفنا أقوى وأعمق مما كنت أعرفه وأظنه عنها. إنها في كثير من الأحوال وببساطة ملاكي الحارس.» وبالفعل فقد راحت تنتقل معه بنكران للذات من بلد إلى بلد، وحتى في لحظات الحزن الممض لم تتوقف، وقد فقدت طفلها الأول، عن مساعدة دستويفسكي في عمله، ناسخة ومنسقة مخطوطاته.
لم يخفف الاهتمام الكبير بالفن والأدب الرومانسي الجديد والرسم والاهتمامات والأحاسيس الطازجة الطفولية تقريبا مثقال ذرة من أثر الظروف المادية الصعبة والعمل المتوتر في إعداد مخطوطات «الأبله».
لكن أنا جريجوريفنا عادت بعد رحلة السنوات الأربع خارج روسيا شخصا مختلفا تماما، فلم تعد تلك الشابة الساذجة العديمة الحيلة التي كانت من قبل، وإنما امرأة صاحبة إرادة قوية، امرأة خبرت الحزن الممض (وفاة ابنتها البكر)، امرأة معدة إعدادا جيدا لمعركة الحياة القادمة. في هذا الوقت اكتملت شخصيتها بشكل نهائي، وتحددت مهمتها الثقافية الرفيعة.
لم تكن أنا جريجوريفنا مجرد زوجة لدستويفسكي فحسب، وإنما كانت صاحبة مآثر شخصية هامة في الثقافة الروسية. وما يزال عملها ينتظر جردا أمينا وتقييما شاملا وأمينا.
إن طبيعة أ. ج. دستويفسكايا خلقت من أجل أن تضع تصورا عريضا لعديد من الانطباعات والأحاسيس الحيوية المتنوعة. لقد تجمعت لديها، وعلى نحو متوازن، خصال متناقضة، وعلى ما يبدو أن هذه الخصال كانت في جانب منها، على ما يبدو، متنافرة. إنها ابنة جيل الستينيات التي تحسب نفسها على الجيل «الحر»، وهي في الوقت نفسه تذهب لتؤدي الطقوس الكنسية والأرثوذوكسية بكل غيرة وحماس. كانت تجمع بين العصبية الشديدة والحمية الفائقة، وبين الإرادة الصلبة والحزم الشجاع في أمور الحياة الصعبة.
لقد تواءمت بداخلها الاهتمامات العقلية المحضة جنبا إلى جنب مع الاهتمامات الفنية، فضلا عن النزعة التطبيقية والرؤية العملية التي لا يتطرق إليها الشك. ومع تميزها بشيء من الإيمان الغيبي (المعجزات والإلهام والأحلام) فإن ذلك لم يمنعها من أن تستخدم قدراتها الفائقة في تنظيم أمور حياتها العملية، وأن تحسب لكل شيء حسابه، وتقدره تقديرا دقيقا في كل تفاصيله؛ كل هذه الخصال، فضلا عن ذوق رفيع، وظفته أنا لصالح معبودها دستويفسكي لتستحق منا كل الامتنان. أما مأثرتها الكبرى التي حققتها، فينبغي أن تدفعنا للاهتمام بشخصيتها.
كانت أنا جريجوريفنا دستويفسكايا (1846-1918م) تمثل طرازا خاصا من النساء الروسيات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ المثقفات، النشطات، المخلصات على نحو خيالي لعقائدهن إلى حد الافتتان.
كثيرا ما كررت أنا في سياق مذكراتها وصفها لنفسها بأنها «ابنة الستينيات ، التي ساندت حق النساء واستقلالهن»، وأنها تمثل الجيل الليبرالي وهلم جرا. كانت تعلن ذلك عادة في كثير من الفخار، وعلينا أن نعترف أن أنا جريجوريفنا لها كل الحق في ذلك. لقد كانت بطبعها تنتمي إلى «عصر الفكر الروسي الهادر»، وظلت حتى نهاية حياتها تحتفظ بالسمات الجذابة للنشاط الذي لا يكل، والإخلاص المتحمس للفكرة الملهمة، وفي حياتها كانت تنظر إلى الأمر باعتباره واجبا، ساعية دائما إلى تحويل هذه الفكرة إلى مأثرة.
وإذا كانت نيتوتشكا سنيتكينا تحلم في شبابها بدراسة العلوم الطبيعية والطب، فقد التحقت بأول صفوف نسائية لدراسة الاختزال من أجل أن تصبح امرأة مستقلة تحمل بعض العبء عن عائلتها الصغيرة، التي كانت تمتلك بعض البيوت في بطرسبورج.
فيما بعد، وبعد أن تزوجت من دستويفسكي، وجدت رسالتها في خدمة الكاتب الكبير، الذي قاسمته مصيره. لقد مرت كل مؤلفات دستويفسكي من «المقامر» وحتى «الإخوة كارامازوف» بين يديها، وقد اتضح أن معرفة زوجة الكاتب بالاختزال سهلت كثيرا من عمل دستويفسكي الفني، وغيرت من أساليبه ونظمه.
