دعوت حقیقت: د هایډجر لخوا د حقیقت په اړه درې متون سره
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
ژانرونه
واستطرد الفيلسوف قائلا إن الدافع الذي جعله يقبل تولي إدارة الجامعة قد عبر عنه في محاضرته التي بدأ بها أستاذيته بالجامعة - خلفا لهسرل - في سنة 1929م، وهي محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟» ولم يكن هذا الدافع سوى توحيد المجالات والأنظمة العلمية التي تناثرت وتفرعت وابتعدت - إلى حد الضمور المميت - عن التجذر في أساسها الجوهري.
أخذ المحاور الصحفي الكلمة وأصر على أن الفيلسوف قد عزف نغمة أخرى في الخطبة التي ألقاها بمناسبة توليه إدارة الجامعة وبعد اغتصاب هتلر للسلطة، وتعيينه مستشارا لدولة الرايخ الثالث بأربعة شهور، وقال الصحفي إنه قد وردت في تلك الخطبة عبارة عن عظمة وروعة البعث الجديد.
لم ينكر الفيلسوف أنه كان مقتنعا بضرورة تلك الانطلاقة وبحتمية ذلك البعث الذي لم يكن ثمة بديل عنه مع اضطراب الآراء وحيرة الاتجاهات السياسية لاثنين وعشرين حزبا سياسيا، وأن البلبلة العامة كانت تقتضي توحيد المواقف الوطنية والاجتماعية، ولم يكن ذلك رأيه هو وحده، بل اتفق عليه عدد كبير من ساسة العصر ومفكريه وأدبائه (مثل فريدريش ناومان وإدوارد شبرانجر وإرنست يونجر وغيرهم)، فضلا عن أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بقضايا فسلفية عبرت عنها كتاباته ومحاضراته التي أعقبت ظهور «الوجود والزمان» (سنة 1927م) كما انشغل بحكم عمله في التدريس برسالة الجامعة ومعنى العلم والبحث العلمي وغيرها من المسائل التي تتصل بصورة غير مباشرة بقضايا الوطن والمجتمع، الأمر الذي انعكس على العنوان الذي أعطاه للخطبة السابقة الذكر مع توليه إدارة الجامعة، وهو التأكيد الذاتي للجامعة الألمانية: ولكن من من الذين يتجادلون حول هذه الخطبة قد كلف نفسه مشقة قراءتها والتفكير المتعمق فيها، وتفسير كلماتها من خلال الظروف السائدة في ذلك الحين؟ إن تلك الخطبة كانت أبعد ما تكون عن «تسييس» العلم أو قصر قيمته ومعناه على فائدته للمجتمع كما تصور الطلاب والدعاة النازيون، لقد وقف توجهها الأساسي ضد استفحال التنظيم التقني للجامعة وفي صف إعادة النظر في مهمة الجامعة بمعنى جديد مرتبط بالتدبر في علاقتها بالتراث الثقافي الغربي في مجموعه، وبتجديد نفسها بنفسها في مواجهة التيار السائد لتسييس العلم.
ولكن المحاور الصحفي ذكره بعبارة قالها في خريف سنة 1933م ورددها معظم الذين شجبوا علاقته بالنازي: «ليست المبادئ والأفكار هي القواعد التي يرتكز عليها وجودكم، وإنما الفوهرر نفسه (أي القائد، والمقصود به هو هتلر)، وهو وحده، هو الواقع الألماني وقانونه في الحاضر والمستقبل».
وأنكر هيدجر أن تكون هذه العبارة قد وردت في خطبة توليه إدارة الجامعة؛ لأنها ظهرت في الجريدة المحلية للطلاب، وكانت نوعا من التنازل الذي اضطر إليه رغبة منه في تسيير أمور الجامعة، وأكد أنه يتبرأ اليوم من تلك العبارة التي لم ينطق بمثلها قط منذ قدم استقالته من منصبه في فبراير سنة 1934م وإن لم تقبل إلا في شهر أبريل.
