والفرق بينهما من حيث اللغة أن أحدهما لازم والثاني متعد لا ينتهض فرق من حيث العقل فإنا إذا قلنا قام وقعد وجاء وذهب كان الحكم لازما والقيام والقعود والمجي والذهاب فعله ومفعوله كما هو فعله والعقل لا يفرق بين فعل الإنسان شيئا في نفسه وبين فعله في غيره على مذهب من قال به ومن قال أن الفعل لا يباين محل القدرة فلم يفرق فيه بين الفعل والمفعول ولا متمسك للخصم في هذه المسئلة إلا بأمر لغوي ولفظ اصطلاحي.
وقد ألزم عليه الفلسفي إلزاما لا محيص له عنه فقال كل ذات لم يحدث فيها معنى ثم حدث فيها قبل الحدوث استعداد القبول وصلاحيته وقوته ثم إذا حدث فيها القبول تبدل الاستعداد بالوجود والصلاحية بالحصول والقوة بالفعل ويلزم أن يكون في ذاته معنى ما بالقوة ثم معنى ما بالفعل وذلك بعينه هو الهيولي والصورة وقد أثبتوا لله سبحانه وتعالى قبل خلق العالم خصائص الهيولي وهي طبائع عدمية فإن الاستعداد والصلاحية عدم شيء من إثباته أن يكون شيئا وواجب الوجود لذاته منزه عن طبيعة الإمكان والعدم اللذان هما منبع الشر.
وأما طرق الإلزام عليهم فمنها أن قالوا قول الله سبحانه وتعالى وإرادته من جنس قولنا وإرادتنا ثم لقوله وإرادته مفعولات مثل العالم بما فيه من السموات والأرض فيلزم أن يحصل بإرادتنا وقولنا مثل ذلك فإن قوله كن كاف ونون من جنس أقوالنا من غير فرق.
فإن قيل إنما حصل قوله بمباشرة قدرته وإرادته ومشيئته القديمة وقولنا لم يحصل بهما وقوله في ذاته قول له لا لغيره وقد قصد به التكوين لا بغيره .
قيل له إن كان هذا فرقا فلم يكن قوله إذا من جنس أقوالنا بل الحق أن القول إذا حدث بعد أن لم يكن فهو كقولنا الحادث بعد أن لم يكن ولم يكن لإضافته إلى القدرة أثر بعد الحدوث فإنه إنما أثر في حال الانفصال عن القدرة لا في حال تعلق القدرة به وإنما أثرت القدرة في حصول ذاته فقط لا في شيء آخر يحدث به وعن هذا لو أحدث قولا لنفسه في شجرة وقصد به التكوين لم يحصل به شيء فبطل قولهم إنما قصد به الأحداث وبطل ما اعتذروا به وحصل أن قوله لا ينبغي أن يوجد كقولنا أو قولنا يوجد كقوله إذ لا فرق بين قول وقول في الحدوث والحروف والأصوات والاحتياج إلى المحل بل قولنا أو كد فإنه إذا قام بمحل اتصف المحل به وتحققت له النسبة إلى المحل وعندكم قول الله سبحانه قائم به من غير أن تتصف به الذات ولم تتحقق له نسبة إلى الذات إلا مجرد الإضافة وقد انقطع حكمه عن القدرة القديمة فإنه إنما يوجد بعد أن يحدث لا حال أن يحدث.
ومن الإلزامات أن قوله كن لا يخلو إما أن يسبق أحد الحرفين على الثاني أو يتلازمان في الوجود إما في حال الوجود أو حال البقا فإن سبق أحدهما وتلاه الثاني فأما أن يبقى الأول أو لم يبق فإن بقي مقولا مسموعا لم يكن كن بل الأول ما لم ينعدم لا يوجد الثاني حتى يكون مترتبا متعاقبا وإلا فالكاف المسموع مع النون دواما لا يتصور أصلا وإن لم يبق فقد انعدم وعندكم ما حل في ذاته تعالى لا يجوز عليه العدم وإن كانا يتلازمان في الوجود فقد أوجد أحدهما مع الثاني فليس الكاف بالتقديم أولى من النون وكذلك كل حرف يجب أن يسبق حرفا في القول والتكلم حتى يكون بترتبه وتعاقبه كلاما مسموعا.
ومن الإلزامات إثبات أكوان حادثة مع الكون القديم وإثبات علوم حادثة مع العلم القديم كإثبات إرادة حادثة مع المشيئة القديمة وقد ذكر المتكلمون ذلك في كتبهم.
أما شبهة الكرامية أن قالوا سمع الباري سبحانه ما لم يسمع قبله ورأى ما لم ير قبله فيجب أن يحدث له تسمع وتبصر.
فقيل لهم أتقولون لم يكن الباري سبحانه سامعا للأصوات فصار سامعا لها ولا رائيا للمدركات فصار رائيا لها ولم يكن قائلا للأوامر والنواهي فصار قائلا ولم يرد وجود العالم في الوقت الذي سبق وجوده فصار مريدا في الوقت الذي أوجده فيدل كل ذلك على تجدد وصف له وإن لم تقولوا أنه صار سميعا بصيرا مريدا فقد تناقض قولكم أنه سمع ما لم يسمع ورأى ما لم ير وأراد ما لم يرد.
مخ ۴۰