أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
مقدمة الليالي
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
مقدمة الليالي
نزوات ماريان
نزوات ماريان
وليالي أكتوبر ومايو وأغسطس
تأليف
ألفريد دي موسيه
ترجمة
محمد مندور
مقدمة
بقلم محمد مندور
كاتب مسرحية «نزوات ماريان» وقصائد الليالي التي ننشرها في هذا الكتيب هو الشاعر الفرنسي الرومانسي الكبير ألفريد دي موسيه، الذي ولد في باريس سنة 1810 وتوفي بها في أول مايو سنة 1857، أي في وقت مبكر، وقبل أن يطول به العمر، ومع ذلك فقد استطاع هذا الأديب الكبير أن يغني الأدب الفرنسي، بل الأدب العالمي، بطائفة كبيرة من القصائد الرومانسية الحارة، ومن القصص والمسرحيات النثرية العامرة بروح الشعر، وروح الدعابة اللطيفة.
فبعد أن انتهى الشاب ألفريد دي موسيه من دراسته الثانوية بليسيه هنري الرابع بباريس أخذ يتردد، وهو لا يزال حدثا صغيرا، على الندوات الرومانسية التي استقبل فيها بحرارة، وفي سنة 1830 - أي وهو في العشرين من عمره - نشر أول ديوان له بعنوان «حكايات من إسبانيا وإيطاليا».
وفي الفترة التي تمتد من 1833 إلى 1835 تقع علاقته الشهيرة بالكاتبة جورج صاند، وقد رحلا معا إلى إيطاليا في ديسمبر سنة 1833 وهي الرحلة التي انتهت نهاية سيئة، إذ سقط ألفريد دي موسيه مريضا في مدينة البندقية، حيث عالجه طبيب اسمه الدكتور باجللو، وعاد وحيدا إلى فرنسا قاطعا علاقته بجورج صاند، وإذا كان قد عاد إلى عشيقته مرة ثانية، فإن القطيعة النهائية لم تلبث أن وقعت بينهما، وقد قص ألفريد دي موسيه قصة علاقته بجورج صاند في كتابه «اعترافات فتى العصر» الذي نشر سنة 1836، وقد أثيرت هذه العلاقة بعد ذلك بردح من الزمن، وفي سنة 1859 على وجه التحديد دار جدل طويل بين السيدة جورج صاند التي نشرت كتابا بعنوان «هي وهو» وبين بول دي موسيه - أخي ألفريد - الذي رد بكتاب «هو وهي»، واشتركت في هذه المناقشة مدام لويز كوليه بكتابها المسمى «هو». ومهما تكن قسوة هذه التجربة على شاعرنا الشاب، فإنها قد ألهبت شاعريته، إذ عرفته ما هو الألم، بل ما هي منابع الشعر، وبوحي هذه التجربة كتب أجمل أشعاره ونشرها في مجلة «دي موند»، وهي الليالي الأربع (ليلة أكتوبر، ومايو، وأغسطس، وسبتمبر) ثم قصيدته التي أسماها «خطاب إلى لامارتين» وقصيدة «الأمل في الله» وقصيدة «الذكرى».
وبعد هذه الأزمة العاطفية الخطيرة، سلخ ألفريد دي موسيه ستة عشر عاما فيما يشبه العقم الأدبي، إذ لم ينشر خلالها غير قليل من القصائد والأغاني القصيرة وبعض القصص والكوميديات النثرية، ولكن المجد لم يلبث أن ابتسم له ابتداء من سنة 1847م، فنجحت المسرحيات التي نشط لكتابتها وكان نجاحها في ظروف غريبة، كما قبل عضوا بالمجمع اللغوي - مجمع الخالدين - في 27 مايو سنة 1852، ومات في سن مبكرة - كما قلنا - نتيجة لإسرافه على نفسه في الشراب والعربدة، ولسوء الحظ لم يتجاوز من ساروا في جنازته، الثلاثين، ودفن في مقبرة بيرلا شيز بباريس، وغرست - بناء على طلبه - فوق قبره شجرة صفصاف.
قصة مسرحه
من المعلوم أن الرومانسيين أهملوا الكوميديا التي مزاجهم العاطفي الحار يصرفهم عنها، ومع ذلك، فقد انفرد ألفريد دي موسيه بكتابة المسرحيات الفكاهية، غير أن أول كوميديا قدمها وهي «ليلة البندقية» لاقت فشلا شديدا عندما مثلت بمسرح الأوديون في أول ديسمبر سنة 1830م، وقد هز هذا الفشل كبرياء دي موسيه هزا عنيفا، فأقسم على ألا يكتب للمسرح بعد ذلك، ولكنه لما كان مغرما بالصورة الدرامية، فقد استمر يكتب المسرحيات الفكاهية نثرا وينشرها للقراءة في مجلة دي موند، وكان من بين هذه الكوميديات نزوات ماريان التي نشرها سنة 1833م، وننشرها نحن اليوم مترجمة إلى العربية في هذا الكتيب.
ومع ذلك، فقد حدثت ظروف غريبة حققت لمسرحيات ألفريد دي موسيه نجاحا رائعا على المسرح، وذلك أن ممثلة فرنسية شهيرة هي مدام آلان دي بريه، مرت مصادفة بمدينة سان بترسبرج الروسية، حيث سمعت بإطراء شديد لمسرحية صغيرة تمثل على أحد مسارح المدينة، وحضرت هذه المسرحية التي راقتها فطلبت ترجمة فرنسية لها لتقوم بتمثليها في البلاط الإمبراطوري الروسي، وإذا بها مسرحية «نزوة» لألفريد دي موسيه، فمثلتها بالفرنسية بنجاح كبير في سانت بترسبرج، وعندما عادت إلى باريس ، قامت بتمثيلها على مسرح الكوميدي فرانسيز في 27 نوفمبر سنة 1847م، وكان تمثيلها كشفا للجمهور الباريسي عن عبقرية دي موسيه الدرامية، وقد شجع هذا النجاح على تمثيل عدد آخر كبير من مسرحيات ألفريد دي موسيه في باريس ثم في العالم كله.
