نیل په فرعونیانو او عربانو کې
النيل في عهد الفراعنة والعرب
ژانرونه
مقدمة
منابع النيل حسب عقيدة قدماء المصريين وتقاليدهم
خطاب أحد رؤساء كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني بشأن منابع النيل
بحث العالم القديم والحديث في منابع النيل
رأي العرب في منابع النيل
أسماء النيل من النصوص المصرية القديمة
سيحور
فيضان النيل وأسبابه عند قدماء المصريين
التنبؤات المصرية القديمة الخاصة بالنيل
أعمال ملوك الأسرة 12 في النيل
ناپیژندل شوی مخ
زيادة النيل ونقصانه وأطواره في عهد العرب1
نتائج زيادة النيل ونقصانه في عهد العرب
مصبات النيل: حسب عقيدة القدماء
مقاييس النيل في عهد الفراعنة
ذكر مقاييس النيل وزيادته في عهد العرب
المقياس بناء على تحقيقات مهندسي العصر الحالي
الضرائب المصرية القديمة
المكوس المصرية القديمة على المراكب
أموال خراج أراضي مصر في عهد العرب
خراج مصر في الإسلام
ناپیژندل شوی مخ
رأي العلماء في بحيرة مريس
أعياد النيل عند قدماء المصريين
في العصور الوسطى
في العصور الحديثة
رسوم النيل في الآثار المصرية
أنشودة النيل لقدماء المصريين
الشعر العربي في مدح النيل
عبادة النيل
آلهة الأنهر - ثالوث بيلاق - العجل أبيس وسيرابيس - قصص خرافية عن النيل - ما أشيع عن النيل
ذكر شيء من فضائل النيل
ناپیژندل شوی مخ
مقدمة
منابع النيل حسب عقيدة قدماء المصريين وتقاليدهم
خطاب أحد رؤساء كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني بشأن منابع النيل
بحث العالم القديم والحديث في منابع النيل
رأي العرب في منابع النيل
أسماء النيل من النصوص المصرية القديمة
سيحور
فيضان النيل وأسبابه عند قدماء المصريين
التنبؤات المصرية القديمة الخاصة بالنيل
أعمال ملوك الأسرة 12 في النيل
ناپیژندل شوی مخ
زيادة النيل ونقصانه وأطواره في عهد العرب1
نتائج زيادة النيل ونقصانه في عهد العرب
مصبات النيل: حسب عقيدة القدماء
مقاييس النيل في عهد الفراعنة
ذكر مقاييس النيل وزيادته في عهد العرب
المقياس بناء على تحقيقات مهندسي العصر الحالي
الضرائب المصرية القديمة
المكوس المصرية القديمة على المراكب
أموال خراج أراضي مصر في عهد العرب
خراج مصر في الإسلام
ناپیژندل شوی مخ
رأي العلماء في بحيرة مريس
أعياد النيل عند قدماء المصريين
في العصور الوسطى
في العصور الحديثة
رسوم النيل في الآثار المصرية
أنشودة النيل لقدماء المصريين
الشعر العربي في مدح النيل
عبادة النيل
آلهة الأنهر - ثالوث بيلاق - العجل أبيس وسيرابيس - قصص خرافية عن النيل - ما أشيع عن النيل
ذكر شيء من فضائل النيل
ناپیژندل شوی مخ
النيل في عهد الفراعنة والعرب
النيل في عهد الفراعنة والعرب
تأليف
أنطوان زكري
حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول: «أول ملك جلس على عرش مصر بعد دول الفراعنة المرسومة صور عظمائهم حول رسمه الكريم.»
مقدمة
على غير ما اعتاده بعض الكتاب من اتخاذهم عادة في ما يؤلفون ويكتبون وضع مقدمات كبيان للفن الذي يشتغلون به، أو المواضع التي يوفقون للإجادة في مباحثها تشويقا للقراء، وتنبيها عن أهمية ما يتصدرون للإطناب فيه، بما أوتوا من براعة واقتدار؛ حتى يكون المطلع على اشتياق لما تزفه الأقلام للأفهام.
قد رأيت في هذا المؤلف اجتناب الإطالة في التمهيدات والمقدمات اكتفاء بأن الموضوع المقصود بالبحث والبيان هو النيل، والنيل ذو أهمية بذاته لا تحتاج معالجة لإثارة الأشواق واستفزاز الفطن؛ لأن النيل ومزاياه وتوقف حياة البلاد عليه تكاد أن تكون في حكم المعلومات الفطرية، التي تنبعث الأذهان بطبيعتها إلى حب الاطلاع على كل ما يتعلق به من المباحث التاريخية، والمعلومات الفنية التي جادت بها القرائح في قرون ماضية، لا زلنا نقتفي آثارها في الارتشاف من مناهلها، والحرص على الاستفادة من كل جديد مفيد.
النيل في عصر الفراعنة، وفي عصور الفتوحات الاستعمارية، إلى عصر الفتح الإسلامي وما يليه، أخذ عناية دائمة بالمحافظة على فوائده من كل دولة كان لها حق السيطرة على هذه البلاد.
لهذا تحتم عندي التلخيص بأقصى مستطاع لكل المعلومات الزمنية للنيل وتطوراته في كل هذه العصور، اعترافا للرجال المصلحين في كل أمة بالفضل الذي بذلوه لفائدة العمران في المحافظة على مياهه، وانتفاع بلاده ببركات فيضه.
ناپیژندل شوی مخ
فلنا المعذرة إذا قصرنا بحثنا على أدق ما يهم الاطلاع عليه، خصوصا فيما يتعلق بالمناطق الشهيرة التي نرى في الإلماع إليها أتم كفاية لمن يهمه أمثال مباحثها العمرانية والتاريخية.
فلهذه الأسباب يكون اقتناء كتابي هذا، والتكرم بالاطلاع عليه كتشجيع أدبي لكل قارئ فيه حظ الارتياح وامتنان الثناء؛ لأن كل فرد من سائر الطبقات المصرية يشتاق لتبادل وتعميم هذه المباحث العمومية، بقدر الارتباط العام لكل فرد ممن أقلته أرض مصر ببركات النيل وفيوضاته.
منابع النيل حسب عقيدة قدماء المصريين وتقاليدهم
قليل من المصريين من يشاهد عليه الاعتناء بالنيل ومعرفة تطوراته، بحسب النظامات الحكومية التي طرأت عليه لمناسبات تحسين الري، وحسن التصريف في كميات الفيضان، وقل أن تجد حتى عند ذوي الاطلاع معلومات تدل على اهتمام القوم بهذا النهر، الذي هو مصدر الثروة وينبوع الحياة، بل إن أغلب الأمة المصرية لا تذكر شيئا عن النيل إلا في أوان التحاريق، بمناسبة التشديدات التي تتخذها مصلحة الري في وضع المناوبات، واحتياجهم إلى تلقي الأخبار المنبئة عن بدء الفيضان، وهذا هو منتهى اهتمام الزراع وأرباب الأطيان الواسعة، وأما أغلبية الطبقات من الأمة حتى المشتغلين بالعلوم العامة في المدارس بأنواعها وطبقات الصناع والتجار، فلا يحسبون للنيل حسابا ولا يعتنون بشيء من أخباره إلا في مقتضيات محدودة من الزمن، مثل حفلة وفاء النيل وباقي الأعياد المتداخلة في أشهر الفيضان عند بعض الطوائف، فإذا انقضت هذه المدة أغفلوا ذكر النيل جانبا، كأنهم ليسوا من سكان واديه، أو من القاطنين في أراضيه التي كرمها الله بالخصب والرغد، وجعله لها مصدر السعادة ومهاد الثروة.