وردا على التهمة الموجهة إليه بالتعاون مع الحزب النازي وسياسته المعادية للسامية أكد بكل حزم أنه لم يسمح للطلاب بإقامة «حريق الكتب» أمام المبنى الرئيسي للجامعة، وأنه لم يستبعد كتب المؤلفين اليهود لا من المكتبة العامة للجامعة ولا من مكتبة القسم، وأن علاقته بتلاميذه اليهود بقيت على ما كانت عليه من المودة والتعاطف، كما أن الود بينه وبين ياسبرز لم يعكره شيء طوال السنوات السابقة لاندلاع الحرب على الرغم من الإشاعات المغرضة بأنه قاطعه بسبب زوجته اليهودية، وأما عن علاقته بأستاذه هسرل فقد ظلت هي علاقة الاحترام والعرفان بين التلميذ والمعلم؛ بدليل أنه حافظ على الإهداء الذي كرسه له في كتاب الوجود والزمان في طبعاته المختلفة حتى الطبعة الرابعة التي ظهرت في سنة 1935م، ثم اضطر إلى الموافقة على حذفه في الطبعة الخامسة لسنة 1941م لخوف الناشر من مصادرة الكتاب إذا أبقى عليه، ثم إنه لم يبد موافقته إلا بشرط المحافظة على الملاحظة التي يشهد فيها على الصفحة الثامنة والثلاثين من الكتاب بفضل أستاذه عليه ورعايته له، ولم ينشأ الخلاف بين الأستاذ وتلميذه إلا لأسباب موضوعية جعلت هسرل نفسه يعلن تبرؤه العلني منه ومن تلميذه الآخر ماكس شيلر (1874-1928م) متهما إياهما بأنهما حولا فلسفته الظاهراتية الخالصة إلى أنثروبولوجيا متمركزة حول الإنسان، وأما عن الشائعات التي روجت عنه أنه منع أستاذه هسرل من أن يطأ بقدمه أرض الجامعة أو أن يستعير كتابا من مكتباتها، فقد أكد بكل قوة أنها شائعات عبثية مغرضة لم يقصد من ورائها إلا التشهير به، والدليل على ذلك أنه خلال إدارته للجامعة صمم - على غير رغبة الوزارة المختصة - على الحفاظ على أستاذين من أصل يهودي (كان أولهما تانهاوزر مديرا لمستشفى الجامعة، وكان الآخر وهو فون هيفيسي أستاذا للكيمياء الطبيعية)، فكيف يعقل أن يتصرف مثل ذلك التصرف مع أستاذه وصاحب الأفضال العلمية والإنسانية عليه؟ صحيح أن أستاذه وزوجته قد بدآ بمقاطعته هو وعائلته، وأنه قصر من الناحية الإنسانية فلم يقم بزيارة أستاذه في مرضه الأخير ولم يحضر جنازته في شهر أبريل لسنة 1938م، ولكنه كتب رسالة لأرملة أستاذه معتذرا فيها عن هذا التقصير.
واستطرد هيدجر في الحديث عن توتر العلاقة بينه وبين السلطة النازية التي رفضت اقتراحاته بإصلاح الجامعة وتجديدها بالقوى الشابة المتميزة، مما اضطره، بعد عشرة شهور فقط من توليه منصبه، إلى تقديم استقالته، والغريب في رأيه أن الذين شوهوا صورته عند قبوله للمنصب لم يعلقوا بكلمة واحدة على انسحابه منه وتعيين أول مدير نازي في مكانه.
وتفرغ الرجل لدراساته ومحاضراته، وبدأ منذ سنة 1935م محاضراته عن شعر هلدرين ثم عن فلسفة نيتشه، كما بدأ الحزب النازي في مراقبته والتجسس عليه واضطهاده بأشكال مختلفة، ومن أغرب ما يرويه الفيلسوف أن الجهاز الخاص للحزب سلط عليه أحد تلاميذه الذين «تدكتروا» على يديه، ولما رأى التلميذ (وكان اسمه هانكه) بعينيه وسمع بأذنيه أوجعه ضميره فاعترف لأستاذه ذات يوم بأنه أرسل إلى الجامعة لمراقبته وتسقط أخباره، وأنه يبوح له بذلك ليزيح العبء الفادح عن كاهله.
لم يكف الحزب عن مضايقاته له، فلم يسمح بمناقشة كتبه (ومنها نظرية أفلاطون عن الحقيقة)، وهاجمت صحيفته الرسمية «الإرادة والقوة» محاضرة ألقاها عن هلدرلين في روما، ومنع مشاركته في المؤتمر الدولي للفلسفة الذي انعقد سنة 1934م في براغ، ولم يأذن له كذلك بحضور مؤتمر ديكارت الدولي سنة 1937م في باريس؛ مما جعل الأستاذ برييه - رئيس ذلك المؤتمر ومؤرخ الفلسفة المعروف - يستفسر منه عن سبب تأخيره. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل منع الحزب نشر خطبته التي ألقاها عند توليه إدارة الجامعة، وأمر بأن يوزع كتاباه عن ماهية الحقيقة وما الميتافيزيقا بعد نزع أغلفتهما، ووصل الأمر إلى حد رفض الحزب إعفاءه من الخدمة العسكرية في آخر سنوات الحرب، على الرغم من إعفائه خمسمائة غيره من العلماء والفنانين، وكان أن كلفه بالاشتراك في أعمال السخرة في إقامة التحصينات والاستحكامات على ضفاف الراين، ثم ختم ذلك كله بإعلان الاستغناء عن خدماته مع زميله المؤرخ جرهارد ريتر، وأخيرا «توج» اضطهاده له بتجنيده في فرق العاصفة مع عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس الذين كانوا جميعا يصغرونه في السن.
ويتطرق الحوار بين هيدجر ومندوبي المجلة إلى مشكلة التقنية التي لا يستطيع الإنسان - بحكم طبيعتها وماهيتها - أن يتحكم فيها، وإلى حيرته وتشككه في النظام السياسي الذي يمكن أن يكون ملائما لعصر التقنية الكوكبية الذي يواجه الإنسان بأخطر المخاطر التي تهدد حياته ومصيره أكثر بكثير من كل ما واجهه طوال تجربته التاريخية، وهو خطر اجتثاث جذوره من الأرض والسكن والوطن والبيت والتراث والوجود والحقيقة ... «ولن يجدي الإنسان أمام الموت والنهاية المتوقعة سوى الرجوع إلى الشعر والفكر، أي إلى القوى التي تستغني عن استخدام القوة».
ناپیژندل شوی مخ