ولقد جمعت هذه المسرحيات الخفيفة لألفريد دي موسيه بعد وفاته تحت عنوان «كوميديات وأمثال»، وهي كلها نثرية، ولكنها أقرب ما تكون إلى الشعر في أسلوبها المجنح، وفي انطلاقها الغنائي الذي تطرب له كل روح شاعرة، ثم إنها تجمع إلى الروح الشعرية المرهفة، روح الدعابة اللطيفة حينا والقارصة حينا آخر، وهي كلها تحمل الكثير من شخصية ألفريد دي موسيه وعواطفه الخاصة، ففي كل مرة يتحدث فيها عن الحب يخيل إلينا، بل نحس إحساسا واضحا بأنه يتحدث عن مشاعره الخاصة، وها نحن ننشر في هذا الكتيب بعد مسرحية «نزوات ماريان» ثلاثا من لياليه التي نظمها على أثر نكبته في حبه لجورج صاند، وقد اخترنا هذه الليالي الثلاث بالذات لأنه قد كتبها في صورة حوار بينه كشاعر وبين «الميز» إلهة الشعر، لكي يدرك القارئ بنفسه وحدة المعدن بين مسرح موسيه النثري وقصائد شعره، حتى ليسمى مسرحه بالمسرح الغنائي.
وأما سر تسميته بعض مسرحيات موسيه بالأمثال، فإنما يرجع إلى أنه قد كتب فعلا عن عدة مسرحيات فكاهية تصور أحداثها لتنطبق على أحد الأمثال السائرة، وقد شهد مسرحنا العربي المعاصر بالفعل إحدى تلك المسرحيات وهي مسرحية «لا عبث في الحب» التي عربت ومثلت باسم «راح يصيدها صادته»، وهي اسم نحس فيه رنين أمثلتنا الشعبية مما يصح معه أن نسميها «مثلا».
وأما عن ترجمة «نزوات ماريان» و«الليالي» الثلاث التي ننشرها في هذا الكتاب الشعبي، فكل ما نقوله عنها هو أننا قد حاولنا جهد المستطاع أن نحتفظ لهذه النصوص بروحها وتصويرها الشعري الرائع ما استطعنا إلى ذلك سبيلا رغم مشقة نقل الشعر من لغة إلى أخرى، وبخاصة هذا الشعر المجنح الذي يكاد يبز فيه ألفريد دي موسيه معظم زملائه الرومانسيين بقوة عاطفته وانطلاق خياله وبراعة تصويره.
أشخاص الرواية
كلوديو:
قاض عجوز.
أكتاف:
ابن عمه.
سيليو:
عاشق ماريان.
بيبو:
خادم سيليو.
ملفوليو:
تابع هرميا.
ماريان:
زوجة كلوديو.
هرميا:
أم سيليو.
خادم ماريان:
خادم هرميا، فارسان.
تبيا:
خادم كلوديو.
المنظر
في نابولي، ملابس إيطالية من عهد فرانسو الأول.
الفصل الأول
المنظر الأول
ميدان أمام منزل كلوديو (سيليو - بيبو)
سيليو :
هيه بيبو، أرأيت ماريان؟
بيبو :
نعم يا سيدي.
سيليو :
وبم حدثتك؟
بيبو :
وجدتها على أشد ما عرفتها من تورع وكبرياء. حدثتني عما اعتزمت من مفاتحة زوجها بالأمر إذا لم يكف سيدي عن طلبها.
سيليو :
يا له من حظ عاثر! ليس لي إذن إلا أن أطلب الموت. آه ما أقساها امرأة! بم تنصحني بيبو، وأي سبيل أسلك؟
بيبو :
بدء نصحي هو ألا تمكث حيث أنت الآن، فها هو ذا زوجها مقبل. (ينسحبان إلى قاع المسرح.)
المنظر الثاني (كلوديو - تبيا)
كلوديو :
عهدي بك خادمي الوفي، واليوم لي ثأر لا بد من أخذه.
تبيا :
لك أنت يا سيدي؟
كلوديو :
نعم، لي أنا، ما دامت تلك القيثار لا تستحي فتنحي نغماتها عن نافذة زوجتي، ولكن صبرا والأيام بيننا دول (يلمح سيليو وبيبو).
تعال بنا إلى هذا الجانب، ها هو نفر من المارة أخشى أن يتسقط حديثنا، عليك أن تحضر لي هذا المساء الفارس الذي حدثتك عنه.
تبيا :
وماذا تريد منه؟
كلوديو :
يخيل إلي أن لماريان عشاقا.
تبيا :
أتظن ذلك يا سيدي؟
كلوديو :
نعم نفذت إلي رائحة من يحوم منهم حول منزلي، حقا إنه لا يمر منهم أحد ببابي، ولكن السماء تمطر قيثارا ورسائل خفية.
تبيا :
وهل تستطيع أن تقصي من يريد أن يسمع زوجتك أغاني المساء؟
كلوديو :
لا، ولكني أستطيع أن أقيم خلف السياج فارسا يطيح برأس من تسبق به قدم إلى هنا.
تبيا :
لكن ما هذا القول؟ ألزوجتك عشاق؟ إذن فلي أنا أيضا عاشقات؟
كلوديو :
ولم لا يا تبيا؟ حقا إنك دميم الخلقة ولكنك لطيف الروح.
تبيا :
هذا صحيح! هذا صحيح!
كلوديو :
آه تبيا! أتسلم إذن بذلك، لم يعد في الأمر شك، وها أنا مضغة في الأفواه!
تبيا :
أي أفواه؟
كلوديو :
أفواه الجميع.
تبيا :
ولكن زوج سيدي مضرب الأمثال عفة في المدينة كلها، وقد احتجبت عن كل عين وما تغادر بيتها إلا للعبادة.
كلوديو :
لا عليك من ذلك، وانا بعد كابح جماح غضبي، آه، أهذا جزاء ما قدمت إليها من عطاء؟ نعم تبيا، سأحيك الشباك محكمة الحلقات، وقد أوشك الألم أن يأتي علي.
تبيا :
آه! لا كان ذلك.
كلوديو :
أرجوك أن تصدقني، كلما نفضت إليك أمرا. (يخرجون.)