أفرد كثير من المؤرخين النيل بمباحث مطولة عن البعثات التي كلفت باكتشاف ينابيعه وطرق سريانه في الأودية، ووسائل الانتفاع به وما تحويه مسالكه من المعادن والأتربة ذات الخواص، وهذا المبحث مفيد من الوجهة العلمية، التي تقبل المزيد من الوضوح، كلما تقدم العقل العرفاني في ارتقائه ووصوله إلى حقائق لم تكن معلومة من ذي قبل، وغرضنا في هذا الكتاب البحث الآن عما كان للنيل من المزايا الخاصة، المترتبة على عقائد وتقاليد تداولها قدماء المصريين حسب اعتقادهم، فمن ذلك ما قاله هيردوت: «إنما مصر هدية من هدايا النيل.» وكلمته هذه الصغيرة تشمل وادي النيل بأسره؛ لأن النيل كشريان الحياة، بفيضاناته الدورية التي يعبر عنها في أقاليم الصعيد بلفظة «دميرة ».
والبداهة ترشدنا إلى أن مجرى النيل وما يحيط بشواطئه كلها جزء اغتصبته سطوة النيل من مجموعة الأقاليم، واختص هذا الجزء المغتصب بالمقتضيات الطبيعية من الخصوبة، فجاد بحسن الإنبات وامتاز بالموقع الثمين، وأحاسن المجهودات الإنسانية التي ابتدع الأهالي طرائقها ووسائلها في تقسيم المناطق إلى بلدان وحيضان وحدائق، واتخذوا لكل موقع ما يناسبه من الاحتياطات الزراعية، ولم يشيدوا المباني في البلاد إلا بأماكن محدودة من أطرافها؛ لتكون مناطق المزارع خالية من عوائق التقسيم والترتيب وحرية الانتفاع، وليكون أهل كل قرية عونا لبعضهم في حقوق الجوار والارتفاق وصد الطوارئ، جريا على عادة المجاملات التي كانت راسخة في أخلاق المصريين قبل أن يتغلب عليها التقليد الأجنبي الحاضر، الذي أفقد النفوس كثيرا من مزايا التعاون والمحبة والإخلاص.
وكان قدماء المصريين يجعلون للنيل احتراما اعتقاديا؛ لكونه السبب الفعال في صيانة أرواحهم من مهالك القحط والجدب، وانتشار الفاقة واستحكام الضيق؛ إذ كان عوام الناس وخاصتهم مقبلين على الزراعة والاعتناء بها أكثر من كل شيء، ولم يكن الاعتناء بالصناعات والأحوال الأخرى الأدبية إلا في بعض المدائن التي كانت تقوم بالحاجة الكافية لمجموع الأهالي، وبهذا كانت التجارب على جانب من الرواج، وأولو البراعة في العلوم كانوا على منتهى درجات الاحترام والتوقير، اعترافا بفضلهم وتشجيعا لذوي الاستطاعة، على أن يحذو النجباء حذوهم في فضلهم ومعارفهم، وكانوا يقدمون للنيل بعض اعتبارات كالعبادة ويسمونه «حعبي»؛ أي الإله المقدس.
وعدم إلمام المصريين القدماء بمعلومات عن منابع النيل كان شأنا عاما، ولا يعدونه تقصيرا في الوجهة العلمية، وقد لاحظ ذلك المؤرخ الشهير هيردوت الذي قدم لمصر قاصدا البحث وجمع الاستدلالات في هذا الشأن، حتى قال: «لم يعرفني أحد شيئا من منابع النيل.» وأيدت رأيه أنشودة النيل القديمة التي كانوا يترنمون بها في المواسم والأعياد، ويعترفون فيها «بأن النيل آت من الظلمات.»
وذكر في كتاب الموتى: «أن النيل مولود من رع»؛ أي الشمس التي هي أكبر الآلهة عند المصريين القدماء، ويقرب من هذا المعنى أنه وجد مكتوبا في ورقة بردية، «من ضمن أوراق كتب التحنيط »، نص بالمعنى الآتي، «في بطاقة عند مقبرة أحد الموتى»: «إنك أيها الراحل في لحد الخلود، سيفيض عليك النيل في مضجعك الأخير أثرا من بركاته؛ لأن ماءه آت من مدينة أبو «أي جزيرة أسوان»، وهذا النيل ينفجر من هوته، هذا «نو» الخارج من ينبوع صخري، كأن الفيضان يفور من خزانته والمياه تتدفق من ينبوعها.»
وقد قال المؤرخ هيردوت أن أمين معبد الآلهة «نيت» بمدينة سايس أخبره بأن بين مدينة «سين» بطيبة ومدينة جزيرة أسوان جبلين؛ أولهما يدعى باللغة المصرية القديمة «كروفي»؛ أي هوته، والثاني «موفي»؛ أي مياهه، وبين هذين الجبلين تتفجر منابع النيل من هوة عظيمة، وينصب الماء منها طبقا لطبيعة الحواجز الصخرية هناك إلى شطرين؛ أحدهما إلى مصر في الشمال والآخر إلى إثيوبيا في الجنوب.
ناپیژندل شوی مخ
وقد اجتهد هيردوت لما أتى مصر بمباحثه العلمية من الوجهة الجغرافية، وعالج كثيرا من طبقات الكهنة، فلم يبوحوا له بشيء من معلوماتهم، إلا فيما يتعلق بعظمته المشهورة ومكانته الراسخة في النفوس، كمعبود يؤدون له فرائض العبادة والإجلال ما استطاعوا، وخصوصا في الأوقات التي حددوها لذلك عند بدئه في الزيادة، وبلوغه منتهى الفيضان، ومبادئ تصريفه في الأقاليم، ورتبوا على ذلك الأعياد والمواسم الشهيرة، التي لا زالت تراعى في الاحتفالات والمظاهر السنوية ترحيبا بوفائه، وشكرا لما يغدقه على الأرض من نعيم الخصوبة والرغد.
وقد اكتشفوا في معبد بيلاق الذي شيده الإمبراطور «تراجان»، واحتفظ عليه خلفاؤه من بعده رسما يمثل لنا الإله حعبي «النيل» في مخبئه، وتفسير هذا الرمز أنه يوجد فوق صخور مرتفعة عليها رسما الصقر والباشق، وفي حجرة يرى بداخلها هيكل إلهي لإله راكع، حاملا في يديه آنية تخرج منها فيوضات النيل المباركة، ويجد الرائي مرسوما على رأس الحجرة حية ملتفة على نفسها، وبين رأسها وذنبها منفذ ضيق لمرور النيل، وهذا الرسم فسره كاهن مدينة سايس للمؤرخ هيردوت بأنه منتهى معلوماتهم عن منابع النيل، فهو فيض من عند الله لم تصل استطاعة أمثالهم لاكتشاف أوائله غير ما هو مشاهد للزائرين في أطراف وادي النيل ، ويقصد الكهنة بذلك وقوف الأمة عند هذه النقطة، وعدم التطلع إلى مباحث أخرى.
وكان علماء المصريين مع كثرة الرموز العلمية وسعة المعلومات المحفوظة في الصدور، والمرموز إليها في بعض المخلدات الأثرية، لا يسمحون لمعاصريهم ولا لزائريهم من فجاج الممالك بالتوسع في مباحث عن ينابيع النيل وأوائل مصدر فيضه؛ لأنهم يعتقدون سعة البحث في ذلك ممنوعة دينيا، وتعرض المشتغلين بها لحلول النقمات التي تنذر بها الكتب المقدسة كل من يسعى إلى عمل يؤدي إلى كفر أو ضلال، وكانوا يعتقدون أن النيل فيض من البركات الإلهية، يتنزل من السموات العلا إلى عالم الأرض، فيكون منها الرغد والسخاء وصلاحية الأرض لكل نبات يحتاجه الإنسان في أدواره المعاشية، ولهذا كانوا يسمونه أبا الآلهة «أتف نترو»، ولم يلتفت قدماء الباحثين من المصريين إلى أسباب الزيادة في النيل في أزمنة الفيضان؛ لاعتقادهم أنه قدسي في تكوينه، وفي تأثيره وفيما تبصر الخلائق عنه؛ لأنه سر من فيض البركات الإلهية، اختص الله بها هذا الوادي السعيد، وجعله إلى الأبد مصدر الرفاهية والسعة والإغداق بأنواع الأرزاق التي تفي باحتياجات قاطنيه، وبسد العوز لكل الطبقات التي تأوي إليه، ويجدون فيه ومن سجايا أهله حرما آمنا.
