دعوت حقیقت: د هایډجر لخوا د حقیقت په اړه درې متون سره
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
ژانرونه
العالم إذن أسلوب محدد للانفتاح، يعبر عن علاقات البشر بالموجود وفهمهم له ولشركائهم من البشر والآلهة ... إلخ في عصر معين أو مرحلة محددة من تاريخهم، ولما كان العالم هو المجال الذي يتم فيه الانفتاح، وكان العمل الفني «يقيم عالما»، ففي إمكاننا القول إن «العمل الفني يفتح انفتاح العالم»
158
أو أنه - بعبارة أبسط - هو الذي يظهر هذا الانفتاح على حقيقة العالم والوجود.
هذه الخاصية الأساسية في العمل الفني مقترنة بخاصية أخرى، وهي الإنتاج، وليس المقصود هنا بالإنتاج ما نعنيه عادة من إنتاج الأدوات من مادة معينة تختفي حتما لكي تظهر الوظيفة التي صنعت من أجلها هذه الأدوات المخصصة للاستعمال، وإنما المقصود به هو «إظهار» المادة التي صنع منها العمل الفني ولا يمكن أن يقوم بدونها (فالتمثال من حجر، والصورة من أصباغ وألوان، واللحن الموسيقي من ذبذبات صوتية ... إلخ)، ولو عدنا بالذاكرة إلى المعبد الإغريقي لوجدناه لا يكتفي بإظهار الأحجار التي شيد بها، بل يظهر كذلك الأرض (الفيزيس) التي جاءت منها هذه الأحجار، وهو يظهر الأرض بمعناها الواسع، أي البحر، والصخر، والسماء، وأشجار الزيتون وكل ما يمكن أن يتصل بها، هذا «الإظهار» الذي يحققه العمل الفني لا يمكن التفكير فيه إلا من ناحية الإنتاج الذي تحدثنا عنه، وهو ليس بإنتاج شيء جديد أو شيء مثير غير عادي أو إنجاز تقني، وإنما هو الإنتاج الذي يحررنا لكي ننفتح على هذه الأرض التي نعيش عليها ونتحرك فوق أديمها ونسكنها، الأرض التي يظهرها هذا المعبد ويحافظ عليها ويخرجها من حال الانطواء والانغلاق ، إنه ينطوي في الأرض ويخرجها في نفس الوقت من الانطواء، وبهذا نصل إلى هذا المبدأ: «إن وضع العالم وإنتاج الأرض ملمحان أساسيان من ملامح العمل الفني»،
159
وبهذا يستقر العمل الفني في ذاته، ويكتفي بذاته، ويتميز عن الشيء والأداة جميعا، غير أن استقراره ليس سكونا ميتا، وإنما هو سكون ينطوي على الحركة، وشهادة على ذلك التوتر الحي الذي يعلمنا هيراقليطس أنه كامن في سكون القوس! إنه توتر النزاع والصراع بين العالم والأرض، بين الانفتاح والانطواء، والظهور والاحتجاب، وليس العمل الفني - مهما تكن غرابة هذه القفزة الشعرية! - سوى الميدان الذي يدور فيه هذا النزاع، وليس هذا النزاع بين الانفتاح والانطواء، والظهور والاحتجاب إلا تعبيرا عن حقيقة الوجود نفسها.