ما إن توفي دستويفسكي حتى راحت أنا جريجوريفنا في العمل على نشر أفكاره «السامية النبيلة»، وراحت تصدر بجهد نادر الطبعة تلو الأخرى من أعماله الكاملة، وفي نفس الوقت أسست في سفاريا روسا تحمل اسم دستويفسكي، كما أنشأت قسما خاصا تابعا لمتحف التاريخ في موسكو يضم مقتنيات الكاتب، وعددا هائلا من مخطوطاته ورسومه وصوره في نسخها الأصلية، وكذلك أعماله الكاملة، بالإضافة إلى كافة الأعمال النقدية التي كتبت عنه في اللغات الأوروبية والشرقية مع استثناءات قليلة. وقد شجعها تأسيس المتحف على الاضطلاع بوضع عمل بيبلوجرافيا شاملة تضم وصفا لكل ما جمعته عنه، بعبارة أخرى، قوائم كاملة لكل مؤلفاته، وكذلك كل ما كتب عنه.
إن العمل الذي نشرته أنا جريجوريفنا تحت عنوان «الدليل البيبلوجرافي للمؤلفات والأعمال الفنية الخاصة بحياة ونشاط ف. م. دستويفسكي»، ويضم ما يصل إلى 5000 مادة بيبلوجرافية أدبية روسية فريدة. ما إن أنهت أنا جريجوريفنا هذا العمل الضخم، المسئول والصعب - تأسيس التراث الأدبي دستويفسكي - حتى راحت تكمل أعوام حياتها الأخيرة والطويلة بالعمل على كتابة مذكراتها التي لا يستغني عنها أي كاتب يهتم بشخصية ومصير مبدع الرواية الفلسفية الروسية.
اشتهرت أنا جريجوريفنا، حتى إبان حياتها، أنها سيدة عملية واسعة الحيلة، وأنها كانت تصل أحيانا في هذا الصدد إلى أقصى الحدود. لقد كانت أنا جريجوريفنا في مجال النشر المعقد مثالا للمرأة العصامية التي علمت نفسها بنفسها حتى وصلت في هذه الحرفة إلى نتائج باهرة، حتى إن آخرين لا تعرفهم على الإطلاق جاءوا ليتعلموا على يديها هذا العمل؛ مثال ذلك الكونتيسة صوفيا تولستايا (زوجة ليف تولستوي). تقول ابنتها لوبوف فيودوروفنا دستويفسكايا في مذكراتها التي نشرت منذ زمن غير بعيد: «كان دستويفسكي مندهشا بهذه السهولة التي تجمع بها أمي الأرقام الكبيرة، وأن تجيد لغة العقود الصعبة.»
لكن هذه المهارة العملية التي كانت لدى أنا جريجوريفنا أثارت حفيظة الكثير من الناس، لتلقي في النهاية على صورتها بظلال كثيفة، الأمر الذي حجب عنا المآثر الحقيقية التي اجترحتها هذه المرأة الكادحة، التي يندر أن تجد لها مثيلا، كما ساد أيضا إبان حياتها رأي مفاده أنها سيدة أعمال شحيحة، بل إن بعض الصحف نشرت حكايات تهجو فيها زوجة الكاتب الشهير الذي عاش ومات في فقر مدقع، ليترك لأرملته تراثا أدبيا استطاعت هي أن تحوله إلى ثروة ضخمة.
وحتى اليوم ينظر إلى أ. ج. دستويفسكايا باعتبارها سيدة أعمال مقترة، خبيرة في الحسابات، تجيد جمع المال بهمة ونشاط. وإذا كانت هذه الخصال لها أساس من الصحة، فهي في كافة الأحوال لا تعيبها ولا تنتقص من قيمة الجهد الذي بذلته هذه الصديقة الأخيرة لدستويفسكي.
لقد كانت أنا جريجوريفنا المرأة العملية التي تجيد التعامل مع المال، على النقيض تماما في هذا المجال، بطبيعة الحال، من فيودور ميخايلوفيتش الذي كان يتعامل مع المال بسذاجة طفولية. على أن هذا التناقض بين طبيعتيهما قد سار، بما لا يدع مجالا للشك، لصالح حياتهما المشتركة، فإذا كان بإمكان دستويفسكي أن يوقع، كما تشهد بذلك أنا جريجوريفنا، على كمبيالات وهمية بمبالغ ضخمة، دون أن يتجاسر على سؤال الطالب عن صحة الأمر، بينما يقوم رجل الأعمال الحاذق باستغلال ثقة وافتقاد دستويفسكي للخبرة العملية، فإن أنا جريجوريفنا كانت تقيه شر هذه الصفقات، فضلا عن أنها كانت تدخل في صراع ضار مع الدائنين، وهو صراع نجحت في إدارته بمهارة وحيوية، وحققت فيه انتصارا كبيرا. وهو ما يؤكده جزء كبير من مذكراتها لخصت فيه «الصراع مع الدائنين»؛ هذا الصراع الصعب، الشاق والمضني، الذي كشف عن طاقة نادرة وفطنة، وحتى عن شجاعة لدى زوجة الكاتب.