وقد اجتهد علماء المباحث المصرية عن النيل وينابيعه ومصادره العليا، مثل هيردوت وسترابون وديودور الصقلي، وعلماء الرومان كالمؤرخ بلين وسنيك وغيرهم من الفلاسفة، فلم يستطيعوا سوى الوقوف عند ما ألقاه إليهم الكهنة عن عظمة النيل، وإن عجائبه ترجع إلى قدسية مصدره الإلهي، فاضطروا للإذعان خاضعين لعقائد وتقاليد قدماء المصريين في شأنه، ولم يتجاوزوا في مباحثه إلى ما وراء الشلالات، وإلى ذلك أشار هيردوت بقوله: «إن النيل يعرف مبدؤه بعد سفر أربعة أشهر، سواء كان ذلك برا أو بحرا، وهي المدة التي كان يستغرقها المسافر في وصوله إلى جزيرة أسوان.»
واستمر الناس على الاعتقاد بأن ينابيع النيل مما يعسر على الباحثين حل غوامضه إلى عصر الرومان، فأرسل نيرون بعثة رسمية لاكتشاف هذه المنابع، فوصلت بعد مستنقعات واسعة إلى صخرين تجري فيهما المياه فظنوهما المنابع الأولى للنيل ، وعادوا يتوهمون لأنفسهم الظفر بما لم يستطع غيرهم الوصول إليه.
وقال بلين: «إن منبع النيل آت من موريتاني
Mauritanie
الواقع شمال أفريقيا.» وقال سنيك: «إن منبعه يبتدئ في ضواحي مدينة بيلاق.» وقال المؤرخ لوكين: «إن منبع النيل الحقيقي لم يعرفه أحد في العالم.» ووافقه على ذلك المؤرخ أميان مرسليان، أحد علماء القرن السابع للمسيح، وإن منتهى ما وصلت إليه الاجتهادات وتجوال البعثات في رحلاتها أن منابعه آتية من بحيرات أفريقيا الوسطى، وكان قدماء الباحثين يضربون الأمثال بمعرفة منابع النيل في استحالة الوصول إلى غرض يرضي ويقنع الباحثين.
وقال المقريزي في وصف مصر: «إن النيل يظهر على الأرض بقرب وادي القمر، الواقع بقرب الاستواء.» وقال جرانفيل: «إن النيل فردوس أرضي.» ولا تزال هذه العقيدة عند قدماء النوبيين رغما عن توالي السنين وظهور الاكتشافات العلمية التي تحتم بمقتضاها أن يتحول الناس عن عقائدهم الأولى التي توارثوها في أجيال ماضية.
خطاب أحد رؤساء كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني بشأن منابع النيل
ناپیژندل شوی مخ
من المعلوم أن حقوق الاستعمار تحتم على القائمين به البحث في الأقاليم التي يحتلونها عن منابع ثروتها، ومصادر رغدها، وأساليب مجدها؛ ليتخذوا لهم في هذه المصادر سطوة فعالة؛ لتخضع النفوس إلى إرادتهم بدون أن يتجشموا في هذا الإخضاع معاناة شاقة؛ لأن الاستعانة بما يعد من ضروريات الطبيعة في ترويج الاستعمار من ضروب السياسة، التي يتفنن فيها مهرتهم لاجتذاب الشعوب وتسخيرهم، وعلى هذا المبدأ افتكر الرومان أن يتخذوا أساليب الاستعمار المعتادة مع الكهنة البارعين في عصر قدماء المصريين، وابتدءوا يخابرونهم عن مصادر النيل وينابيعه؛ ليستدرجوهم بعد ذلك إلى صيرورتهم في قبضتهم، وليبوحوا لهم بطرق الدهاء وأساليب السياسة عما استأثروا به علما؛ حتى يتوصلوا بذلك إلى السلطة الفعلية في هيمنة الأعمال وتسخير الظروف إلى ما يشاءون.
وقد جاء في أنشودة النيل ما يشير إلى أنه بطبيعته فيض سماوي، يحيي به الله الأرض بعد موتها، وأن ارتسام هذا المعنى في خيالات الكهنة مكنهم من اختراع الروايات والأقاصيص؛ ليحفظوا لأنفسهم مركز الاختصاص بالمعلومات الدقيقة، وليخلدوا لهيمنتهم على الشعب صفة أدبية أبدية.
وقد روى الكهنة للمؤرخ اليوناني هيردوت في القرن الخامس ق.م وليوليوس قيصر الروماني في القرن الأول ق.م أقاصيص نظمها الشاعر الروماني ليكين
Lucain
باللاتينية، وسردها بأسلوب خطاب بعثه رئيس كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني، بشأن هذه الينابيع، ويحق لي التنويه بأني أول من وفق إلى ترجمته إلى اللغة العربية، وإليك فحواه بالاختصار:
أخطأ الأقدمون في تعبيرهم بأن النيل يزداد فيضانه عقب ذوبان الثلوج في جبال إثيوبيا؛ لأن سكان تلك الجهة من حرارة الشمس تبدو جلودهم سمراء، كما أخطأ الزاعمون بأن منابع الأنهار المتكونة من ثلوج يذيبها الحر وتزداد في أوائل فصل الخريف؛ لأن النيل لا تبتدئ زيادته قبل أن ترسل نجمة الشعرى اليمانية أشعتها إلى الأفق، وقبل أن يتساوى في ميزان الأفلاك زمن الليل والنهار.
فنواميس النيل ليست كنواميس بقية الأنهر، ولم يزدد فيضانه في الشتاء، فبعد ابتعاد الشمس عن درجات المقارنة الأفقية لها في فصل الصيف تتدفق المياه بنسبة تعويضه عن ذلك، وقد اختص النيل بلطافة حالة الجو، فهو يفيض في منتصف الصيف حينما تكون منطقة الأرض الحارة مانعة عن الحيلولة بتأثير القيظ، فيأتي النيل مساعدا للعالم في أرجاء واديه، وقد يتجه أمام وجه برج الأسد المتأجج بالحرارة، ويبادر بلدة سيين
Syéne
المحترقة ببروج السرطان، فلا ترتفع مياهه قبل نزول الشمس في الخريف، ويتسع الظل في بلدة مروى
Méroé ، «وهي بقرب شندى عاصمة المملكة المصرية بالسودان»، فلن يستطاع بيان السبب لسعة وأدوار فيضك أيها النيل؛ لأن القدرة الإلهية هي التي نظمته بقدر حاجة العالم إليك.
ناپیژندل شوی مخ
وأخطأ القدماء أيضا في نسبتهم زيادة الفيضان إلى هبوب الرياح في وقت طويل، تكون الأمطار فيه مجبورة على أن تجود بقطراتها على هذا النهر، وتدفعه بلا انقطاع إلى المنافذ الكبيرة التي تسيل على شواطئ البحر الأحمر، ولوجود حواجز أمامه تعوق سرعة انحداره، ويتدفق في الجداول والجهات التي تستفيد مزارعها وحقولها لوصول فيوضاته إليها.
