وقالت الفلاسفة على طريقهم واجب الوجود ليس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل أو عارض لها أن يعقل وذلك محال بل كما أنه مبدأ كل موجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها وأشخاصها ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه التغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة يعلمها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحد من الصورتين يبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات بل هو إنما يعقل كل شيء على نحو كلي فعلي لا انفعالي ومع ذلك لا يعزب عنه شيء شخصي ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وأما كيفية ذلك فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنها مبدأ كل موجود عقل أوائل الموجودات وما يتولد منها ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار معلوما من جهة ما يكون واجبا بسببه فتكون الأسباب بمصادمات تتأدى إلى أن يوجد منها الأمور الجزئية فالأول يعلم الأسباب ومطابقاتها فيعلم ما يتأدى إليه وما بينها من الأزمنة وما لها من العودات فيكون مدركا للأمور الجزئية من حيث هي كلية أعني من حيث لها صفات وأحوال تستعد بها لأن تكون كلية وإن تخصصت فبالإضافة إلى زمان ومكان وحال متشخصة فيعقل ذاته ونظام الخير والموجود في الكل منه ونفس مدركة الكل سبب لوجود الكل منه ومبدأ له وإبداع وإيجاب وإيجاد فلا يتبع علمه معلوما بل يسبقه ولا يكتسب عنه صفة بل يكسبه ولا يتغير بتغير المعلوم بل يغيره ولا يتعلق بأمر معين من حيث هو معين شخصي حتى لو زال الشخص زال العلم بوجوده وهذا كمن عرف أن القمر إذا اجتمع مع الذنب في برج كذا وكانت الشمس في برج مقابل وقع ثم الكسوف فعلمه هذا قبل وجود الكسوف وبعده وفي حال الكسوف على وجه ليس يتغير بحدوث الكسوف وكذا كل علم كلي ثم الجزئي مندرج تحت الكلي على سبيل التضمن فيصير الكل معلوما له على هذا الطريق فمن قال منهم أنه لا يعقل إلا ذاته أراد به أنه يعقل كونه مبدأ وعقله ذلك هو الموجب لحصول ما يصدر عنه ومن قال منهم أنه يعقل الكليات دون الجزئيات أراد ما قررناه ومن قال منهم أنه يعقل الكليات والجزئيات أراد ما عقله مقصودا أي مبدأ وما يصدر عنه إلا أن ذلك على وجه فهذا كلام القوم ونحن نتكلم على ذلك بالاعتراض وبتصفح على كل مسئلة منها بالاستعراض.
فنقول أولا إطلاق لفظ العقل والعاقل غير مصطلح عليه عندنا فنغير لفظ العقل إلى العلم ونطلق لفظ العالم بدل العاقل إذ ورد السمع بكون الباري تعالى عالما ولم يرد بكونه عاقلا فنطالبكم بالدليل على كون الباري تعالى عالما فبما عرفتم ذلك والدليل ما أرشدكم إليه والبرهان لم يقم عليه فإن المتكلم يستدل بحصول الإحكام والإتقان في الأفعال على كون الصانع عالما وأنتم ما سلكتم هذه الطريقة ولا استقام ذلك على قاعدتكم فإن العلم عندكم لم يتعلق بالجزئيات أو تعلق على وجه كلي فهو إذا متعلق بالكليات والأحكام إنما يثبت في الجزئيات المحسوسة أما الكليات المعقولة فهي مقدرة في الذهن فما فيه الإحكام ليس بمعلوم على الوجه الذي يقتضيه الإحكام وما هو معلوم فلم يشاهد إحكام فيه فبطل الاستدلال من هذا الطريق.
قالوا طريقنا في ذلك إنما هو برئ من المادة وعلائقها فغير محتجب عن ذاته لأن الحجاب هو المادة والمقدس عن المادة هو عالم لنفسه بنفسه إذ لا حجاب.
قيل هذه مصادرة على المطلوب الأول فإن معنى قولكم غير محتجب عن ذاته أي هو عالم بذاته والكلام فيه كالكلام في الأول وتقريره إنما هو برئ من المادة فهو عالم فلم قلتم إنما هو برئ عن المادة عالم ونفي المادة كيف يناسب العالمية والعلم هذا كمن نفى التناهي والانقسام والأين والكيف عنه لم يجب من ذلك أن يكون عالما فنفى الجسمية والهيولانية عنه ليس يقتضي أن يكون عالما ولم نجد لعامتكم برهانا على ثبوت كونه عالما بالمعلومات سواء التجرد عن المادة وعلائقها وليس ذلك حدا أوسط في برهان أن ولا في برهان لم.
مخ ۷۵