وظلت هي ماضية في طريقها، وهو وراءها يلوم نفسه أحيانا وأحيانا ينظر في ساعته فيجد أن المسافة كلها لم تأخذ سوى دقائق، مع أنه خيل إليه أنه ظل يتبعها لعشرات الكيلومترات، حتى خرجت السيدة من الشارع الضيق إلى ميدان غير فسيح يشبه كثيرا ميدان الخازندار في القاهرة، فواجهته محل كبير قبة تحتل ضلعا من أضلاعه، ومحطات كثيرة للأتوبيس والترام تتناثر فيه، ولم يكن في الميدان وقوف كثيرون ... مجرد خليط متنافر غريب من زبائن آخر ترام وأوتوبيس. ووقفت المرأة على محطة، وظل هو سائرا في طريقه يتطلع هنا وهناك وفي الهواء، متخذا هيئة من يحاول أن يحل لغزا استعصى عليه حله، حتى وصل إلى ذات المحطة ووقف في طرفها الآخر. وقف قليلا ثم ما لبث أن غير الهيئة ووضع يديه في جيوب بنطلونه، وعوج رقبته إلى ناحية، متخذا هيئة من يترقب شيئا ويتمشى جيئة وذهابا في انتظاره. وكان يغير من هيئته وطريقته وكأن عينا غير مرئية تراقبه، وتحصي عليه حركاته وسكناته، وتحاسبه وهو يرد على حسابها له، ويقنعها أنه بريء لا مقصد له، مع أن أحدا في الميدان لا يكاد يلحظ وجوده، حتى ولا السيدة التي كان يتبعها. كانت واقفة مرتكزة على مظلتها ولا يبدو عليها أي شيء سوى القلق الممل الذي يصاحب انتظار الأوتوبيسات والترامويات حين لا تجيء ... إلى أن وصل درش إلى خطوة أو خطوتين منها. إلى هنا كان قد تم له ما أراد، وها هو ذا أصبح قريبا منها، وبعد؟ أدخل يديه في جيوبه وأخرجها أكثر من مرة، وغير من اتجاه وجهه أكثر من مرة، وحدق ناحيتها طويلا لعل عينيها تلتقيان بعينيه ... ولكن شيئا من هذا لم يحدث. وأصبح عليه أن يقدم على عمل إيجابي أكثر، وفجأة ومرة واحدة عاودته حالة اللامبالاة التامة واقترب منها حتى وقف أمامها وابتسم كثيرا قبل أن يقول: هل تسمحين لي بسؤال؟
ولم ينتظر إجابتها، انطلق من فوره يقول: أنا غريب هنا كما ترين، ولا أعرف الألمانية، وكانت فرصة عظيمة أنك تعرفين الإنجليزية، فهل من الممكن أن أسألك عن بعض الأشياء هنا؟
أتم الجملة وأحس بسيال من الخجل الحقيقي يسحب روحه من صدره ويكاد يسقطها بين أقدامه، حتى إنه لم يرفع عينيه ويحس بروحه تعود إلى مقرها بين جنبيه إلا حين جاءه ردها: ماذا تريد أن تعرف؟
وتطلع إليها، وتفاءل. كانت هناك ابتسامة ... صحيح ابتسامة لا معنى لها بالمرة، ولكنها خير على أية حال من تكشيرة أو كلمة نابية. عليه أن ينتهي إلى رأي بسرعة في أمر هذه المرأة، فإما فيه أو ما فيش ... ويكفي ما أصابه من كسوف. ولكن كان عليه قبل أي شيء أن يسألها عما يريد معرفته. قال مثلا موعد آخر ترام. سؤال بدا له سخيفا جدا، أسخف من أي شيء قاله في حياته، ولكنها أجابته بنفس ابتسامتها التي لا تعني شيئا: الواحدة إلا ربعا.
وخجل لسبب غير ظاهر وارتبك، وما لبث أن غير خطته وقال: إني أردت فقط أن أتحدث معك قليلا، أممكن هذا؟
وقبل أن تجيب كان هو يعمل عقله بسرعة ويفكر في الأمر من زاوية جديدة؛ فما لا شك فيه أنها عرفته وعرفت أن ذلك الأجنبي ذو الشعر الأسود الذي سألها عن الطريق إلى فندق زاخر، والذي لم يحفل بأخذ الطريق إليه ومضى يتبعها. معنى هذا أنها لم تغضب منه. إذن فهي لم تستنكر سيره وراءها ولا مطاردته لها على هذا النحو. أو يجوز أن حب الاستطلاع فقط هو الذي يجعلها تستمع صابرة إلى أسئلته السخيفة هذه. وهو نفسه الذي لا يزال يرسم على ملامحها تلك الابتسامة التي لا معنى لها.
وقالت ردا على سؤاله: أبدا.
هيه ها هي ذي تقول له إن ليس لديها مانع من الحديث، فتكلم يا درش ... تكلم.
وحاول درش أن يتكلم ويختلق موضوعات للحديث، وصمت برهة كي يستجمع كل ذكائه ولباقته، وتمخض هذا عن سؤاله: أنت طبعا لا تعرفين جنسيتي.
فقالت: طبعا!
ناپیژندل شوی مخ