ومن الخطأ أيضا التصديق بأقوال من زعموا أن فيض النيل ناتج عن قنوات مارة تحت الأرض ، أو ثقوب مفتحة الأفواه في حفر واسعة تنحدر إليها المياه في مسافات عميقة آتية من الجهات الباردة في الدب الأكبر، وسط قطب الدنيا، وإن حرارة الشمس لما تضعف عند بلدة مروى تجلب مياهها وتجذب النهرين الكانج والألب بمسالك خفية يقذف عندها النيل تدفقاته إلى هذه الأنهار في منبع واحد، ولكنها لا تستطيع السريان في هوته فيدمج الأرض حين يغمرها، وينتزع من بعض طبقاتها الأملاح الكامنة في طول مجراه.
وظن البعض أن الشمس والهواء يجتذبان الماء من المحيط، ولما تصل الشمس إلى المنطقة الحارة أمام برج السرطان ينشق المحيط، ويأخذ مياها أكثر من الجو، وهذه الزيادة تنقلها الأعاصير إلى النيل.
وأرجوك أيها القيصر أن تسمح لي بأن أشرح لك تحليلات هذه المسألة العويصة فأقول:
إن مياه النيل منذ بدء الخليقة تتسرب من عروق في الأرض، أوجدها الله لتكون مجراه الطبيعي، تسيره القدرة الإلهية بأنظمة وقوانين فوق مقدورات أمثالنا وأمثالكم، أتريد يا روماني معرفة منابع النيل، وقد اهتم قبلك بالبحث في موضوعها الملوك المصريون الجبابرة والعجم والمقدونيون منذ أجيال، ولم يتغلبوا على قوة الطبيعة في شيء؟ وأراد إسكندر ذو القرنين أكبر ملوك الأرض في عهده، والمعبود الأعلى في مدينة ممفيس معرفة منابع النيل، فأرسل بعثة في أواخر إثيوبيا، وهناك عاقتها حرارة الجو الملتهب، وذهب سيزوستريس إلى الغرب وإلى أقاصي الدنيا تجر الملوك عربته، وكان في استطاعته أن يشرب من منابع أنهاركم «كالرون والبو»، فإن ذلك أسهل عليه من أن يشرب من منابع النيل، ووصل كمبير الأحمق إلى الشرق بين الذين يعمرون طويلا، ولما غابت عنه المئونة ذبح رجاله والتهمهم بدون أن يعرف منابع النيل، ولم يستطع أحد في القصص والروايات الوصول إلى مقر منبعه، ولم تدخر الأمم وسعا في السعي إلى اكتشاف منابع النيل، وإني أدرك حكمة الآلهة الذين أرادوا صيانة مجراك أيها النيل، من أن يستطيع أحد الوصول إلى منتهاك البعيد المدى، فإنك تقوم وسط قطب العالم ناصبا شواطئك أمام برج السرطان المضطرب، فتسري إلى الجهات، وتراك فيها الشعوب القاصية والدانية ، وتبحث القاصية عن منبعك ثم تعود مقهورة إلى حقول إثيوبيا المرتوية من مياهك الغربية ويجهل العالم منبعك.
وقد أعطيت وحدك أيها النيل حق الامتياز لتسير من قطب لآخر، يبحث الناس في بداية مجراك ونهايتك، تتسع مياهك ثم تضيق لتحيط مروى، وسكانها قوم سود الوجوه يفتخرون بغاباتهم المملوءة بخشب الأبنوس الكثيرة الأوراق، ولا يوجد هناك ظل يخفف حدة الحر ما دام برج الأسد يرسل حرارته على خط مستو على وجه الأرض، فتمر في منطقة الشمس بدون أن تضيع شيئا من مائك، تدعو قريبا تحت طبقتك مياهك المقسمة إلى حدود قبائل العرب وأراضي ببلاق «فيلا» التي هي منتهى حدود مملكتك المصرية، وعند ميلك تخطط الصحراء بممر التجارة بين البحر الأحمر وجبال ليبيا.
أرتنا لجج النيل عندما تحتد، فيلاقي مجراها في مسيره عراقيل وشلالات سريعة تعترضها بعض الصخور في الصحراء، ولكن لم يوقف مياهك شيء، فحينئذ تلقي الزبد حتى الكواكب، وكل شيء يخشى اضطراب أمواجك، ويتذمر الجبل تحت بياضها احتراما؛ لأنك النهر الذي لا يقهر، وبعد ذلك تظهر الأرض المقدسة والصحراء المعروفة بشرايين النيل؛ لأنها تبشر بالفيضان في أوائله عقب أن أغلقت الطبيعة أبواب المجاري بمياهك المتشردة عن دخول بلاد ليبيا بحاجر الجبال في هذا الوادي العميق، الذي فيه يجد مجراك نظامه المألوف، ويتقدم بهدو وسكينة، ويبتدئ من مدينة ممفيس التي تسلم إليك حقولها وتفتح أبواب السهول والوديان، ولا يوجد على شواطئك حواجز تعتبر حدا لفيضانك.
بحث العالم القديم والحديث في منابع النيل
فوق المزايا العلمية والصناعية التي امتازت بها مصر في قرونها الأولى، قرون العظمة والإسعاد، والتفوق الباهر على سائر الأمم، خص الله هذا الإقليم بالنيل المبارك، وهو أكبر المنن الإلهية التي جعلت كافة مواهب البشر أمامها لا تكاد أن تكون شيئا مذكورا، فالنيل هو ينبوع الحياة ومهد الارتقاء ووسيلة الحياة الخالدة، ورغد العيش المزيد، فكلما أمعن الباحثون فكرتهم فيما تقله أرض مصر من العجائب الصناعية، والهياكل والآثار والمباني التي قاومت العصور ظاهرة فوق بعض المواطن، وتحت بطون الأرض في غيرها، يرتد إليهم طرف مجهوداتهم الفكرية حائرا ذاهلا، كلما رأى النيل يتماوج بأعاجيب المناظر ويتدفق في مجاريه بأوفر الخيرات على بلاد أسعدتها الطبيعة بأن يفيض عليها من كنوزه وخيراته ما جعلها تمتاز بسعة الخصب وقوة النماء، وأن أهاليها كلما جدوا في الأعمال الزراعية جادت عليهم بأضعاف ما كانوا يتمنون في مبادئ أعمالهم، فينشطون على الدوام إلى التوسع في استخدامها بقدر ما تشجعهم عليه سعة الآمال، فلا تضن الأرض بما استودعت من المزايا، ولا تكل السواعد ولا الهمم عن اجتناء أطيب الثمرات، وإحراز الأرباح الوافرة، وهكذا كان المصري وبلاده في دور نشأته الأولى وسعادتها الماضية كل على صاحبه يجود بأقصى المنح، فتجدد للأراضي زيناتها النباتية، وتتنوع لأقوام الشعب موارد ثروتهم المالية.
كانت مصر بهذا الاعتبار مصدرا للمعجزات العقلية؛ لأن خصائصها الشهيرة ومميزاتها المدهشة لم تجتمع في غيرها من الأقاليم، وكفى أن منابع النيل وأدوار فيضه وتطورات انتقاصه، واستمرار مجاريه على حالة لا تعوقها الرواسب ولا كميات الرمال التي تذروها الرياح في المناطق، قد جعلت ألباب الباحثين حيارى، وطالما عاق الأقدمين الوصول إلى حل مسائله العويصة، ولكنهم وقفوا أمام أقاويل وآراء كل فريق يدلي فيها بحجته التي يؤيد بها رأيه على رأي مناظريه، وامتدت بالقوم العصور الغابرة بدون أن يصلوا في هذه النقط إلى تمحيص نهائي يرفع النقاب ويزيل الشكوك.
