الفصل الثالث
[أخلاق السادة وأخلاق العبيد]1
بمعزل عن الخير والشر، الفقرة 260
خلال جولتي بين عديد من النظم الأخلاقية، العميقة منها والسطحية، التي سادت الأرض حتى اليوم، أو لا تزال تسود اليوم؛ اهتديت إلى سمات معينة تتردد سويا بانتظام ويرتبط بعضها ببعض، إلى أن تبدى لي في نهاية الأمر نوعان أساسيان، وظهر هذا التقابل الرئيسي؛ فثمت أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد؛ وإني لأذهب إلى أنه في كل الحضارات العليا والمختلطة، تظهر محاولات للتوفيق بين هذين النوعين من الأخلاق. وأكثر من ذلك ظهورا، تداخلهما والخلط بينهما، وربما ارتبطا أوثق الارتباط في الشخص الواحد، وفي النفس الواحدة؛ فالتمييز بين القيم الأخلاقية إما أن ينشأ عن نوع من السادة، الذين يجدون لذة في التميز عن المسودين، أو تنشأ عن المسودين، عن العبيد والتابعين من مختلف الأنواع؛ ففي الحالة الأولى، عندما يكون السادة هم الذين يحددون معنى تصور «الخير »، تكون الأحوال السامية المترفعة للنفس هي التي تعد فضلا، وهي التي تحدد التفاوت في المراتب، ويبتعد الرجل الرفيع عن أولئك الذين تتمثل لديهم صفات مضادة لأحوال النفس السامية هذه، ويحتقرهم. ولنلاحظ هنا، بناء على ما قلناه، أن التقابل بين الحسن والرديء يعادل في هذا النوع الأول من الأخلاق، التقابل بين الرفيع والحقير.
أما التقابل الآخر بين الخير والشر فله أصل آخر، فهنا يحتقر الجبان، والقلق، والمتصاغر، وذلك الذي لا يخرج تفكيره عن حدود المنفعة الضيقة، وكذلك يحتقر المرتاب بنظرته المقيدة، وذلك الذي يحقر من شأن ذاته، وذلك النوع من الناس، الذي يقبل أن يعامله الغير معاملة الكلاب، والمنافق المستجدي، وقبل هؤلاء جميعا، الكاذب؛ ذلك لأن من المعتقدات الأساسية لكل الأرستقراطيين، أن عامة الناس كاذبون. ولقد كان النبلاء في اليونان القديمة يسمون أنفسهم «نحن أهل الصدق». ومن الجلي أن التقويمات الأخلاقية كانت في مبدأ الأمر تطلق على «الأشخاص»، ولم تطلق على أنواع السلوك وترد إليها إلا فيما بعد؛ ومن هنا كان من الأخطاء الكبيرة أن يتخذ مؤرخو الأخلاق نقطة بدايتهم من أسئلة مثل: «لم يحمد الفعل الشفوق؟» فالنوع الرفيع من الناس يشعر بأنه «هو» الذي يحدد القيمة؛ ومن هنا لم يكن في حاجة إلى أن يسمى بالخير، وإنما يصدر حكمه على هذا النحو: «إن ما هو ضار بي هو ضار في ذاته»؛ أي إنه يعرف أنه هو الذي يضفي على الأشياء ما لها من شرف، فهو «خالق القيم». وهو يمجد كل ما يجده في ذاته؛ فمثل هذه الأخلاق إنما هي تمجيد للذات، وفي أساس هذه الأخلاق يقوم شعور فياض بالامتلاء، وبالقوة، وسعادة التوسع الرفيع، والإحساس بالثراء القادر على البذل والعطاء؛ فالرجل الرفيع يساعد التعس بدوره، ولكن لا يكون ذلك بدافع الشفقة، وإنما بفعل اندفاع تولده القوة الفائضة. والرجل الرفيع يمجد القوي في ذاته، كما يمجد ذلك الذي يمارس قوته على ذاته؛ فيعرف متى يتكلم ومتى يصمت، ويشعر باللذة حين يعامل نفسه بقسوة وصرامة، ويمجد كل ما هو قاس وصارم، وفي الأساطير الإسكندنافية القديمة يقول البطل: «لقد وضع فوتان في صدري قلبا قاسيا.» تلك هي الكلمة التي عبرت عنها نفس «فيكنج»
2
فخور، بل إن مثل هذا الرجل يشعر بالفخر لأنه لم يخلق ليكون شفوقا؛ ومن هنا يضيف البطل في الأسطورة السابقة قوله: «من لم يكن له منذ حداثته قلب قاس، فلن يكون له مثل ذلك القلب أبدا»؛ فالنبلاء والشجعان الذين يفكرون على هذا النحو، هم أبعد الناس عن ذلك النوع الآخر من الأخلاق، الذي يرى في الشفقة أو العمل من أجل الغير أو «النزاهة» دليلا على الأخلاقية؛ ذلك لأن إيمان المرء بذاته، وفخره بذاته، والعداء والسخرية المريرة من كل «إنكار للذات»؛ كل هذا ينتمي إلى الأخلاق الرفيعة بنفس اليقين الذي ينتمي به إليها احتقارها وتجنبها للشفقة و«القلب العطوف». والأقوياء هم الذين يعرفون كيف يمجدون، فذلك فنهم ومجال إبداعهم. ومما تتميز به هذه الأخلاق عما عداها، تبجيلها