لم تسقط معتقداتنا الأخلاقية من السماء، كما أنها ليست مسوغات لكي نمرق إلى تأسيس استقامتنا الأخلاقية. فكر في بقية تاريخ الإنسانية، بما في ذلك معظم تاريخ العالم في الوقت الحاضر. كيف نبرر هذا المشهد الطاغي من القسوة والغباء والمعاناة؟ ما الموقف الذي نتبناه تجاه التاريخ، ما الحكم الذي يمكن أن نصدره؟ هل الأمر كله خطأ كبير؟ لقد حاولت المسيحية علاج معاناة التاريخ عن طريق وضع خطة دينية هادفة في المكان والزمان الحاضرين وتقديم المكافأة لاحقا، ولكن الليبرالية كانت شديدة الإنسانية بحيث لم تستطع تقبل هذا التفسير. لا يوجد تفسير، توجد فقط الحقيقة المرة. ولكن الحقيقة المرة التي نواجهها أشد قسوة من التفسير القديم. ولذلك تصوغها الليبرالية اليسارية في قصة جديدة، قصة أخلاقية تندمج طبقا لها جميع تلك الحيوات في آلية التاريخ وتتخذ دورا واضحا باعتبارها ضحايا القمع والظلم. ثمة غائية ضمنية في هذا الرأي؛ فالليبرالية اليسارية الحديثة هي النهاية التي تعطي شكلا ومعنى لبقية التاريخ. ومؤخرا فقط أصبح بإمكان كاتبة مثل أوفيليا شوت - التي تنتقد نيتشه بشدة في كتابها «ما وراء العدمية: نيتشه دون أقنعة» بسبب تسلطه - أن تكتب بحرية، وبثقة كبيرة بأن التقديرات التي تفترضها سوف يستقبلها الجمهور الأكاديمي كأمر مفروغ منه، تماما مثل الواعظ المسيحي الذي يكتب من أجل جمهور متدين. وفقط في إطار التطويق الوقائي لهذا المجتمع العقائدي يمكن بلوغ الرضا بأداء هذه الخطبة؛ أي الإحساس بأن أي شيء ذي قيمة قد تحقق بفضل هذا الإلقاء. عندما يطمئن هذا المجتمع الأخلاقي نفسه تجاه عقيدته بواسطة هذا الإلقاء، يصبح متنفسا لمعنى التاريخ، باعتباره الموضع الذي قد يشغله المرء لكي ينظر إلى التاريخ ويصدر حكمه عليه دون أن ييأس أو يغلق عينيه ويسد أذنيه. ربما لا توجد أية خطة للتاريخ، ولا أية طريقة لتعويض الخسائر للموتى، ولكننا نستطيع أن نرسم خطا غير مرئي لسداد الحكم عبر التاريخ وبهذه الطريقة نتفوق عليه. وبدلا من عبارة «هكذا كان» المخيفة التي تصف التاريخ، نستخدم العظمة المهيبة لعبارة «هكذا كان «يجب» أن يكون.»
لكن ليبراليتنا شيء نشأ بالأمس ويمكن أن يختفي غدا. أول أمس كان الآباء المؤسسون يستعبدون السود. ما الأمل الضئيل الذي نشغل بالنا به على الرغم من احتماليته وهشاشة وجوده، ويمكننا من إضاءة جميع الماضي وربما المستقبل أيضا ؟ لأننا نريد أن نقول إنه على الرغم من أن مجتمعنا المتدين قد يندثر، فلن يؤثر هذا على شرعية هذه المعتقدات. سيظل خط الاستقامة يقطع التاريخ.
ستاتين، 1990: 78-79
يجتهد ستاتين ليوضح، بعد فقرته المثيرة للإعجاب الشديد، أنه لا ينتقد الليبرالية على أساس نسبي، ولكنه فقط يدعم فكرة نيتشه حول احتمالية موقفنا التاريخي، ومن ثم قيمنا. يعني هذا بالتأكيد أنه لا يكفي تنفيذ طقوس الإرهاب في آرائه اللاحقة، ولكن أنه يجب رؤيتها كجزء من تدبير قيمي من حيث محاولته وحده للتأقلم مع الحياة، بنبرة متكررة وحادة باستمرار.
على الرغم من أن كتاب «مولد المأساة» ينظر إلى التراجيديا بعين المتفرج، ولعل هذا يرجع جزئيا إلى أنه يتعامل مع الشكل الدرامي وليس مع التاريخ الإنساني، فإنه يبدو بوضوح كاف أنه بالنسبة إلى نيتشه تعتبر فظاعة الوجود حقيقة باقية على الدوام. «لا يمكن تبرير الحياة إلا بكونها ظاهرة جمالية فقط»، ولكننا يجب أن نتذكر أن نيتشه يقول أيضا، في الكتاب نفسه، إننا نحن أنفسنا جزء من هذه الظاهرة. فلا «حياة» بينما نحن جالسون لنتفرج. ولو كان قد فكر في هذا عام 1871، لعرف خطأه فورا بأقسى الطرق.
