وأنا أقول لا بل حسمتم على العقول باب الإدراك وعلى الألسن باب الكلام فإن العقل يدرك الإنسانية كلية عامة لجميع نوع الإنسان مميزة عن الشخص المعين المشار إليه وكذلك العرضية كلية عامة لجميع أنواع الأعراض من غير أن يخطر بباله اللونية والسوادية وهذا السواد بعينه وهذا مدرك بضرورة العقل وهو مفهوم العبارة متصور في العقل لا نفس العبارة إذ العبارة تدل على معنى في الذهن محقق هو مدلول العبارة والمعبر عنه لو تبدلت العبارة عربية وعجمية وهندية ورومية لم يتبدل المعنى المدلول ثم ما من كلام تام إلا ويختص معنى عاما فوق الأعيان المشار إليها بهذا وتلك المعاني العامة من أخص أوصاف النفوس الإنسانية فمن أنكرها خرج عن حدود الإنسانية ودخل في حريم البهيمة بل هم أضل سبيلا.
وأما الخطأ الثاني وهو رد التمييز بين الأنواع إلى الذوات المعينة وذلك من أشنع المقالات فإن الشيء إنما يتميز عن غيره بأخص وصفه.
قيل له أخص وصف نوع الشيء غير وأخص وصف الذات المشار إليها غير فإن الجوهر يتميز عن العرض بالتحيز مطلقا إطلاقا نوعيا لا معينا تعيينا شخصيا والجوهر المعين إنما يمتاز عن جوهر معين بتحيز مخصوص لا بالتحيز المطلق وقط لا يمتاز جوهر معين عن عرض معين بتحيز مخصوص إذ الجنس لا يميز الوصف عن الموصوف والعرض عن الجوهر والعقل إنما يميز بمطلق التحيز فعرف أن الذوات إنما تتمايز بعضها عن بعض تمايزا جنسيا نوعيا لا بأعم صفاتها كالوجود بل بأخص أوصافها بشرط أن تكون كلية عامة ولو أن الجوهر مايز العرض بوجوده كما مايزه بتحيزه لحكم على العرض بأنه متحيز وعلى الجوهر بأنه محتاج إلى التحيز لأن الوجود والتحيز واحد فما به يفترقان هو بعينه ما فيه يشتركان وما به يتماثلان وهو بعينه ما فيه يختلفان ويرتفع التماثل والاختلاف والتضاد رأسا ويلزم أن لا يجري حكم مثل في مثل حتى لو قام الدليل على حدوث جوهر بعينه كان هو محدثا ويحتاج إلى دليل آخر في مثل ذلك الجوهر ويلزم أن لا يسلب حكم ضد عن ضد وخلاف عن خلاف حتى لو حكم على الجوهر بأنه قابل للعرض لم يسلب هذا الحكم عن العرض إذ لا تماثل ولا اختلاف ولا تضاد وارتفع العقل والمعقول وتعدد الحس والمحسوس.
وأما وجه خطأ المثبتين للحال فهو أنهم أثبتوا لموجود معين مشار إليه صفات مختصة به وصفات يشاركه فيها غيره من الموجودات وهو من أمحل المحال فإن المختص بالشيء المعين والذي يشاركه فيه غيره واحد بالنسبة إلى ذلك المعين فوجود عرض معين وعرضيته ولونيته وسواديته عبارات عن ذلك المعين المشار إليه فإن الوجود إذا تخصص بالعرضية فهو بعينه عرض والعرضية إذا تخصصت باللونية فهي بعينها لون وكذلك اللونية بالسوادية والسوادية بهذا السواد المشار إليه فليس من المعقول أن توجد صفة لشيء واحد معين وهي بعينها توجد لشيء آخر فتكون صفة معينة في شيئين كسواد واحد في محلين وجوهر واحد في مكانين ثم لا يكون ذلك في الحقيقة عموما وخصوصا فإن مثل هذا ليس يقبل التخصيص إذ يكون خاصا في كل محل فلا يكون البتة عاما وإذا لم يكن عاما لم يكن خاصا أيضا فيتناقض المعنى.
والخطأ الثاني أنهم قالوا الحال لا يوصف بالوجود ولا بالعدم والوجود عندهم حال فكيف يصح أن يقال الوجود لا يوصف بالوجود وهل هو إلا تناقض في اللفظ والمعنى وما لا يوصف بالوجود والعدم كيف يجوز أن يعم أصنافا وأعيانا لأن العموم والشمول يستدعي أولا وجودا محققا وثبوتا كاملا حتى يشمل ويعم أو يعين ويخص وأيضا فهم أثبتوا العلة والمعلول ثم قالوا العلة توجب المعلول وما ليس بموجود كيف يصير موجبا وموجبا فالعلمية عندهم حال والعالمية عندهم أيضا حال فالموجب حال والموجب حال والحال لا يوجب الحال لأن ما لا يتصف بالوجود الحقيقي لا يتصف بكونه موجبا.
مخ ۴۹