المنظر الثالث (سيليو)
سيليو :
ويل لمن يسلم نفسه غض الإهاب إلى حب لا أمل فيه، ويل لمن يستسلم إلى الأحلام على غير بينة مما تقوده إليه ولا علم بما هو ملاق جزاء ما يهب من حب. ومثله مثل من يستلقي في رخاوة بزورق يذهب به قليلا قليلا بعيدا عن الشاطئ، فلا يصيب إلا لمحات من أودية مسحورة ومروج خضراء وسراب متهافت بأرض الأحلام، وقد حملته الأمواج قصيا حتى لتوقظه الحقيقة فإذا به بعيد عن غايته بعده عما خلف من شاطئ، فلا هو يستطيع مواصلة السير، ولا هو يستطيع العودة إلى حيث كان. (يسمع عزفا)
ما هذا الحفل؟ من القادم؟ أليس هو أكتاف؟
المنظر الرابع (سيلو - أكتاف، وقد تنكر في عباءة مقدودة من الأمام وعلى رأسه قناع يمثل ذئبا وبيده مطرقة.)
أكتاف (مخاطبا من معه في حفل التنكر، الذين لا يرون من المسرح) :
كفى أيها الإخوان، عودوا إلى منازلكم، كفى ركلا اليوم (مخاطبا سيليو وقد نزع قناعه)
وأين أنت يا سيدي من أحزانك المشرقة!
سيليو :
أكتاف، أبك مس؟ ما هذه الحمرة التي تلطخ منك الخدود؟ وما هذه الأسمال التي تنكرت بها؟ أما تستحي ونحن في وضح النهار؟
أكتاف :
وأنت سيليو أما بك مس بدورك؟ ما هذا البياض الذي يلطخ خديك؟ ومن أين لك بهذا الرداء الأسود الفضفاض؟ أما تستحي وسط هذا الحقل؟
سيليو :
كنت في سبيلي إلى منزلك.
أكتاف :
وأنا أيضا في سبيلي إلى منزلي، وما أدري عن أمره شيئا، وقد غادرته منذ ثمانية أيام!
أكتاف :
لي عندك رجاء.
أكتاف :
تكلم سيلو، تكلم ولدي العزيز، أتريد مالا؟ لقد نفد كل ما أملك.
أتريد سيفي، هاك مطرقة! تكلم! تكلم! سلني ما تريد.
سيليو :
وإلى متى تبقى بعيدا عن بيتك؟ ثمانية أيام تبقى بعيدا عن منزلك، سنأتي على حياتك يا أكتاف.
أكتاف :
لن آتي عليها بيدي أيها الصديق، كلا لن يكون ذلك أوانه، لأهون على نفسي أن أموت حتف أنفي من أن أجهز على حياتي.
سيليو :
ولكن أليست الحياة التي تحياها ضربا من الانتحار؟
أكتاف :
مثلي مثل راقص فوق حبل بأرجله حذاء فضي وبين يديه عصا الاتزان، وقد علق بين الأرض والسماء، وحوله ميمنة وميسرة وجوه مسنة ضئيلة جعداء، وأشباح متهافتة شاحبة، وغرماء أيقاظ، وأهل، وداعرات، حشدوا جميعهم في كتيبة من الوحوش، تتعلق بردائه، وقد أخذ كل يجذبه ناحيته فما لاتزانه من بقاء، وقد انتشر من حوله كل قول زائف وكل كلام مصطنع، فما يرى إلا سحبا تتجهمه بكل نبوءة مخيفة حتى لكأنها طيور سوداء ترفرف بأجنحتها فوق رأسه، وأما هو فحاث السير من شرق إلى غرب، وما أن ينطلق منه بصر إلى أسفل حتى تدور منه الرأس، وما أن يرتفع بصر إلى أعلى حتى يزل منه القدم، فهو أمضى من الريح، وما ليد أن تمتد إليه، فتحمله على إراقة قطرة واحدة مما يشرب من نخب مرح. هذا مثلي أيها الصديق العزيز. هذه صورة حياتي.
سيليو :
ما أسعدك بما أصابك من مس.
أكتاف :
وما أحوجك إلى مس، تصيب به السعادة، ولكن قل لي ماذا ينقصك لتكون سعيدا؟
سيليو :
تنقصني راحة النفس، ينقصني ذلك الرضاء الذي يجعل من الحياة مرآة تنعكس عليها الأحداث برهة ثم تولي إلى غير رجعة. إن استدنت لاحقتني وخزات الضمير، تلتمسون من الحب مزجيا للفراغ وفيه شقاء حياتي وما لك علم أيها الصديق بمدى الحب، الذي يختلج في فؤادي، ها قد مضى شهر وأنا بعيد عن كتبي أهيم ليل نهار حول هذا المنزل. بأية نشوة أقود جوقتي الصغيرة تحت هذه الشجيرات، وقد أخذت أشعة القمر تطالعنا ؟ جوقتي الصغيرة وقد قمت عليها أوقع ما تتغنى به عن جمال ماريان، ولكم امتد بصري عبثا يلتمس محياها من منفرج النافذة، ولكم وددت أن لو أسندت جبينها المشرق إلى حافتها!
أكتاف :
ومن هي ماريان هذه؟ أتعني زوجة ابن عمي؟
سيليو :
هي بعينها، زوجة شيخنا كلوديو.
أكتاف :
لم أرها في حياتي، ولكنها ولا شك زوجة ابن عمي، وكلوديو هو الرجل الذي يصلح لها، بصرني بلبانة نفسك سيليو.
سيليو :
لقد أخفق كل ما احتلت به لأبلغها أمر حبي، وقد نشأت بدير وهي تخلص الود لزوجها كما تحرص على واجبها، وقد أغلقت بابها دون شباب المدينة كلها؛ فما لأحد أن يجد إليها سبيلا.
أكتاف :
أهي جميلة؟ وفيم السؤال؟ ألست تحبها؟ دعنا نقدر للأمر!
سيليو :
هل لي أن أصارحك القول؟ وهبني فعلت، أتعدني ألا تسخر مني؟
أكتاف :
دعني أسخر وصارحني القول.
سيليو :
ما أظن بابها مغلقا دونك وأنت من ذوي قرباها.