ناپیژندل شوی مخ
وروي في عصر فايتون الخرافي رواية أشبه إلى الخيال منها إلى الحقيقية؛ إذ قيل فيها: إن النيل كأنه لما رأى قرب الشمس من الأرض خشي من احتراقه بلهيبها، فأخفى رأسه في آخر الكرة الأرضية، وإلى القرن السابع عشر ق.م لم تصل مباحث المؤرخين إلى رأي سديد في حقيقة ومبادئ منابعه.
وقد أفرغ الفراعنة مثل سيزوستريس «رعمسيس الثاني» وغيرهم جهدا كبيرا من عنايتهم؛ للوقوف على حقيقة الينابيع فما استطاعوا، ولما قدم إلى مصر هيردوت وابتدأ مباحثه عن الينابيع لم يرشده أحد، وذكر أن بسامتيك أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين ألف بعثة مكونة من 240000 رجل، وأمدها بكل ما تحتاجه لتسهيل العقبات في مسيرها ، والوسائل الصناعية الأخرى في نقل الأحمال والمؤن، والوسائل الدفاعية إذا صادفها شيء من ذلك، وترتيب وصول المعلومات منها إليه عن الأقاليم التي تجتازها، والمناظر التي اهتدت إليها، وعجائب الأودية والقبائل، وأمدها بسعة الإغداق والمعونات الكبرى؛ لتتغلب بالبذخ والسخاء والمعدات الكثيرة على إنجاح مأموريتها، فقضت فيها بعض السنين وعادت من حيث أتت، ولم تدون غير اكتشافات جغرافية عن بعض المواقع في تلك المجاهل، ثم استحكمت هذه الفكرة لدى إسكندر المقدوني وكمبيز، ورتب كل منهم في عهده رحلة خاصة وأمدها بأساليب أقرب في الوصول إلى الغاية المطلوبة، وأسهل منالا في الاستكشافات والتوسع في المعلومات، فعادت كباقي البعثات الماضية راضية من الغنيمة بالإياب.
وفي القرن الثالث ق.م في عهد بطليموس إفرجت
Evergète
تكلم المؤرخون عن منابع النيل، فكانت آراؤهم متطابقة مع المعنى الذي أورده الشاعر الروماني في كتابه المعروف بالفرساي
Versailles ، على لسان يوليوس قيصر، أن النيل يخفي رأسه عن الأنظار كحسناء لا تبرح عن دلالها مهما أطال إليها المشوق الضراعة والاستعطاف، فالنيل يستمر في مجاريه فياضا متدفقا، بينما أفكار الباحثين تكد وتجهد وتعود بالملل والضعف.
وفي القرن الأول ق.م أبدى «جوبا» ملك «موريتانيا» رأيه عن منابع النيل، وتبعه فيه بلين وميلا والمؤرخ ديون كاسييس، وهو أن منابع النيل القاصية لتعمقها تحت الصخور والتجاويف العميقة بتلك الأودية والوهاد، لا يستطيع أفراد البعثات التي تنتدب من أجله خوض غمار تلك المياه، وفي هذه المنابع الفجوات التي تتفاوت بين الضيق والسعة، والمنعطفات الطويلة إلا إذا تطوعت بحياتها للخطر الذي لا يحتمل معه عود بعض أفرادها؛ لينبئ الباقين عما رأت عيناه ووعته ذاكرته من هذه المناظر وعجائب تكوينها.
وقال بطليموس الجغرافي، المولود في القرن الثاني ب.م: إن منابع النيل تلتقي في بحيرتين كبيرتين بأنحاء خط الاستواء، ولا يستطيع الغرباء التجول إلى ما وراءها؛ لأن الأذهان ممتلئة بالروايات المنفرة عن وجود الوحوش والحيوانات الضارية، التي تفتك بكل من أراد المسير في غاباتها أو مغاورها.
جاء العرب بعد اليونان خلفاء لهم في الاستعمار، وحكموا مصر واستولوا على بلاد النوبة وغيرها من البلاد المجاورة لمنابع النيل، وأحكموا صلاتهم التجارية والسياسية مع السودان وشعوب أفريقيا الجنوبية، واتخذوا هذه التمهيدات وسيلة لوصولهم إلى ما عجز عنه أسلافهم في تلك الأقاليم المجهولة.
ومن مشاهير العرب الأجلاء، الذين صرفوا وقتا مديدا وعزما صادقا في الوقوف على معلومات صحيحة بشأن منابع النيل، الإمام الشهير أحمد بن محمد بن عبد السلام المنوفي، نسبة إلى منوف، في نهاية القرن التاسع الهجري، وكان إماما في العلوم الإسلامية وتواريخ الأمم، احترمه كثير من العلماء وأئمة البحث وعظماء الشعوب، ونقلوا عنه في مؤلفاتهم، وكان يثبت لتلامذته أن العلم الصحيح والتقوى توأمان، فمن لم يزدد عقله بقوة الإيمان الذي هو فوق نواميس الطبيعة يكون دائما في تردد الحيرة والضلال، دون هذا المؤلف الشهير كتابا عنوانه: «الفيض الجديد في أخبار النيل السعيد»، وتوجد منه الآن نسختان خطيتان إحداهما في دار كتب مرسيليا، والثانية في دار الكتب المصرية بالقاهرة، تكلم فيه عن منابع النيل وأصله واستمداده وطوله وعرضه، وتضمن أبحاثا وافية فلخص منها ما أورده من الفوائد في الباب الأول «في فصل رأي العرب في منابع النيل».
ناپیژندل شوی مخ
ثم جاء نابليون مصر مع بعثة علمية بحثت في أحوال البلاد وأمورها، ودونت عنها مؤلفات كثيرة، ولكنها لم توفق للبحث عن منابع النيل.
وفي سنة 1819 أرسل محمد علي باشا بعثته العلمية الشهيرة، يرأسها جالياردو المهندس الفرنسي، فسافر إلى الخرطوم وقال في مذكرته: «إن منابع النيل تبتدئ من جبال القمر.»
وفي سنة 1856 توسع في الاستكشاف كل من الباحث برتون وبيك.
خريطة وادي النيل لبطليموس نقلا عن الخوارزمي.
وبيكر إلى ما خلف بحيرتي «فكتوريا والبيرنيانزا»، وتحقق أخيرا أنهما أهم المنابع التي يتكون منها النيل، وقد ساعدت الاكتشافات الأخيرة رجال أوربا على التجول في أواسط أفريقيا، واستطاعوا الوصول إلى قول عززوه ببراهين الاكتشافات والرحلات المتوالية في هذه الأقطار، وكلل النجاح سعيهم، وكانوا مصداقا للمثل القائل بأن من لازم السير في الدرب وصل إلى مرحلة النجاح، «كما سيأتي بيانه تفصيلا.»
رأي العرب في منابع النيل
وفاء بما أجملناه في هذا البحث نثبت هنا ما جاء في كتاب «الفيض الجديد في أخبار النيل السعيد»، تأليف الشيخ العالم أحمد بن محمد بن عبد السلام المنوفي، في ذكر منابع النيل، الذي هو من أكبر الثقات في المباحث العلمية.