هكذا تتم الدورة ويرجع هيدجر إلى ما قرره من أن حقيقة الوجود تحدث في العمل الفني، وكأننا لم نبحث في حقيقة العمل إلا لكي نصل إلى الحقيقة نفسها، وكأننا في هذه المرحلة كلها أشبه بالفارس الذي قطع المسافات الشاسعة بحثا عن الجواد الذي كان يمتطي ظهره! مهما يكن من شيء فإن التأملات حول العمل الفني ستدفعنا إلى التفكير في ماهية الحقيقة، وستجعلنا نراها كذلك رؤية جديدة، وطبيعي أن يرجع هيدجر إلى الأفكار الأساسية التي عرضها في محاضرته عن ماهية الحقيقة، وأن يؤكد أن «الأليثيا» (اللاتحجب) هي أكثر الأشياء تحجبا (ص40) وأنها هي السر واللغز نفسه، ولكي يكون مبدأ التطابق هو معيار الحقيقة والصدق، ولكي تعبر القضية عن التوافق بين المعرفة والشيء، فلا بد أن يسبق ذلك ظهور الشيء نفسه، وانفتاح الموجود للإنسان والإنسان للموجود، ولا بد أيضا أن يسود الانفتاح علاقة الإنسان بشريكه الإنسان، ولا نريد أن نكرر ما قلناه عن ماهية الحقيقة؛ إذ يكفي أن نحتفظ منها - في سياق بحثنا عن حقيقة العمل الفني - بخاصية الظهور والانفتاح والإنارة والتجلي التي لا تنفصل عن جميعها عن التخفي والتحجب والانغلاق والانطواء، كما نحتفظ منها بكون الحقيقة لا تنفصل عن اللاحقيقة، وأنها صراع بين الإنارة والإظلام، والتحجب واللاتحجب، وهو صراع يوضع فيه الإنسان ويتعرض له على الدوام: «فماهية الحقيقة تكمن في هذا الصراع الأصلي الذي يتم فيه الكفاح لانتزاع ذلك الوسط المفتوح الذي يكون فيه الموجود ومن خلاله يعود إلى نفسه» (ص43) هذا الصراع أو النزاع في قلب الحقيقة نفسها بين الإنارة والتحجب يقربنا من ذلك الصراع الذي يدور في قلب العمل الفني بين العالم (الإنارة والانفتاح) والأرض (التحجب والانطواء).
لنسأل الآن: أين يمكن أن نعثر على هذا الصراع؟ والجواب قدمناه من قبل: في العمل الفني؛ ففيه «تحدث» الحقيقة ويتم الصراع بين قطبيها أو جذريها الأصليين، أيكون العمل الفني هو «المكان» الوحيد؟ بالطبع لا، فهناك «أماكن» أخرى يعاين فيها الإنسان هذا الصراع القدري الذي تتفتح فيه حقيقة الموجود بكليته، كالتضحية في سبيل الآخرين، وتأسيس دولة أو حياة جماعية، والتفكير نفسه عندما تصبح الحقيقة هي مشكلته الرئيسية وشغله الشاغل، والمهم أن نتذكر ما أكدناه من قبل من أن عنصري العمل الفني - وضع العالم وإنتاج الأرض - هما اللذان يؤلفان طرفي النزاع الأصلي الذي يتم فيه الكفاح من أجل تجلي (لاتحجب) الموجود بكليته، أي من أجل الحقيقة (ص44). نقول الحقيقة، أي الحقيقة الكلية لا حقيقة موجود أو شيء بعينه يمكن أن يعبر عنه العمل الفني أو يعكسه أو يحاكيه كما تقول نظرية المحاكاة التقليدية، ولا يتسنى ظهور هذه الحقيقة الكلية إلا في الأعمال الفنية الخارقة التي يصح عليها القول بأنها صنعت عصرا وعبرت عن روح شعب أو جيل: «إن ما يظهره العمل الفني هو الجميل فيه، والجمال هو أسلوب وجود الحقيقة أو كينونتها» (ص44). وغني عن الذكر أن هذه العبارة تضع حدا للخلاف التاريخي الطويل الذي يتلخص في هذا السؤال: هل هناك علاقة بين الجمال والحقيقة أم أن الجميل ينبغي أن يستبعد من مجال الحق؟ والعبارة تبين بوضوح أن الجمال أسلوب من أساليب مختلفة لتجربة الحقيقة، وأنه ليس هو الأسلوب الوحيد.
