1
مشوه لا وحدة فيه ولا ارتباط. وهذا ما كان يحس به نيتشه ذاته، حين صرح في كتاب إلى روده، في سنة 1871، بأنه يخشى «ألا يقرأ علماء اللغة ذلك الكتاب لما فيه من موسيقى، وألا يقرأه الموسيقيون لما فيه من علم لغة، وألا يقرأه الفلاسفة لما فيه من موسيقى وعلم لغة!»
على أن التفاهم بين الرجلين لم يدم طويلا، وما كان له أن يدوم. وكم قيل في تفسير القطيعة بينهما من تعليلات، وتعصب كل باحث لرأيه الخاص، ظانا أنه قد أتى بالتعليل الأوحد. ولكن الواقع أنه لا يستبعد، إذا كنا بصدد شخصية معقدة كشخصية نيتشه، أن يكون لكل من هذه التعليلات نصيب من الصحة.
وأغرب هذه التعليلات هو التعليل النفسي؛ فقد تبين في نهاية الأمر ، وفي الوقت الذي وقف فيه نيتشه على حافة الجنون، أنه كان يحب كوزيما زوجة فاجنر، وتصور أنها هي أريان، وهو ديونيزوس، في الأسطورة اليونانية، وكتب إليها: «أريان، إنني أحبك!» ولم تكن إشارته الرمزية في كتبه السابقة عن أريان وديونيزوس مفهومة من قبل، ولكنه حين أفلت منه زمام عقله الواعي، وكشف عن هذا الحب الصامت القديم، قد أوضح معنى تلك الإشارات على نحو لا يدع مجالا للشك في أن حبه لكوزيما قد لعب دورا هاما في حياته النفسية. فإذا أضفنا إلى ذلك قوة النزعة الذاتية لدى نيتشه، وهي النزعة التي تجعله يحكم على العالم وعلى الآخرين تبعا لشعوره الخاص نحوهم، لوجدنا أنه ليس من المستبعد على الإطلاق أن تكون كراهيته التالية لفاجنر تعبيرا غير مباشر عن حبه لزوجته، أو إحساسا منه - كما صرح في بعض الأحيان - بأن فاجنر لا يستحق هذه المرأة التي لم يصادف بين النساء من تعادلها ذكاء وجرأة. ليس لنا إذن أن نرفض هذا التعليل؛ إذ تنهض به في كتابات نيتشه ذاتها شواهد قاطعة. ولكن ليس لنا في نفس الوقت أن نعده التعليل الوحيد؛ فقد كان لا بد من عوامل أخرى تتضافر مع عامل التطلع الخفي إلى كوزيما، لتؤدي بنيتشه إلى حملته العنيفة على فاجنر، وكان لا بد من مبررات عقلية أخرى، يستطيع أن يصرح بها على الأقل، أو يستطيع أن يبرر بها لعقله الواعي هذا التغير الذي طرأ على شعوره نحو فاجنر. فلنمض إذن في بحثنا ملتمسين تعليلات أخرى لهذه القطيعة.
في الوقت الذي وصل فيه فاجنر إلى قمة المجد، ونجح في بناء مدينة موسيقية كاملة على النحو الذي تخيله طيلة حياته في بايرويت
Bayreuth ، وبدأ يحقق من المشروعات ما كان يبدو قبل ذلك خيالا واهما، كتب نيتشه في الجزء الرابع من كتابه «خواطر في غير أوانها» مقالا لخص فيه كل ما كان يجذبه إلى فاجنر من قبل، هو مقال «رتشارد فاجنر في بايرويت». والحق أن أحدا لم يمدح فاجنر ولم يمجده مثلما فعل نيتشه في هذا المقال . ويبدو أن نيتشه كان ينبه فيه فاجنر إلى ما كان ينتظره منه؛ فقد كان ينتظر تقدما شاملا وإصلاحا عاما في كل أوجه الحياة البشرية، من أخلاق وسياسة وعلاقات اجتماعية؛ إذ إن المسرح صورة مصغرة للمجتمع بمختلف مجالاته، وفيه تقدم لمشكلة الحياة حلول لو أحسن اختيارها لكان أثرها على الإنسانية كلها عظيما. وهكذا تستطيع بايرويت أن تعيد لنا عهده الأولمب، ويستطيع العبقري الذي شادها أن يخاطبنا بلغة شاملة لا توجه إلى جماعة أو شعب معين، بل إلى البشرية كلها. على هذا النحو سار نيتشه في مؤلفه هذا عن فاجنر، ولكن هل كان هذا كله مدحا فحسب؟ الحق أنه، كما قلنا، تعبير عما يتوقعه نيتشه من فاجنر، لا عما قام به فاجنر بالفعل. والدليل على ذلك أنه في نفس الوقت الذي كان فيه فاجنر يحتفل بأعياد بايرويت الأولى، كان نيتشه قد انطفأت حماسته وتبخر إعجابه.