ذكر المؤرخون في أصل منبعه من مبتداه إلى منتهاه أقوالا، فقال أكثرهم ومنهم الحافظ ابن كثير في تاريخه الكبير: إن مبتداه من الجبل القمر، «بضم القاف وسكون الميم»؛ أي البيض، ومنهم من يقول: «جبال القمر» «أي بفتح القاف»، بالإضافة إلى الكوكب، وهي غربي الأرض وراء خط الاستواء في الجانب الجنوبي، ويقال: إنها صخور تنبع من بينها عيون، ثم تجتمع من عشرة مسيلات متباعدة، ثم تجتمع كل خمسة منها في بحيرة، ثم يخرج منها أنهار ستة، ثم تجتمع كلها في بحيرة أخرى، ثم يخرج منها نهر واحد وهو النيل، فيمر على بلاد السودان بالحبشة،
1
ثم على النوبة ومدينتها العظمى دنقلة، ثم أعلى أسوان، ثم تظهر على ديار مصر، ويحمل إليها من زيادات أمطارها، ويجرف من ترابها، وهي محتاجة إليها معا؛ لأن مطرها قليل لا يكفي زروعها وأشجارها، وتربتها رمال لا تنبت شيئا حتى يجيء النيل بزياداته وطينه، فينبت فيها ما يحتاجون إليه، وهي من أحق الأرض دخولا في قوله تعالى:
ناپیژندل شوی مخ
أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ، ثم يجاوز النيل مصر قليلا، فيفترق فرقتين عند قرية على شاطئيه يقال لها: شطنوف، وهي من عمل القليوبية، فيمر الغربي منه على رشيد ويصب في البحر الملح، وأما الشرقي فيفترق أيضا عند جوجر فرقتين، يمر الغربي منهما على دمياط من غربيها، ويصب في البحر الملح، والشرقي منهما يمر على أشمون طناح فيصب هناك في بحيرة شرقي دمياط يقال لها بحيرة تنيس وبحيرة دمياط،
2
وهذا بعد بعد عظيم من ابتدائه إلى انتهائه؛ ولهذا كان ألطف المياه.
وقال ابن القيم في كتاب الهدى: «النيل أحد أركان الجنة، أصله من وراء جبال القمر في أقصى بلاد الحبشة من أمطار تجتمع هناك وسيول يجر بعضها بعضا، فيسوقه الله تعالى إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها، فيخرج به زرعا تأكل منه الأنعام والأنام، ولما كانت الأرض التي يسوقه سبحانه إليها إبليزا صلبة، إن أمطرت مطر العادة لم ترو ولم تتهيأ للنبات، وإن أمطرت فوق العادة أضرت الناس والمساكن، وعطلت المعائش والمصالح، فأمطر سبحانه البلاد لعبيده، ثم ساق تلك الأمطار إلى هذه الأرض في نهر عظيم، وجعل سبحانه زيادته في أوقات معلومة على قدر ري البلاد وكفايتها، فإذا روى البلاد وغمرها أذن سبحانه بتناقصه وهبوطه لتتم المصلحة بالتمكن من الزرع.»
وقال قدامة: «إن منبع النيل في بلاد القمر وراء خط الاستواء من عين تجري منها عشرة أنهار، كل خمسة منها تصب في بطيحة في الإقليم الأول، ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل.»
وقال صاحب كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: «إن هذه البحيرة تسمى بحيرة كوري
3
منسوبة إلى طائفة من السودان، يسكنون حولها متوحشين، يأكلون من وقع إليهم من الناس، ومن هذه البحيرة يخرج نهر النيل، وإذا خرج النيل منها يشق بلاد كوري،
4
ثم بلاد قنة، طائفة من السودان أيضا وهم بين كانم
ناپیژندل شوی مخ
5
والنوبة، ثم يغوص في الرمال ويمر تحت الأرض مكتوما من الجنوب إلى الشمال، ثم يظهر ببلاد النوبة، فإذا بلغ مدينة دنقلة عطف من غربيها إلى المغرب، وانحدر إلى الإقليم الثاني، فيكون على شاطئيه عمائر النوبة، وفيه جزاير لهم متسعة عامرة بالمدن والقرى، ثم يشرق إلى الجنادل وإليها تنتهي مراكب النوبة انحدارا، ومراكب الصعيد الأعلى صعودا، وهناك أحجار لا تمر المراكب عليها إلا في أيام زيادة النيل، ثم يأخذ إلى الشمال فيكون على شرقيه مدينة أسوان من بلاد الصعيد الأعلى، ثم يمر بين جبلين هما مكتنفان لأعمال مصر أحدهما شرقي والآخر غربي، حتى يأتي مدينة مصر، وهي الفسطاط الذي بناه عمرو بن العاص، فيكون على شرقيه، فإذا جاوزها انقسم كما تقدم.» قلت: أي في قوله: فيفترق فرقتين عند قرية على شاطئيه يقال لها شطنوف إلى آخر ما ذكره.
قال صاحب الأقاليم السبعة : «إن النيل يخرج أصله من جبل القمر من عشرة عيون، خمسة تجتمع في بطيحة وخمسة في بطيحة؛ أي مكان منبطح من الأرض، ثم يجتمع بعد ذلك الماءان، وذكر صورة جبل القمر، وأنه مقدس وعلى رأسه شراريف «شرفات عالية».»
حكى ذلك عنه الشيخ العلامة شهاب الدين بن عماد رحمه الله تعالى في جزئه الذي جمعه في النيل، وهو جزء لطيف جدا، وحكى فيه عن المسعودي أنه قال في كتابه «مروج الذهب»: «وأصل النيل ومنبعه من تحت جبل القمر، ومبدأ ظهوره من اثني عشر عينا، وجبل القمر خلف خط الاستواء، يعني الذي يستوي فيه الليل والنهار، وأضيف إلى القمر؛ لأنه يظهر تأثيره فيه عند زيادته ونقصانه، بسبب النور والظلمة والبدو والمحاق.»
قال المسعودي: «فتنصب تلك المياه الخارجة من الاثني عشر عينا إلى بحيرتين هناك.» وهو معنى كلام صاحب الأقاليم في بطيحة.
قال: «ثم يجتمع الماء منها جاريا، فيمر برمال هناك وجبال، ثم يخترق أرض السودان مما يلي بلاد الزنج، فينبع منه خليج ينتهي إلى بحر الزنج.»
6
انتهى ما أردته منه.
وممن قال بأنه ينبع من جبال القمر السرج الكندي، كما نقله عنه ابن عماد في جزئه المذكور، فظهر بذلك أن أكثر المؤرخين على هذا القول، كما أشار إليه صاحب الأصل بقوله فيما تقدم: «ذكر غير واحد من المؤرخين.»
وقال صاحب السكردان: «وفي أصل النيل أقوال للناس، حتى ذهب بعضهم إلى أن مجراه من جبال الثلج، وهو بجبل «ق»، وأنه يخرق البحر الأخضر
ناپیژندل شوی مخ
7
بقدرة الله تعالى، ويمر على معادن الذهب والياقوت والزمرد والمرجان، فيسير ما شاء الله إلى أن يأتي بحيرة الزنج.»
قال الحاكي لهذا القول: ولولا ذلك، يعني دخوله في البحر الملح وما يختلط به منه، لما كان يستطاع أن يشرب منه لشدة حلاوته.
وقال قوم: مبدؤه من خلف خط الاستواء بإحدى عشرة درجة. وقال قوم: مبدؤه من جبال القمر، وأنه ينبع من اثني عشر عينا. انتهى ما أردته منه.
وقال ابن عماد في جزئه المذكور: «وذكر بعضهم أن سائر مياه الأرض وأنهارها يخرج أصلها من تحت الصخرة
8
بالأرض المقدسة، والعلم عند الله تعالى.» انتهى. ولم يبين قائل ذلك، وقد بينه في موضع آخر من جزئه المذكور، فقال: «وذكر الثعالبي في قصص الأنبياء أن جميع مياه الأرض يخرج أصلها من تحت الصخرة. انتهى.» ويدخل في إطلاق هذا القول النيل وغيره.
وذكر ابن عماد في جزئه المذكور، عند كلامه في الاستدلال على أفضلية النيل على غيره من الأنهار، أن النيل يخوض في البحر الملح ولا يختلط به، بل يجري تحته متميزا عنه، كالزيت مع الماء، قال: «ولهذا يظهر لركاب البحر في بعض النواحي فيستقون منه للشرب، وذلك في أماكن معروفة.» انتهى.