أكتاف :
ذلك لا علم لي به، وهب الأمر كذلك، فلسنا كالحزمة المتماسكة، ولا صلة بيننا إلا أن تكون مراسلة، ولكن ماريان تعرفني اسما، أتريدني أن أكون لك عندها شفيعا؟
سيليو :
كم من مرة حاولت منها دنوا فتخاذلت مني المفاصل، ما رأيتها إلا تقطعت أنفاسي حتى لأحسب قلبي قد صعد إلى ما بين الشفتين.
أكتاف :
وهذا إحساس تبينته في نفسي، ومثلنا عندئذ مثل صائد يطارد غزالا ولى عنه بخطى قصيرة فوق ما جف من أوراق غابة كثيفة، وقد أخذت الأغصان تنحدر في حفيف عن جوانبه فيما يشبه حفيف الثوب، وإذا بصائدنا يحبس من أنفاسه المتصاعدة وقد أمسك عن السير وسكن كل ما به، إلا قلب متلاحق الضربات.
سيليو :
لم خلقت كذلك؟ ولم لا أحب تلك المرأة كما لو كان المحب أنت أو كانت المحبوبة غيرها؟ وفيم حزني وإطراقي مما تشرق له أسارير رجل مثلك ويتهلل محياه، وتنصرف إليه نفسه كما ينصرف حديد إلى قوة جاذبة؟ ولكن ما الحزم وما الإشراق وما الحقيقة إلا أشباح، وما تقديسها إلا خيال أو جنون ، وما الجمال إلا جنون ، وكلنا رجل يخطو مكسوا بهالة شفافة تشمله من رأس إلى قدم تهيئ له من عوالم الرؤيا غابات وأنهارا ووجوها قدسية، حتى لكأن الكون رقعة سحرية تحليها ألوان لا عداد لما بينها من دقيق الفوارق، أكتاف، أكتاف، النجدة، النجدة.
أكتاف :
ما أحب غرامك إلى نفسي سيليو، وقد سرى بنفسك سريان بنت الدن، ها هي يدي أبسطها لنجدتك، أمهلني قليلا، ها هو النسيم يخطر بوجهي فاستجم أفكاري، عهدي بماريان مبغضة لي وإن لم يسبق لنا لقاء وهي بعد دمية رقيقة لا تحفل بغير نزواتها كالطفل المدلل.
سيليو :
أستحلفك ألا تضللني ولتفعل بعد ذلك ما تشاء، ومن اليسير تضليلي، وكيف لي أن أوقي نفسي الخديعة في أمر لا أريد أن آتيه بنفسي؟
أكتاف :
وما الرأي لو نصحتك بتسلق الجدران؟
سيليو :
وما جدوى ذلك ما دامت لا تحبني.
أكتاف :
ولم لا تكتب لها؟
سيليو :
لأنها تمزق رسائلي أو تعيدها إلي.
أكتاف :
ولم لا تلتمس لحبك هدفا غيرها؟
سيليو :
كيف السبيل وأنفاس حياتي بين يديها، تنفث فيها النار من شفتيها إن أرادت، وتخمد وهجها إن شاء هواها، وإنه لأهون على نفسي أن أموت في سبيلها من أن أعيش لغيرها. هس ها هي خارجة!
أكتاف :
دعني فإني سائر لحديثها.
سيليو :
عجبا أفي أسمال تسير إليها؟ أصلح من سيماك ونح عنك غيرة الجنون هذه.
أكتاف (وهو يخلع عباءته) :
ليكن ما تريد، وأنا بعد - عزيزي سيليو - والجنون صنوان، يعزني كما أعزه، فما ينهض بيننا نزاع، إن أمرته أطاع وإن أمرني أطعت، ولا تخش علي من ذلك شيئا، ومثلي مثل طالب يمرح في عطلة تراه يرقص عشية، يولي منه عقله حينا ويعاوده حينا، ولا عقل لي إلا نزوات نفسي، وسبيلي هو أن أسلم للحكاة قيادها فتسير في يسر، حتى لو أنه طلب إلي أن أحادث ملكا لما حادثته بغير ما أنا محدث به متعة عينيك.
سيليو :
لقد اختلطت مني المشاعر، لا، لا تحادثها.
أكتاف :
ولم؟
سيليو :
لست أدري لذلك سببا ولكني أخشى منك الخديعة.
أكتاف :
هذه يدي، وكيف لي أن أخدع أعز أحبابي، وما خدعت أحدا في حياتي. (يخرج سيليو.)
المنظر الخامس (أكتاف - ماريان)
أكتاف :
لا تصدفي عني ربة الجمال، لا تحرمي مولاك الخاشع من بعض لحاظك.
ماريان :
من أنت؟
أكتاف :
أنا أكتاف، ابن عم زوجك.
ماريان :
وهل أتيت لرؤيته، تفضل بالدخول فهو عائد عما قريب.
أكتاف :
لم آت لرؤيته، فليس لي أن أدخل الدار، وأنا بعد أن أخشى أن تخرجيني منها إن أخبرتك بما أتيت من أجله.
ماريان :
إذن لا تخبرني به ودعني أواصل السير.
أكتاف :
وكيف لي ألا أحدثك به ورجائي إليك هو أن تنصتي لي هنيهة، ما أقساك ماريان! لكم أنزلت لحاظك بالنفوس من آلام، ولكم خيبت عباراتك أمل من ألتمس منها شفاء. وفيم القسوة على سيليو؟
ماريان :
عمن تتحدث؟ وأي ألم أنزلت؟
أكتاف :
لقد أنزلت أقسى الألم، ألما لا أمل في النجاة منه، ألما مبرحا كلما نال من النفس ازدادت به ولعا حتى لينجي بلسم الخلاص، ولو حملته أعز يد، ألما تذبل الشفاء سمومه، وسمومه أعذب من الرحيق، ألما يذيب أقسى القلوب دموعا تتساقط كاللؤلؤ، ألما عز دواؤه وتقطعت عقول البشر دون برئه، ألما تغذيه الرياح المنطلقة وعطر الورود الذابلة وقرار الأغاني، ألما يستمد غذاءه من كل ما يحيط به، كما تجمع النحلة العسل من براعم روض.
ماريان :
وما اسم هذا الألم؟
أكتاف :
لينطق باسمه من هو أجدر مني بذلك، لتحدثك عنه أحلام الليل وغصون البرتقال، لتحدثك عنه نفثات الربيع، ابحثي عنه تحت غلالة الليل وأنت واجدته فوق شفتيك، وهو ألم لا يستقر اسمه إلا حيث تستقر حقيقته.
