وتحقيق ذلك من غير جد عن الإنصاف أن العبد كما يحس من نفسه التمكن من الفعل وتيسر التأتي يحس من نفسه الافتقار والاحتياج إلى معين في كل ما يتصرف ويجد في استطاعته ويتكلف فقدان الاستقلال والاستبداد بالفعل في كل ما يأتي ويذر ويقدم ويؤخر من تصرفات فكره نظرا واستدلالا ومن حركات لسانه قيلا وقالا ومن ترددات يديه يمينا وشمالا فيحس الاقتدار على النظر ولا يحس الاقتدار على العلم بعد حصول النظر فإنه لو أراد أن لا يحصل لا يتمكن منه ويحس من نفسه تحريك لسانه بالحروف ولو أراد أن يبدل المخارج ويغير الأصوات لم يتمكن من ذلك ويحس تحريك يديه وأنملته ولو أراد تحريك جزء واحد من غير تحريك الرباطات المتصلة لم يتمكن من ذلك وعند الخصم القدرة صالحة للأضداد والأمثال وهي متشابهة في القادرين فالعبد مستقل بالإيجاد والاختراع وليس إلى الباري سبحانه وتعالى من هذه الأفعال إلا خلق القدرة فحسب واشتراط البنية من أضعف ما يتصور والحق في المسئلة تسليم التمكن والتأتي والاستطاعة على الفعل على وجه ينتسب إلى العبد وجه من الفعل يليق بصلاحية قدرته واستطاعته وإثبات الافتقار والاحتياج ونفي الاستقلال والاستبداد فنجد في التكليف موردي الخطاب فعلا واستطاعة ويضاف في الجزاء مقابلة وتفضلا والله أعلم.
القاعدة الثالثة
في التوحيد
وفيها الرد على الثنوية وتستدعي هذه المسئلة سبق ذكر الوحدانية ومعنى الواحد.
قال أصحابنا الواحد هو الشيء الذي لا يصح انقسامه إذ لا تقبل ذاته القسمة بوجه ولا تقبل الشركة بوجه فالباري تعالى واحد في ذاته لا قسم له وواحد في صفاته لا شبيه له واحد في أفعاله لا شريك له وقد أقمنا الدلالة على انفراده بأفعاله فلنقم الدلالة على انفراده بذاته وصفاته.
وقالت الفلاسفة واجب الوجود بذاته لا يجوز أن يكون أجزاء كمية ولا أجزاء حد قولا ولا أجزاء ذات فعلا ووجودا وواجب الوجود لن يتصور إلا واحدا من كل وجه فلا يتصور ولا يتحقق موجودان كل واحد منهما واجب بذاته وعن هذا نفوا الصفات وإن أطلقوها عليه فبمعنى آخر كما سنذكره.
ووافقهم المعتزلة على ذلك غير أنهم مختلفون في التفصيل وسنفرد لإثبات الصفات مسئلة ونذكر المذهبين فيها وهذه المسئلة مقصورة على استحالة وجود الإلهين يثبت لكل واحد منهما من خصائص الإلهية ما يثبت للثاني ولست أعرف صاحب مقالة صار إلى هذا المذهب لأن الثنوية وإن صارت إلى إثبات قديمين لم تثبت لأحدهما ما ثبت للثاني من كل وجه والفلاسفة وإن قضوا بكون العقل والنفس أزليين وقضوا بكون الحركات سرمدية لم يثبتوا للمعلول خصائص العلة كيف واحدهما علة والثاني معلول والصابية وإن أثبتوا كون الروحانيين والهياكل أزلية سرمدية مدبرة لهذا العالم وسموها أربابا وآلهة فلم يثبتوا فيها خصائص رب الأرباب ودلالة التمانع في القرآن مسرودة على من يثبت خالقا من دون الله سبحانه وتعالى قال الله تعالى: " إذا لذهب كل إله بما خلق " وعن هذا صار أبو الحسن رحمه الله إلى أن أخص وصف الإله هو القدرة على الاختراع فلا يشاركه فيه غيره ومن أثبت فيه شركة فقد أثبت إلهين.
فدليلنا على استحالة وجود إلهين أنا فرضنا الكلام في جسم وقدرنا من أحدهما إرادة تحريكه ومن الثاني إرادة تسكينه في وقت واحد لم يخل الحال من أحد ثلاثة أمور إما أن تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى اجتماع الحركة والسكون في محل واحد في حالة واحدة وذلك بين الاستحالة وإما أن لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجز وقصور في إلهية كل واحد منهما وخلو المحل عن الضدين وذلك أيضا بين الاستحالة وإما أن تنفرد إرادة أحدهما دون الثاني فيصير الثاني مغلوبا على إرادته ممنوعا من فعله مضطرا في إمساكه وذلك ينافي إلاهية قال الله تعالى: " ولعلا بعضهم على بعض " وكذلك لو فرضنا في توارد الإرادة والاقتدار على فعل واحد فإما أن يشتركا في نفس الإيجاد وهو قضية واحدة لا يقبل الاشتراك وإما أن ينفرد أحدهما بالإيجاد فيكون المنفرد هو الإله والثاني يكون مغلوبا مقهورا وكذلك لو فرضنا في فعلين متباينين حتى يذهب كل إله بما خلق فيكون استغناء كل واحد منهما عن الثاني افتقارا إليه لأن نفس الاستغناء استعلاء وفي الاستعلاء إلزام قهر وغلبة على الثاني.
مخ ۳۱