هل تعني الأخلاق تنوع المواقف التي يعتنقها المجتمع بصورة رسمية معلنة؟ إنها تحقق رخاءنا، في صورته الأساسية، حتى نشعر على الأقل بالأمان عندما نولي الآخرين ظهورنا. لا يمكن أن ننكر هذا، فهذا ما يعنيه نيتشه بقوله إنه لا ينكر أن الكثير من الأعمال اللاأخلاقية يجب تفاديها ومحاربتها ... إلى آخر قوله. لكن أليست هذه مجرد مسألة حصافة؟ بالتأكيد، حسب قول نيتشه. والفكرة التي روج لها الكثير من الفلاسفة - بداية من أفلاطون، بأن الحصافة موجودة من ناحية (أقل أهمية)، والأخلاق موجودة من ناحية أخرى (أكثر أهمية)، والتي تخصص لها عقوبات متسامية النوع - تصدمه باعتبارها تفاهات أخلاقية. وهكذا، فثمة مستوى من الأخلاق يخدم غاية مفيدة، ويحتاجه أي مجتمع ليحافظ على استمراره - على الرغم من أنك لو كنت صاحب نفوذ، فسوف تستطيع بالطبع التنصل من الكثير من الجرائم. ولكن هذا وضع سيحدث ما دامت الحياة مستمرة. فلماذا لا نعطي للحياة معنى وهدفا بما أننا وصلنا إلى هذا المدى؟ كثيرا ما يستخدم مصطلح «الأخلاق» لتغطية هذا الأمر أيضا، على الرغم من أن بعض الأشخاص يفضلون الحديث عن «المثل العليا» التي يقولون إنها تختلف على نحو أساسي من شخص إلى آخر. لا يبحث نيتشه في هذه الأمور الاصطلاحية، ولكنه عندما يدين الأخلاق أو أنواعا منها، وعندما يصف نفسه بأنه فاسد، فإنه يضع في اعتباره معنى الحياة والهدف منها.
هنا تبدأ الأمور في التعقيد. وفي محاولة لتبسيطها قدر الإمكان، سأحاول أن أحيد بعض الشيء عن اتباع الترتيب الزمني في عرض نيتشه، وأن أعتمد كثيرا أيضا على مقال كتبه فريتجوف برجمان، عن «نقد نيتشه للأخلاق» (سولومن وهيجنز، 1988). ولكن ما يبعث على الطمأنينة أنه في بعض الأحيان يتفق المفسرون إلى درجة اعتناق نفس الآراء. وفي معرض حديثي، فإن الفارق بين الأخلاق بوصفها رفاهية والأخلاق بوصفها مثلا أعلى سيتلاشى فعليا، إلى جانب أمور أخرى كثيرة.
أول أمر يجب وضعه في الاعتبار هو أن نيتشه لا ينكر (إلى حد ما) وجود القيم. إنه لخطأ شائع وعجيب أن نتصور هذا عنه. ولكن إنكار القيم هو ما يقصده في المقام الأول بحديثه عن «العدمية»، التي يكره ورودها أكثر من أي شيء آخر. لو نظر أحيانا إلى نفسه باعتباره نبي العدمية، فهذا لا يعني أنه يعلن وصولها كأمر يجب الاحتفاء به، ولكن بنفس معنى أن إرميا كان النبي الذي تنبأ بالدمار لبيت المقدس. وما يصوره، في كتاب تلو الآخر، هو الانحدار التدريجي والمتسارع في الوقت نفسه الذي يمر به الإنسان الغربي وصولا إلى حالة لا تترك القيم فيها بعد ذلك أثرا قويا عليه، أو يتشدق بها ولكنه ما عاد يؤمن بها. وهذا ما يراه وشيك الحدوث. كيف وقعت هذه الكارثة، التي لم يبد أن أحدا من معاصريه قد لاحظها، وكيف يمكن علاجها؟
تقتضي الإجابة النظر إلى جانبين من الأخلاق؛ الأول: هو منبعها، والثاني: هو مضمونها. تنبع الأخلاق بالصورة التي تمارس بها حاليا من الفكر المسيحي-العبري، في الجزء الأكبر منها؛ مما يعني أن جذورها موجودة في إملاءات الرب لقبيلة صغيرة شرق أوسطية، وأن مضامينها لم تزل كما كانت من قبل. وهذا يسمو بها فورا بطريقتين؛ أولا: أن تنفيذها هو مسألة فروض لا جدال فيها، وكان عقاب مخالفتها في وقت من الأوقات جزاء إلهيا فوريا. وثانيا: بما أن المضمون كان مصمما خصيصى ليضمن استمرار القبيلة، التي كانت ظروفها الحياتية مختلفة تماما من نواح عدة عن ظروفنا الحياتية، إذن كان يجب أن يكون أكثر تجريدا وانفصالا عن الظروف التي نعيش فيها. وكانت النتيجة أن الأخلاق قد أصبحت غامضة من ناحية، ومن ناحية أخرى أيضا كان يجب فرض صلتها عن طريق تحويلنا إلى كائنات يصلح أن تطبق الأخلاق عليها بعقلانية، حتى على الرغم من أننا نعرف أن هذا غير حقيقي من نواح عدة.
يتعقد الأمر أكثر بالتعارض بين العهد القديم والعهد الجديد، وكذب المسيح بادعائه «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس! ما جئت لأنقض بل لأكمل» (إنجيل متى، الإصحاح الخامس، الآية السابعة عشرة). بما أن العديد من مبادئه المثيرة للإعجاب تتعارض تعارضا تاما مع الناموس، مثل: «لا تقاوموا الشر.» وإن كان العهد القديم بقي جزءا من شريعة النصوص المقدسة، فدائما ما كانت المسيحية تواجه أزمة هوية أخلاقية. وعلى الرغم من كون هذا الموضوع عاملا مهما في الالتباس الأخلاقي للغرب، فإنه غير مهم بالنسبة إلى نيتشه الذي انصب اهتمامه الأساسي على طبيعة العقوبات الأخلاقية بصفة عامة.
ناپیژندل شوی مخ