ماريان :
أتراه من الخطر بحيث يخيف كل من ينطق به أو يدافع عنه؟
أكتاف :
أترينه يا ابنة العم من الرقة بحيث تريدين أن أسمعك اسمه؟ لقد علمته سيليو.
ماريان :
لئن صح ما تقول فما كان ذلك عن قصد، وأنا بعد أجهل اسمهما معا.
أكتاف :
ومنية النفس أن تعرفيهما، وألا تفرقي بينهما بعد اليوم.
ماريان :
أصحيح ما تقول؟
أكتاف :
سيليو أعز أصدقائي، لو أني أردت أن أوقظ منك الفؤاد لقلت إنه في جمال ضوء النهار، وإنه فتى نبيل، ولأصبت الحق فيما أقول، ولكني لا أريد اليوم أن أبعث فيك إلا الرحمة؛ ولهذا أخبرك أنه حزين حزن الموت منذ أن وقع بصره عليك.
ماريان :
وهل الذنب ذنبي؟
أكتاف :
وما حيلته مع جمالك وأنت مسرح أفكاره؟ وحول منزلك ينفق سويعاته في الطواف، أما تصعد نغمات غنائه إلى منفرج نافذتك، أما دفعت مصراعا أو نحيت ستارا في ظلام الليل؟
ماريان :
ليغن من يريد وليطف من يشاء.
أكتاف :
ولكل أن يحبك إن أراد، ولكن أحدا لا يستطيع أن يخبرك بأمر هذا الحب، ما سنك يا ماريان؟
ماريان :
ما أعجبه من سؤال! وهبني كنت في الثامنة عشرة ماذا تريدني أن أفعل؟
أكتاف :
إذن لبقي لك خمسة أو ستة أعوام لكي تصبحي هدفا للحب، وثمانية أو عشرة تلتمسين فيها الحب، وما بقي فلعبادة الله.
ماريان :
أحق ما تقول؟ إذن لوجب علي أن أنفق أيامي في محبة كلوديو زوجي وابن عمك.
أكتاف :
لن تجدي من زوجك وابن عمي إلا فقيها من فقهاء الريف، لا! إنك لا تحبين كلوديو.
ماريان :
ولا سيليو، وفي استطاعتك أن تخبره بذلك.
أكتاف :
ولم؟
ماريان :
لم يبق إلا أن تسألني لم وقفت أستمع إلى حديثك، إل اللقاء يا سيد أكتاف، وكفى ما كان من مزاح.
المنظر السابع (تبيا - كلوديو - أكتاف)
كلوديو (إلى تبيا) :
أنت على حق.
أكتاف (إلى كلوديو) :
عم مساء يا ابن العم.
كلوديو :
عم مساء (إلى تبيا)
أنت على حق.
أكتاف :
عم مساء يا ابن العم.
كلوديو :
عم مساء، عم مساء.
المنظر الثامن (تبيا - كلوديو)
كلوديو :
أنت محق وامرأتي كنز من الطهر، وبم أصفها وهي مثال الفضيلة؟!
تبيا :
أتظن ذلك يا سيدي؟
كلوديو :
وهل في استطاعتها أن تمنع من يغني تحت نافذتها؟ وأما ما يبدو عليها من قلق فمصدره ما فطرت عليه من مزاج، ألم تر إلى والدتها كيف قالت بهذا الرأي نفسه عندما كاشفتها بالأمر؟!
تبيا :
وفي أي أمر رأت ما رأيت؟
كلوديو :
رأته في أمر من يتغنون تحت نافذتها.
تبيا :
ما في الغناء من عيب، ولطالما انطلق به لساني.
كلوديو :
ولكن إجادة الغناء فن عسير.
تبيا :
عسير على مثلي أو على مثلك ممن لم تهبهم الطبيعة نعمة الصوت، ولم يغرسوها في نفوسهم، ولكن أما ترى إلى ممثلي المسرح بأي مهارة يجيدون هذا الفن؟
كلوديو :
ولكنهم قوم يقضون أعمارهم في المسرح.
تبيا :
وكم تحسب أجر كل منهم؟
كلوديو :
أجر من؟ المستشارين؟
تبيا :
لا، المغنين.
كلوديو :
لست أدري! ولكني أعلم أن المستشار يتقاضى ثلث ما أتقاضى، ورؤساءهم الضعف.
تبيا :
لو أني كنت قاضيا وكنت متزوجا وكان لزوجتي عشاق لقضيت فيهم بنفسي.
كلوديو :
وبكم سنة كنت تقضي فيهم؟
تبيا :
كنت أقضي فيهم بالموت، إذ ما أجل أن ننطق بمثل هذا الحكم بصوت عال.
كلوديو :
ولكن الذي ينطق بالحكم هو كاتب الجلسة لا القاضي.
تبيا :
ولكن لكاتب جلستكم امرأة جميلة.
كلوديو :
بل للرئيس، ولقد تناولت معها العشاء أمس.
تبيا :
وللكاتب كذلك، وعشيقها هو الفارس الذي سيأتي الليلة.
كلوديو :
أي فارس؟
تبيا :
الفارس الذي طلبته.
كلوديو :
لا داعي لحضوره بعد الذي حدثتك به منذ هنيهة.
تبيا :
وإلى أي حديث تشير؟
كلوديو :
إلى حديثي عن زوجتي.
تبيا :
ها هي مقبلة.
المنظر التاسع (تبيا - ماريان - كلوديو)
ماريان :
أتدري ما حدث لي وأنت تجول في الحقول؟ لقد زارني ابن عمك.
كلوديو :
أي ابن عم تقصدين؟ اذكري اسمه.
ماريان :
أكتاف، جاءني ينقل إلي حب سيليو، من هو هذا؟ أتعرف هذا الرجل؟ وهل لي أن أرجو منك أن تمنع كليهما من دخول منزلنا.
كلوديو :
نعم أعرفه، هو ابن جارتنا هرميا، وبم أجبته؟
ماريان :
لندع ذلك جانبا ولتفهم ما رجوت منك، مر رجالك ألا يدعوا أحدا منهما يلج بابنا، إني أتوجس منهما خيفة، وبودي تجنبهما.