هكذا يكون هيدجر قد وجه المشكلة الجمالية وجهة جديدة، فبدلا من أن يسأل عن الحقيقة ابتداء من الفن والعمل الفني، كما فعل الكثيرون من فلاسفة الفن ولا يزالون يفعلون، نجده قد عكس السؤال وأخذ يبحث عن ماهية الفن والعمل الفني ابتداء من ماهية الحقيقة التي «تتجسد» فيه أو «تكون» وتظهر من خلاله؛ ولهذا نراه يقول: «لما كان من طبيعة الحقيقة أن ترتب أمرها في الموجود؛ لكي تصبح بذلك حقيقة، فإن الاتجاه إلى العمل شيء كامن في ماهيتها، وهذا تعبير عن إمكانية متميزة للحقيقة يجعلها توجد في قلب الموجود نفسه.» (ص50)، وكلما نجح الإبداع في إظهار انفتاح الموجود أو حقيقته، كان هذا المبدع عملا فنيا، والفنانون والأدباء العظام لم يفعلوا شيئا غير هذا، فأعمال رمبرانت أو سيزان أو كافكا تظهر إمكانية هذا الانفتاح، وتجعلنا نرى الموجود في ضوء جديد غير مألوف، هو باختصار نور الحقيقة التي لا بد أن يتفتح فيها حتى يمكننا أن نراه، ولعل هذا أن يكون هو المقصود بالعبارة الخامسة التي ذكرناها في صدر هذا الحديث من الحفاظ على العمل الفني، فليس المراد به أن نحميه من التلف أو نصونه في مكان أمين - وهو أمر واجب بطبيعة الحال! - بل إن العمل الفني يغير علاقتنا بالعالم والأرض، وينتشلنا من مستنقع العادة، وينتزعنا من سأم المألوف والمعتاد، وتتم صدمة هذا التحول في العمل الفني نفسه، وواجبنا ألا نتجاهله أو نهون من شأنه أو نقابله بالصمت، بل نجربه ونعانيه كأشد ما تكون التجربة والمعاناة: إن الحفاظ على العمل الفني من ناحية المعرفة هو معايشة «الهول» أو «الرهبة» من الحقيقة التي تحدث فيه، والتغلغل في باطن الانفتاح الذي يحدث في هذا العمل (ص55)، ولا شك أن هذا التغلغل وتلك المعايشة يتطلبان من الإنسان مسلكا خاصا يتيح له - بالفعل والإرادة - أن يجرب الانفتاح ويهب نفسه لنور الحقيقة حين يتكشف عن وجهها الحجاب، ولا شك أيضا أن هذه التجربة شيء مهول ورهيب؛ لأن الذي يظهر فيها ليس هذا الموجود المعتاد أو ذاك، بل الموجود بكليته، وإن شئت فحقيقة الوجود نفسه؛ لهذا تتطلب من الإنسان - وهو بطبيعته كائن متفتح متجاوز لنفسه باستمرار - غاية الصمود والاحتمال والاتزان في مواجهة الحدث الغريب المهول الذي لا شك في أنه سيغيره ويحوله من الأعماق، وهل يغير الإنسان شيء كما تغيره تجربة الحقيقة؟ وهل يقدر شيء على تحويله كما يقدر العمل الفني الذي يظهر الحقيقة؟ وهل يمكن أن يدهشنا الآن هذا التعريف الذي يقدمه هيدجر للفن بأنه «الحفاظ الخلاق على الحقيقة في العمل الفني»؟ وهل يمكن أن نرفض وصفه لحدوث الحقيقة - أو بالأحرى إحداثها وإظهارها وتفتحها - بأنه شعر: «إن الفن كله، بوصفه إحداث حقيقة الوجود بما هو موجود، هو في ماهيته شعر» (ص59).
لقد كان الشعر دائما وسيطا بين السماء والبشر، فلم لا يكون العمل الفني حلقة الوصل بين الإنسان والحقيقة؟
ناپیژندل شوی مخ