كل ذلك يتضمن بالطبع أهمية عملية، ولكن هيهات أن يكون سببا لإلقاء اللوم على أنا جريجوريفنا.
إننا إذا ما تذكرنا أن هذا الجانب العملي لدى أنا جريجوريفنا قد وفر الهدوء والسكينة لدستويفسكي، بل وأبعد عنه الهموم الصعبة وأنقذ إبداعه، أفليس من غير المنطقي ولا من اللائق أن نلقي باللوم على زوجه لأنها امرأة عملية مفرطة في دقة حساباتها. لنتذكر أنه على مدى أربعة عشر عاما من زواج دستويفسكي صدرت سبعة مجلدات من أعماله الكاملة (أي ما يزيد على نصف ما كتبه على مدى حياته كلها). هنا يصبح من المستحيل ألا نعبر عن احترامنا وتقديرنا لهذه المرأة العملية أنا جريجوريفنا، حتى لو اقتصر الأمر على مجرد إنقاذ ولو بضعة فصول من «الإخوة كارامازوف» أو«الشياطين» نتيجة لعملها الحصيف وحسن تدبيرها. في ظروف أخرى ما كان لهذه الأعمال أن ترى النور إطلاقا لولا هذا التنظيم الذي فرضته أنا جريجوريفنا على أسلوب الحياة اليومية لزوجها.
نعم، كانت أنا جريجوريفنا تعمل، بطبيعة الحال، بكل إصرار وعزم. كانت تدير دفاتر حساباتها، تشتري الورق، تلاحق المطابع، تدخل في جدل مع الدائنين، تدخل في مفاوضات مع الناشرين وبائعي الكتب، تكتب إبداعات زوجها بطريقة الاختزال، ثم تعيد كتابتها باللغة العادية، تعلن عن فتح باب الاشتراكات، تصنع الميزانيات؛ لتصبح بذلك هي الناشر والبائع والمحاسب والكاتب أثناء العمل الإبداعي لزوجها.
قد يبدو ذلك مضحكا وقبيحا، لكن الأمر في الواقع يمس شغاف القلوب بقوة وعمق، مثل أي مأثرة يومية تمر دون أن تترك أثرا، ودون أن يلحظها أحد . يرد إلى خاطري دون إرادة مني هذا البهلوان في قصة «أناتول فرانس» الذي قدم للعذراء القربان الوحيد الذي يجيده؛ قفزاته، ألعابه، حيله الأكروباتية. وعندما صاح القساوسة، غلاظ القلوب فيه، معتبرين أنه يمارس التجديف في الكنيسة، إذا بتمثال العذراء يقوم عن قاعدته لتمسح العذراء بطرف ثوبها جبهة هذا البهلوان الذي نال منه التعب.
هذا ما فعلته أنا جريجوريفنا؛ قدمت ما تعرفه وتجيده في معبد الفكر. لم تغير طبعها؛ عملت، نظمت أعمال زوجها، خدمت الإبداع الروحي العظيم الذي كان متوقدا بداخله. نعبر عن شكرنا لها على ما بذلته، ولسوف يخلد بكل امتنان اسمها في سجل ثقافتنا الروحية.
4
دستويفسكي المعتقل 1859م.
أشهر بورتريه دستويفسكي، للفنان بيروف. وقد عايش الكاتب أسبوعين أقامهما معه في بيته، وفي لحظة محددة قال له: «أنت الآن دستويفسكي، حيث في هذه اللحظة تطابق داخلك مع مظهرك. وأجلسه ليرسمه 1872م.
عام 1861م.
دستويفسكي عام 1861م.
عام 1878م.
عام 1880م قبل وفاته بعام واحد.
بورتريهات دستويفسكي لرسامين مختلفين.
أنا جريجوريفنا دستويفسكايا (1878م).
أفدوتيا بانايفا (أربعينيات القرن التاسع عشر).
أنا جريجوريفنا دستويفسكايا (1871م).
صوفيا كورفيني كروكوفسكايا؛ أول عالمة رياضيات في روسيا.
شقيقة سوسلوفا؛ أول طبيبة روسية.
المنزل الذي عاش فيه دستويفسكي مع زوجته الأولى.
آخر بيت أقام فيه دستويفسكي، ومكتبه، والكنبة التي مات عليها.
أنا في البيت بعد أن حولته إلى متحف.
دستويفسكي ميتا 29 يناير 1881م.
ناپیژندل شوی مخ