المنظر العاشر (تبيا - كلوديو)
كلوديو :
ما رأيك تبيا في هذه المغامرة، أحسب أن شباكا قد نصبت تحتها.
تبيا :
أتظن ذلك يا سيدي؟
كلوديو :
ولم لم ترد أن تخبرني بما أجابت به؟ إن فيما حدثت به لجرأة، ولا أقل من أن أعرف جوابها على ذلك، وما أحسب صاحب القيثار إلا ابن هرميا بعينه.
تبيا :
إغلاق بابك دونهما هو خير وسيلة لإبعادهما.
كلوديو :
دع الأمر بين يدي، وأنا محيط أم زوجي بما أستكشف من أمر.
تبيا :
ها هي.
كلوديو :
من؟ أم زوجتي؟
تبيا :
لا، بل جارتنا هرميا، ألم نتحدث عنها منذ هنيهة؟
كلوديو :
نعم تحدثت عنها كأم لسيليو، وهذا حق يا تبيا.
تبيا :
ليكن سيدي، وها هي قادمة وحولها ثلاثة من الخدم، إنها لسيدة جليلة.
كلوديو :
إنها لموفورة الثراء.
تبيا :
وأحسبها أيضا على خلق، هل لسيدي أن يبادرها بالحديث.
كلوديو :
أتظن ذلك؟ أيحق لي أن أحادث أم رجل سأقيم له من يطعنه هذا المساء؟ أأحادث أمه، لا، إن هذا لا يتفق مع ما عهدته فيك يا تبيا من حرص على المواضعات، هلم تبيا لنعد إلى الدار.
المنظر الحادي عشر (ملفوليو - هرميا - خادمان)
هرميا :
أقمتم بما أمرت به؟ أطلبتم إلى الموسيقيين الحضور.
ملفوليو :
نعم سيدتي، سيكونون رهن أمرك هذا المساء وبالأصح.
هرميا :
وماذا تعني بذلك، هل أعددتم العشاء كما أمرت؟ خبروا ولدي عن أسفي لعدم إمكاني رؤيته. ومتى خرج؟
ملفوليو :
لم يخرج قط، وكيف له وهو لم يعد بعد إلى الدار طيلة الليل؟
هرميا :
إن ما تقوله لهذر، لقد تناول ولدي العشاء معي مساء أمس، ثم اصطحبني إلى المنزل، هل حملتم إلي مكتبة اللوحة الزيتية التي ابتعتها هذا الصباح؟
ملفوليو :
لو أن والده ما زال حيا لتغير الحال.
هرميا :
لكن الأمر سيظل كذلك ما دامت أمه حية. من وكل إليك القيام على سلوكه يا ملفوليو، نصيحتي إليك ألا يلقى ولدي بطريقة وجه شؤم وألا يسمعك تتمتم بين شدقيك، وإلا فيا ويلكم إذ لن يترك أحد منكم تحت سقف داره.
ملفوليو :
ما تمتمت قط، وليس وجهي وجه شؤم، سألت أي ساعة خرج سيدي، فأجبتك أنه لم يعد إلى المنزل طيلة الليل، ومنذ شغله الحب لا نراه إلا لماما.
هرميا :
وما هذا الغبار الذي يعلو كتب سيليو؟ وما لي أرى أثاثه مبعثرا؟ وما لي لا أستطيع أن أعثر على ما أريد أو أبحث في كل مكان؟ وهل لك أن تقف دون إنجاز ما يطلب إليك، لتنفق ما تبقى لديك من جهد في التدخل فيما لا يعنيك من أمر، كفى، أمسك لسانك.
المنظر الثاني عشر (هرميا - سيليو)
هرميا :
أي ولدي، بم تمني النفس اليوم؟
سيليو :
أماني أمانيك يا والدتي.
هرميا (آخذة بيده) :
عجيب أن تود مشاطرتي أماني، وأما أحزاني فلا! يا لها يا سيليو من قسمة ظالمة! لك أن تخفي عني بعض سرك، ولكن ما ينبغي أن تكتم عني ألما يرعى فؤادك، ألما يصرفك عن كل ما حولك.
سيليو :
ليس لدي ما أكتمه عنك، ولو أني كنت أشكو ألما لسألت الله أن يجعله من تلك الآلام التي تحيلنا دمى.
هرميا :
عندما كنت في العاشرة أو في الثانية عشرة من عمرك كانت كل آلامك صغيرة أو كبيرة منوطة بي، وبنظرة قاسية أو مبهجة كنت أبعث في فؤادك الحزن أو السرور، ولكم ألقيت بجبينك المشرق إلى أحضان والدتك وكأنما علقت بشغاف قلبها، أما الآن فما أنا إلا كأخت لك، ولكني إن عجزت عن تبديد آلامك لا أعجز عن مشاطرتك إياها.
سيليو :
أي أمي، وكنت أنت أيضا مشرقة الجمال، ولطالما نظرت إلى قدك الممشوق وقد غشته غلالتك الرقيقة، فخيل إلي أني أرى ملكة الجمال، أي أمي لقد أوحيت الحب ولطالما أرسلت القيثار تنهداتها إلى نافذتك المنفرجة قليلا، ولكم شققت سبيلك وسط الجموع الحافلة تلقين عليها نظراتك الهادئة المترفقة الجليلة وماء الحياة يجري قويا تحت إهابك، لم تحبي أحدا، ولقد مات حبا من أجلك أحد أقرباء والدي.
هرميا :
يا لها من ذكرى!
سيليو :
أي أمي، أرجوك إذا لم يكن في ذلك ما يبعث الأسى في نفسك ويستدر الدموع من عينيك أن تقصي علي ما كان، وأن تفصلي خبره.
هرميا :
وا حزني! وفيم تحريك الرماد يا ولدي؟ ومن عجب أن تطلب إلي ما طلبت.
سيليو :
حدثيني، أضرع إليك.