العميق للقديم وللتقاليد المتوارثة (ومثل هذا التبجيل المزدوج هو أصل القانون بأسره)، والإيمان بالسلف والتحيز له، وعدم الثقة بالخلف. فإذا كنت تجد أنصار «الآراء الحديثة» يؤمنون بالتقدم وبالمستقبل إيمانا شبه غريزي، ويقللون على الدوام من شأن القدماء، فإن هذا في الحق يكفي للكشف عن الأصل غير الرفيع الذي صدرت عنه هذه «الآراء»، ويكون وقع أخلاق السادة أغرب وأبغض ما يكون إلى الذوق الحالي، في مبدئها الصارم، القائل إن المرء لا يدين بواجب إلا لنظرائه، وإن عليه إزاء ذوي المرتبة المنحطة وكل ما هو غريب عنه أن يسلك كما يرغب و«كما يشاء هواه»؛ أعني «بمعزل عن الخير والشر» دائما. وعلى هذا الأساس وحده يكون للشفقة وما شاكلها من المشاعر مجال؛ فالقدرة على الشعور العميق بعرفان الجميل، وبالرغبة في الانتقام، والالتزام بهذا الشعور (وكلا الأمرين لا يكون إلا في حدود النظراء وحدهم) والتشبث بالثأر، ودقة فهم معنى الصداقة، والشعور بضرورة وجود أعداء (لكي يكون فيهم منفذ لأحاسيس الغيرة، والمقاتلة، والصلف؛ وقبل هذا كله، لكي يستطيع المرء أن يكون «صديقا» بالمعنى الصحيح)؛ كل هذه علائم تتميز بها الأخلاق الرفيعة، التي هي، كما قلت من قبل، مختلفة عن أخلاق «الآراء الحديثة»، والتي يصعب تبعا لذلك، استيعابها اليوم، ويصعب التنقيب عنها وكشفها. والأمر بخلاف ذلك في النوع الثاني من الأخلاق، أعني «أخلاق العبيد».
فإذا تصورنا أن المغلوبين على أمرهم، والمظلومين، والمعذبين، والمقيدين، وغير الواثقين من أنفسهم، والذين يحسون بالعناء من أنفسهم؛ إذا تصورنا أن هؤلاء قد وضعوا نظاما أخلاقيا، فعلى أي نحو يكون العنصر المشترك بين تقويماتهم الأخلاقية؟ الأغلب أنهم سوف يعبرون عن تحد متشاءم لموقف الإنسان بوجه عام، وربما حملوا على الإنسان ذاته في حملتهم على موقفه. فنظرة العبيد لا ترضى بفضائل الأقوياء، بل نلمس فيها نوعا من الشك وعدم الثقة، والعمق في العداء لكل ما تبجله أخلاق الأقوياء وتعده «خيرا»؛ وربما أقنع المرء نفسه بأن سعادة هؤلاء الأخيرين ليست سعادة حقيقية بدورها. وعلى العكس من ذلك، يلقى ضوء ساطع على كل الصفات التي تصلح لتخفيف أعباء الحياة عن عاتق المعذبين، فتمجد الشفقة، واليد المعينة المنقذة، والقلب الرءوف، والصبر، والجد، والتواضع، والتزلف؛ ذلك لأن هذه هي أكثر الصفات مجلبة للنفع، وتكاد تكون هي الوسيلة الوحيدة للتخفيف من وطأة الحياة؛ فأخلاق العبيد هي في أساسها أخلاق منفعة، وفي ظلها يظهر التقابل المشهور بين ما هو «خير» وما هو «شر»؛ فتحت الشر تندرج القوة والخطورة، وكل ما هو مخيف، عميق، قوي، لا يقبل الازدراء.
وفي أخلاق العبيد يثير «الشرير» الخوف. أما في أخلاق السادة؛ فالشخص المحمود هو الذي يثير الخوف ويرغب فيه، بينما يظهر «الرديء» في صورة الشخص المحتقر. ويبلغ التقابل قمته عندما يحدث، نتيجة لأخلاق العبيد هذه، أن ينظر إلى «الخير» في هذه الأخلاق نظرة فيها لون من الاستخفاف - وقد يكون ذلك اللون باهتا، صادرا عن نية حسنة - إذ إن الخير في طريقة تفكير العبيد هذه هو بالضرورة ذلك الشخص «المأمون الجانب»؛ ففيه طيبة، وغفلة، وربما قدر من البله؛ أي إنه هو «المغفل». وحيثما تسود أخلاق العبيد تميل اللغة إلى التقريب بين كلمتي «طيب» و«أبله». وفارق أساسي أخير ، هو أن الرغبة في الحرية، والغريزة التي تجد في الشعور بالحرية سعادة ولذة، تنتمي إلى أخلاق العبيد بنفس الضرورة التي يكون بها التفنن في التبجيل والإخلاص والتحمس لهما علامة ضرورية من علائم طريقة التفكير والتقويم الأرستقراطية؛ ومن هنا كان في وسع المرء أن يفهم بسهولة لم كان من الضروري أن يكون للحب من حيث هو «انفعال» - ذلك شيء يتخصص فيه الأوروبيون - أصل رفيع؛ فمن المعروف أن ابتداعه يرجع إلى شعراء جنوب فرنسا الفرسان، أولئك الأمجاد المبدعين ذوي «الحسام الضاحك»، الذين تدين لهم أوروبا بالكثير، وربما بنفسها.
HERREN-UND SKLAVEN-MORAL
ناپیژندل شوی مخ