ورأيت في مناقب إمامنا الإمام الأعظم والحبر المحترم الشافعي رضي الله عنه لأبي القاسم بن غانم المقدسي حكاية عنه، تدل على أن النيل يمر ببلاد الهند، وسيأتي كلامه في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
وكان ابن طولون قد سأل شيخا كبيرا من علماء القبط، عمره مائة وثلاثون سنة، عن أشياء في أحوال مصر: أين منتهى النيل في أعلاه؟ فقال: البحيرة التي لا يدرك طولها وعرضها، وهي نحو الأرض التي الليل فيها والنهار متساويان طول الدهر، وهي تحت الموضع الذي يسمى عند المنجمين الفلك المستقيم. قال: وما ذكرت فمعروف غير منكور. قلت: قد اختصر صاحب الأصل هذه الحكاية، وقد نقلها الشهاب بن عماد في جزئه المذكور عن المسعودي، فقال:
ناپیژندل شوی مخ
قال المسعودي: وكان أحمد بن طولون في سنة نيف وستين ومائتين بلغه أن رجلا بأعلى مصر من الصعيد له ثلاثون ومائة سنة من الأقباط، ممن يشار إليهم بالعلم، وأنه علامة بمصر وأرضها في برها وبحرها وأجنادها وأجناد ملكها، وأنه ممن سافر الأرض وتوسط الممالك، وشاهد الأمم في أنواع البيضان والسودان، وأنه ذو معرفة بأنواع هيئات الأفلاك وأحكامها، فبعث إليه أحمد وأخلى له نفسه ليالي وأياما كثيرة، يسمع كلامه وإيراده وجواباته، فكان فيما سأله عن طول الأحباش على النيل وممالكهم، قال: لقيت من ملوكهم ستين ملكا في ممالك مختلفة، كل منهم ينازع من يليه من الملوك، وبلادهم حارة يابسة. قال: فما منتهى النيل في أعلاه؟ فقال: البحيرة. إلى آخر ما ذكره عنه صاحب الأصل، والله أعلم.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الأسواني، في كتاب أخبار النوبة من أخبار النيل: «وما شاهدت منه ومن تشعبه وتقسيمه على سبعة أبحر، من بدء علوه واجتماعه ببلدة مقره وتعطفه تعطفا عجيبا قبلي مدينتهم وافتراشه، وأنه يجري بحري دنقلة حتى يكون ما بين شرقيه وغربيه نحو أربعين فرسخا، ويتضايق بعد ذلك حتى يكون عرضه دون الخمسين ذراعا، وتكون الجنادل معترضة في غير موضع منه حتى يكون انصبابه في بابين أو ثلاثة أبواب.»
قال: «وقلعة أصفون أول الجنادل الثلاثة، وهي أشد الجنادل صعوبة؛ لأن فيها جبلا معترضا من الشرق إلى الغرب في النيل، والماء ينصب من ثلاثة أبواب، وربما يرجع إلى بابين عند انحداره شديد الخرير عجيب المنظر، لاندفاق الماء من علو الجبل، وقبليه مرسى حجارة في النقل نحو ثلاثة أبرد إلى قرية تعوق بيسير، وهي آخر قرى ميرس وأول بلاد مقره.»
قال أبو محمد عبد الله بن محمد الأسواني في كتاب أخبار النوبة، عند ذكر ناحية يقرن ما نصه:
وما رأيت على النيل ناحية أوسع منها، وقدرت أن سعة النيل فيها من المشرق إلى المغرب مسيرة خمس مراحل،
9
الجزاير تقطعه والأنهار منه تجري بينها على أراض منخفضة وقرى وعمائر حسنة. انتهى.
قلت: وطريق الجمع بين هذا وبين ما تقدم نقله عن صاحب خزانة التاريخ أن عرضه مختلف بحسب بلاد النوبة أيضا، ففي بعضها كما قاله صاحب خزانة التاريخ، أعني ثلاثة أميال فما دونها، وفي بعضها كما قاله الأسواني، أعني خمس مراحل، وهذا جمع حسن، ولا مانع من ذلك؛ لأن سبيله المشاهدة، والله أعلم.
قالوا: ومن وراء مخرج النيل الظلمة.
10
ناپیژندل شوی مخ
قال أبو الخطاب: وخلف الظلمة ضياء، فسبحان العليم القدير. وفي تاريخ ملوك مصر أن الوليد
11
أحد ملوك مصر من العمالقة، كان يعبد القمر، وهو أول من تسمى فرعون، وأقام بمصر مدة، ثم عن له أن ينظر مخرج النيل ويعرف من بتلك الناحية من الأمم، فأقام ثلاث سنين يستعد لذلك، ثم جمع جميع ما يحتاج إليه، واستخلف على مصر عونا، وتوجه، فمر على أمم السودان، ومر في طريقه على أرض الذهب،
12
وفيها أمة عظيمة ينبت الذهب في تلك الأرض كالقضبان، ثم سار حتى بلغ البطيحة التي ينصب فيها ماء النيل من الأنهار التي تخرج من جبل القمر وراء القصر الذي عمله هرمس،
13
وصعد على جبل القمر وراء البحر الزفتي الأسود، ورأى النيل يجري عليه كالأنهار الرقاق، وأتاه من ذلك البحر روائح منتنة هلك بسببها كثير من أصحابه، وذكروا أنهم لم يروا هناك شمسا ولا قمرا إلا نورا أحمر مثل نور الشمس، ثم توجه راجعا إلى مصر وأقام بها مدة، ثم ركب يوما إلى الصيد فظفر به أسد فقتله، ودفن في بعض الأهرام، وملك بعده الريان؛ وهو فرعون يوسف عليه السلام.
قال الشيخ عماد الدين بن كثير في تاريخه الكبير: «وأما ما يذكره بعضهم من أن منبع النيل من مكان مرتفع اطلع عليه بعض الناس، فرأى هناك هولا عظيما وجواري حسانا وأشياء غريبة، وأن الذي اطلع على هذا لم يمكنه الكلام بعد هذا، فهو من خرافات المؤرخين وهذيانات الأفاكين.»
قلت: هذا الذي قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله، لعله أشار به إلى ما حكاه ابن زولاق في تاريخه عن بعض خلفاء مصر، أنه أمر قوما بالمسير إلى حيث يجري النيل، فساروا حتى انتهوا إلى جبل عال، والماء ينزل من أعلاه، له دوي وهدير لا يكاد يسمع أحدهم صاحبه، ثم إن أحدهم تسبب في الصعود إلى أعلى الجبل؛ لينظر ما وراء ذلك، فلما وصل إلى أعلاه رقص وصفق وضحك، ثم مضى في الجبل ولم يعد، ولم يعلم أصحابه ما شأنه، ثم إن رجلا منهم صعد؛ لينظر ففعل مثل الأول فطلع ثالث، وقال: اربطوا في وسطي حبلا، فإذا أنا وصلت إلى ما وصلا إليه، ثم فعلت ذلك فاجذبوني حتى لا أبرح من موضعي، ففعلوا ذلك، فلما صار في أعلى الجبل فعل كفعلهم فجذبوه إليهم، فقيل إنه خرس فلم يرد جوابا، فمات من ساعته، فرجع القوم ولم يعلموا غير ذلك. انتهى.
قال: وقلعة أصفون أول الجنادل الثلاثة، وهي أشد الجنادل صعوبة؛ لأن فيها جبلا معترضا من الشرق إلى الغرب في النيل، والماء ينصب من ثلاثة أبواب، وربما يرجع إلى بابين عند انحساره، شديد الخرير عجيب المنظر لاندفاق الماء عليه من علو الجبل، وقبليه فرش حجارة في النيل نحو ثلاثة أبرد إلى قرية تعرف بيسير، وهي آخر قرى مرسين وأول بلاد مقره.