هرميا :
ليكن ما تريد. لم يكن لي سابق معرفة بوالدك، وفي ذات صباح عهد الفتى أورسيني إلى والدك أن يطلبني له زوجة. وأتانا والدك زائرا فتلقاه جدي وما يتفق ومكانته وأفسح له من مودتنا، وكان أورسيني زوجا يطلب، ولكني رغم ذلك رفضت الزواج منه، ذلك أن والدك بتزكيته أورسيني لدي قضى على ما كنت أحمل له من حب قليل لم ينله إلا بعد جهد متواصل، وما كنت أدري مدى ما يحمل لي من هوى فتاك، حمل والدك إليه جوابي فوقع بين ذراعيه مغشيا عليه، ثم ترحل في سفرة طويلة عاد منها بثروة طائلة، وقلب حسبته أقل أسى، وإذا بوالدك يلعب دورا غير دوره الأول فيطلبني لنفسه بعد أن فشل في محاولته الأولى، ولقد أخلصت له الحب، وكان فيما أوحاه إلى أهلي من تقدير ما لم يدع مجالا لترددي، وتقرر الزواج في نفس اليوم، وفتحت لنا الكنيسة أبوابها بعد ذلك ببضعة أسابيع، وعاد أورسيني من سفره إذ ذاك وأتى إلى والدك صاخبا مؤنبا، وقد اتهمه بخيانة ما ائتمنه عليه من ثقة، وبأنه قد كان السبب فيما لاقى من رفض، وأضاف: ستبلغ ما تريد إن كان حتفي هو ما قصدت إليه، هال والدك ما سمعه فخف إلى لقاء والدي يطلب إليه أن يعينه على تبصير أورسيني ببراءته مما اتهمه به، لكن وا أسفاه! كان السيف قد سبق العذل، إذ وجدوا فتانا البائس مضرجا بدمائه في غرفته وقد طعن نفسه بسيفه.
سيليو :
وهكذا كانت نهايته.
هرميا :
نعم، ويا لها من نهاية قاسية.
سيليو :
كلا يا أماه، فلا قسوة في موت ينجينا من حب لا أمل فيه، وكل ما أشفق عليه من أجله هو أنه اعتقد بخيانة صديقه.
هرميا :
ولكن ما بك يا سيليو ولم تشيح برأسك؟
سيليو :
وأنت والدتي ما هذا الانفعال الذي يبدو عليك، وا حزني، ما أحسب إلا أني كلفتك جسيما إذ طلبت إليك قص ما كان، وما أظنني إلا مخطئا فيما فعلت.
هرميا :
لا عليك من أحزاني، ما هي إلا ذكريات، وأحزانك أفعل بنفسي منها، وما أحسبها إلا مستقرة بقلبك الفتي زمنا مديدا ما لم تحاول تحطيمها في نفسك ولست أسألك أن تحدثني عنها وأنا أراها بعيني رأسي.
وما دمت ترغب في مشاطرتي شجوني فهلم ندفع عن أنفسنا سويا، بالمنزل أصدقاء أوفياء دعنا نلتمس السلوى بصحبتهم، ولنحاول ولدي أن ننعم بالحياة ولنرسل نظرات مرحة أنا إلى الماضي وأنت إلى المستقبل، هلم يا سيليو، هات يدك.
الفصل الثاني
المنظر الأول (بيبو - أكتاف)
أكتاف :
تقول إنه قد تخلى عن قصده.
بيبو :
وا أسفاه ما أجدره بالرحمة، وقد بلغ حبه أقصاه، ولكني أحسبه يحذرك كما يحذرني ويحذر كل ما يحيط به.
أكتاف :
كلا وأستشهد بالسماء أنه لن يخيب له قصد، وها أنا أحس في نفسي من العناد قدر ما في نفس ماريان، ولي في هذا العناد نشوة، سينجح سيليو أو أكون أعجز الرجال.
بيبو :
وهل لك أن تحمله على غير ما يريد؟
أكتاف :
نعم هذا ما أريد، وإرادتي لن تخالف ذلك إرادته، ثم إني حريص على أن أطيح بالسيف رأس السيد كلوديو قاضي القضاة، وما أحمل له إلا البغض والمقت والاحتقار.
بيبو :
لتخبره إذن بما تريد، ها هو قادم، أما أنا فنافض يدي من الأمر بعد اليوم.
المنظر الثاني (أكتاف - سيليو)
أكتاف :
أصحيح سيليو أنك متخل عن قصدك؟
سيليو (وبيده كتاب) :
وماذا تريدني أن أفعل؟
أكتاف :
أصحيح أنك تحذرني؟ وما لي أراك شاحب الوجه؟ من أين جئت؟
سيليو :
من لدى والدتي.
أكتاف :
وما سر حزنك هذا؟
سيليو :
أوه لست أدري، أرجوك، أرجوك العفو، ليكن ما تريد، اذهب إلى ماريان وخبرها أنها خدعتني، أودت بي، وأن حياتي عالقة بلحاظها.
أكتاف :
عجب! فيم التحدث عن الموت؟ ما الذي يسوقك إلى ذلك.
سيليو :
لم لا وهو دائما نصب عيني؟
أكتاف :
الموت؟
سيليو :
نعم الحب أو الموت.
أكتاف :
وما معنى ذلك؟
سيليو :
الحب والموت صنوان، أكتاف، يسيران يدا بيد، وكما يتفجر الحب بأرق أنواع السعادة كذلك يضع الموت حدا لأشق الآلام.
أكتاف :
أكتاب هذا؟
سيليو :
نعم، وأظنك لم تقرأه.
أكتاف :
ربما، لكن ما دمنا قد قرأنا كتابا، فلم لا نقرأ بقية الكتب؟
سيليو (قارئا) :
كل حب عميق يوهن القلب ويذبله حتى ليرغب في الموت، لم؟ ذلك ما لا علم لي به.
أكتاف :
ولا أنا.
سيليو (يقرأ) :
قد يكون ذلك لحداثة عهده بالحب، وقد يكون لأن بيداء الحياة تخيف نظرات المحب؛ ولأن الدنيا تلوح له غير جديرة باشتعال هذا المحب إذا عجز عن أن يعثر بتلك السعادة الجديدة الفذة المطلقة التي صورها له قلبه.