ذلك لأن نيتشه حين اهتدى إلى ذاته، وعرف الطريق الذي يتعين عليه أن يسلكه، أدرك أن فاجنر عاجز تماما عن أن يقدم إلى البشرية شيئا مما يريده هو. لقد كان نيتشه يريد انقلابا في الأخلاق، وفي الفكر، وفي الفن، وفي كل ما يقدسه الإنسان الحديث من قيم، فأين فاجنر من كل هذا؟ لقد شاهد نيتشه بعض حفلات بايرويت، فلم يجد إلا مسرحا ذا جدران أربعة، وستارا يفتح من الجانبين، وعازفين مختفين، وموسيقى ممتزجة بالشعر؛ وهذه كلها تجديدات فنية لا شك فيها، ولكن أتبدأ من هنا نهضة الإنسان الحديث كما أرادها نيتشه؟! وأين هم رهبان الفكر الذي كان نيتشه يتصور أنهم سيفدون خاشعين إلى محراب الفن؟ أين ذلك الصمت المقدس الذي طالما حلم به، من تلك الجلبة والضوضاء وذلك الغدو والرواح؟ أين بخور معبد الفن من رائحة الخمر والدخان وعطور النساء التي حفل بها مسرح بايرويت؟ لقد انتهى نيتشه من زياراته لبايرويت بنتيجة واحدة، هي أن من المحال أن تشع شمس الإصلاح من ذلك الأولمب الزائف، أو أن تبعث الحضارة الديونيزية من بعد حفل لاه كذلك الذي وضع فيه فاجنر كل آماله! ومنذ هذه اللحظة، يئس تماما من أي إصلاح يأتي عن طريق فاجنر.
وهكذا أصبح الطريق ممهدا للانفصام التام. ولم يبق إلا أن يعلم نيتشه أن فاجنر ليس عاجزا عن بلوغ هدفه الإصلاحي فحسب، بل إنه يسعى إلى هدف مضاد له. وهذا ما أدركه نيتشه أخيرا؛ فقد تقابلا بعد بايرويت عدة مرات، إلى أن كان يوم تريضا فيه معا على الساحل في سورنتو
Sorrento
بإيطاليا، وأخذ فاجنر يشرح له أهم الموضوعات التي تشغل ذهنه في ذلك الحين، وهي الدراما الموسيقى الجديدة «بارسيفال». فإذا بها عمل يقدمه فاجنر إلى الكنيسة راجيا منها المغفرة والصفح في نهاية حياته. وإذا به يقول إنه يجد في فكرتها هذه لذة لا يجدها في أعماله السابقة التي كان بعضها يصطبغ بصبغة الإلحاد. وتبينت الحقيقة لنيتشه بوضوح؛ فها هو ذا فاجنر يتبدى أمامه تائبا مفكرا، يردد آلام المسيح وعذابه، ويركع تحت الصليب، في الوقت الذي أراده فيه ثائرا يمجد الحياة ويقلب القيم. بل إن في الأمر شيئا أخطر من مجرد كون فاجنر مسيحيا؛ إذ إن نيتشه على كل حال يحترم المسيحي المخلص، ولكن الذي آلمه أن يجد فاجنر قد انقلب وتدهور إلى هذا الحد. وعلى أية حال، فقد ظل نيتشه صامتا في ذلك اليوم، وحين انتهى فاجنر من حديثه، خطا نيتشه بعيدا عنه، وانصرف دون أن يجيب، ولم يره بعد ذلك أبدا.
ناپیژندل شوی مخ