ناپیژندل شوی مخ
قال: وأما هذه الأنهار التي مادة النيل منها، والبحث عن ابتدائها والسؤال عن أوائلها، فقد أكثرت السؤال عنها من قوم عن قوم، فما وجدت مخبرا يقول إنه وقف على نهاية جميع الأنهار، والذي انتهى إليه علم من عرفني عن آخرين إلى خراب، وأنه يأتي في وقت الزيادة في هذه الأنهار آلة المراكب وأبواب وغير ذلك، فيدل ذلك على عمارة بعد الخراب.
وقال الوطواط الكتبي في كتاب مباهج الفكر: «إن طول مسافته ثلاثة آلاف فرسخ ونيف.» وقيل: إنه يجري في الخراب أربعة أشهر، وفي بلاد السودان شهرين، وفي بلاد الإسلام شهرا. قلت: هذا القول موافق لما جزم به ابن زولاق في تاريخه.
وذكر صاحب درر التيجان أن من ابتدائه إلى انتهائه اثنين وأربعين درجة وثلثي درجة، كل درجة ستون ميلا، فيكون طوله ثمانية آلاف وستمائة وأربعة وعشرين ميلا وثلثي ميل، على الفصل والاستواء، وله تعويجات شرقا وغربا فيطول ويزيد على ما ذكرناه. وقال صاحب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: «وبين طرفي النيل مما ثبت في الكتب خمسة آلاف وستمائة ميل وثلاثون ميلا.»
وذكر صاحب خزانة التاريخ أن «طوله أربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وسبعون ميلا، وعرضه في بلاد الحبشة والنوبة ثلاثة أميال فما دونها، وعرضه ببلد مصر ثلثا ميل، ليس يشبهه نهر من الأنهار.» وفي تاريخ ابن زولاق: «ليس في الدنيا نهر أطول مدى من النيل؛ يسير مسيرة شهر في بلاد الإسلام وشهرين في بلاد النوبة، وأربعة أشهر في الخراب حيث لا عمارة، إلى أن يخرج من جبال القمر خلف خط الاستواء.» قلت: ما حكاه صاحب الأصل في تاريخ ابن زولاق ادعى أبو قبيل الإجماع عليه، ولفظه كما حكاه ابن عماد في جزئه المذكور ما نصه: «وأجمع أهل العلم على أنه ليس في الدنيا نهر أطول مدى من النيل؛ يسير مسيرة شهر في الإسلام ...» إلى آخر ما تقدم ذكره، وزاد فقال: «وليس في الدنيا نهر يصب في بحر الروم والصين غير نيل مصر.» انتهى والله أعلم.
أسماء النيل من النصوص المصرية القديمة
كان قدماء المصريين يعتقدون أن النيل الذي تروى منه الأقاليم القبلية نيلا خاصا، وأطلقوا عليه «حعب رسيت»، ويقولون إنه لولاه لما استطاع النيل المخصص لري الوجه البحري إيفاء الحاجة لأقاليمه، وحددوا النيل القبلي «كاعتقادهم» بأنه يبتدئ من جزيرة أسوان، والنيل الخاص بالوجه البحري دعوه «حعب محيت»، وقالوا: إن ابتداءه من منطقة الدلتا المعروفة قديما باسم بابيلون التابعة لإقليم هليوبوليس، وقد نقش في معبد بيلاق النص الآتي: «إن نيل الوجه القبلي أبو الآلهة الخارج من مغارته «جزيرة أسوان»، ونيل الوجه البحري الخارج من خزانته.»
ولما قدم لمصر هيردوت؛ لمباحثه عن النيل، وحادث في شأنه الكهنة الصاويين حاولوا إقناعه بعقيدتهم هذه، ولكن أظهرت المباحث الجغرافية والحديثة أنها لا تطابق الصواب.
وكانوا يرسمون نيل الوجه البحري على شكل رجل في ريعان الشباب، ضخم الجسم ثقيل الكتفين كبير الثديين، متشح برداء عليه أثمار النيل في بلاد الوجه القبلي ولونها أزرق، ويرسمون تمثال النيل للوجه القبلي على شكل رجل متشح برداء فوقه أثمار النيل الممثلة ببلاد الوجه البحري، ولونها أحمر.
وكانوا يطلقون على النيل أسماء كثيرة، جعلوا منها اسما مقدسا له وهو حعبي، ونقش على حجر كانوب المحفوظ الآن بالمتحف المصري في القاعة حرف
T
ناپیژندل شوی مخ
تحت رقم 980، وتحته العبارة الآتية: «إن النيل حعبي نقص نقصا عظيما في عهد الملك بطليموس.»
والعامة كانوا يطلقون عليه اسم آيور، وقال بروكش باشا في قاموسه الجغرافي: إن كلمة آيور هذه مشتقة من كلمة «أور» المنقوشة على مسلة إسكندر ذي القرنين ، وجاءت في اللغة القبطية باللفظ ذاته يور
Your ؛ أي النهر، وترجمت التوراة في عهد أحد الملوك البطالسة، وذكر في سفر الخروج اسم النيل بلفظ آيور، الذي يشبه في النطق الاسم المصري القديم، وقد ورد اسم نيل الوجه البحري بلفظ «وعر».
وقال بروكش باشا: إن كلمة «وعر» معناها باللغة المصرية القديمة المياه الغزيرة في وقت الفيضان، وقال لباج رينوف: إنه ورد النيل باسم عرتي، وإن هذا الاسم يشبه كثيرا الفعل «أر» الذي معناه باللغة المصرية القديمة صعد.
وبعضهم أعطى للنيل من الجانب الغربي للقاهرة اسم «أيوما» أي اليم-البحر، وورد هذا الاسم في قصة شهيرة «تدعى قصة الأخوين»، مكتوبة باللغة المصرية القديمة، وفيها كثيرا ما أطلق على النيل هذا الاسم «اسم البحر» حتى اليوم.
واسمه الأصلي مجهول، وقيل: إنه مأخوذ من اللغة اليونانية التي نقلنها من الشعوب الأجنبية، كالفنيقيين وقبائل ليبيا وآسيا الصغرى.
ولما بطلت عبادة النيل زال اسمه المقدس «حعبي»، وأطلقوا عليه لفظ البحر أو النهر، وجاء في قرار ممفيس المنقوش بالديموطيقية «لغة الشعب» أن النيل كان فيضانه منخفضا في السنة الثامنة من حكم الملك بطليموس أبيفان، وذكر فيه النيل بالديموطيقية بلفظ «إل» أي النهر.
وجاء في ورقة بردية تتضمن علوم المعبودين فتاح وتحوت تسمية النيل بهذا اللفظ أيضا، وورد في مسلة منقوشة بالخط الفارسي أن دارييس أمر بحفر قناة من النيل وعبر عن اسمه بالفارسية «ب-أر-ع ا»
، فالباء أداة التعريف للمذكر المفرد بالهيروغليفية و«أر» يطابق «إل» بالديموطيقية
II-ir ، ومعناه النهر، و«ع ا» ومعناه كبير؛ أي النهر الكبير؛ أي النيل، ووردت الباء أداة للتعريف للمذكر المفرد في كلمة «يوم»؛ أي بحر فصارت «بيوم»، والباء تقلب فاء فصارت «فيوم»؛ أي مدينة الفيوم، ومعناها البحر، وكذلك التاء فإنها أداة التعريف للمؤنث المفرد في كلمة «مير» التي معناها فيضان النيل، وبالقبطية ميرة فصارت بالعربية العامية «دميرة»؛ أي فيضان النيل.
ناپیژندل شوی مخ