أكتاف :
لكن ما مصدر هذا السخط؟
سيليو (قارئا) :
فالفلاح والعامل الخشن الذي لم يصل التهذيب إلى نفسه والبنت الحبيبة تراهم يرتعدون ما خطر الموت لهم بخاطر، فإذا تسرب حب إلى قلوبهم بلغت بهم الجرأة أن يستقر منهم البصر فوق قبر من القبور. والموت، أكتاف، سبيلنا إلى الله حتى لتتخاذل مني الأعصاب كلما ذكرته، عم مساء أيها الصديق العزيز.
أكتاف :
إلى أين؟
سيليو :
لدي ما يشغلني بالمدينة هذا المساء، إلى اللقاء ولتفعل ما تريد.
أكتاف :
يخيل إلي أنك ملق بنفسك إلى اليم، ولكن خبرني أتخشى هذا الموت الذي حدثتني عنه.
سيليو :
كم وددت لو خلدت لي ذكرا في النزال والمعارك، كم وددت أن لو حملت شعار ماريان أصبغه بدمائي. كم وددت أنه لو نهض من ينازعني حبها ولو كان جيشا بأكمله، إذن لأسلمت حياتي ضحية بين يديها، ويدي قوية قدر عجز لساني، الذي عجز عن بث بنات صدري، وما أشك في أني مغادر الحياة قبل أن أستطيع حملها على الإيمان بحبي، ومثلي مثل سجين يقضي صامتا بسجنه.
أكتاف :
ما هذا سيليو؟ ما هذا الشطط؟ السماء تظل غير ماريان، هيا نتناول العشاء سويا ولنسخر من ماريان.
سيليو :
إلى اللقاء، إلى اللقاء، لقد حان موعد الافتراق، وموعدنا غدا أيها الصديق.
المنظر الثالث (أكتاف وحيدا)
أكتاف :
اسمع عني سيليو، سنجد لك ماريان أخرى رقيقة وديعة وداعة الحمل، وفي الحق إن الأمر لعجيب، وأنا بعد غير يائس من النجاح، وما أنا إلا كرجل وهبته الطبيعة ملكة الفصاحة، وقد طلب إليه أن يوقف فصاحته على نفع إنسان آخر، ولكن أنى لي بالحظ المواتي، وإنه لأحب إلى نفسي أن أزج بهذا الصديق في مفاوز الهلاك من أن أخفق فيما عهد إلي به، ومثلي مثل المقامر يجازف بمال غيره فتضطرم منه النفس فوق اضطرامها كما لو كان المال ماله والخراب نازل به، ولكن ها هي ماريان خارجة، وأكبر الظن أنها ذاهبة لصلاة المساء، ها هي.
المنظر الرابع (أكتاف - ماريان)
أكتاف :
كيف يطيب لك النوم أيتها الحسناء وقد صدف قلب سيليو عنك إلى سواك وإلى نافذة أخرى. يصعد ما يعزف من أغاني المساء.
ماريان :
وا أسفاه يا لسوء الطالع إن أفلت مني حب كهذا، ولكنها الأحداث تضافرت علي وقد همت بحبه.
أكتاف :
أحقا ما تقولين؟
ماريان :
نعم أقسم لك بحياتي إنني كنت معتزمة حبه هذا المساء أو غدا صباحا أو يوم الأحد على أكثر تقدير، وكيف أشك في النجاح وأنت رسوله، يجب أن نفترض أن حبه لي كان حبا صينيا أو عربيا، وإلا فما حاجته إلى وسيط يفصح لي عن حبه كما لو كان معقود اللسان.
أكتاف :
اسخري ما شئت فلم نعد نخشى منك شيئا.
ماريان :
أو أن حبه رضيع لم يغادر بعد ثدي أمه وأنت مرضعة، وقد أخذته للرياضة بأنحاء المدينة فسقط بظاهرها على رأسه.
أكتاف :
لقد اكتفت مرضعته الحكيمة بأن تسقيه لبنا كالذي سقيت بسخاء، وها أنا لا أزال أرى على شفتيك بعضا منه يختلط بكلامك.
ماريان :
وما اسم هذا اللبن الشهي؟
أكتاف :
ركود الحس، أنت لا تعرفين حبا ولا بغضا، فأنت كورد البنغال لا شذى لك ولا شوك.
ماريان :
تشبيه رائع، ولكن قل لي أأعدته قبل المجيء، ثم لي عندك رجاء وهو أن تعطيني مسودات خطبك لألقنها ببغائي، وذلك إذا لم يكن من عادتك حرقها.
أكتاف :
وأي تجريح لك في هذا التشبيه! الورود وإن حرمت الشذى لا تعدم الجمال، بل إن الأمر لعلى عكس ذلك، وأجمل الورود ما خلقه الله بغير شذى؛ ولهذا يلوح لي أن شكواك لا موضوع لها.
ماريان :
يخيل إلي يابن العم أنك لا تفطن إلى حرج موقف النساء ، للنظر قليلا إلى موقفي ، حكم القضاء أن يبحني سيليو أو يعتقد ذلك، وبهذا الحب حدث سيليو أصدقاءه، وقرر أصدقاؤه أن لا بد لي من حبه أو ألقى حتفي، واجتمع رأي شباب نابلي على إرسالك لي كخير ممثل لهم لتحمل إلي ما تقرر من وجوب حبي لسيليو في ظرف أسبوع أمعن البصر في الأمر ثم خبرني أية امرأة تلك التي تصدع لأمر كهذا فيما حدد لها من زمان ومكان، وهبها فعلت أما نراها تصبح مضغة في الأفواه ويتردد اسمها كقرار لأناشيد الخمور، وهبها رفضت أما تتهم بأنها أقسى قلبا من أضرى الوحوش وأبلد حسا من التماثيل وهب أحد المارة لقيها في سبيلها إلى الكنيسة وكتاب الصلوات بيدها أما له أن يستوقفها ليخبرها أنها كورود البنغال لا شذى لها ولا شوك.
أكتاف :
يا ابنة العم، لا تغضبي يا ابنة العم.
ماريان :
أليس في العفة والوفاء ما يضحك، وسلامة الخلق وكبرياء القلب الذي يؤمن بقدره ويحرص على احترام نفسه ليحمل الغير على احترامه، أليس كل هذا حلما باطلا كالحباب يتبخر ما مسته تنهدات فتى من فتيان العصر.
أكتاف :
لقد أخطأت الحكم على سيليو وعلي.
ماريان :
ولكن ما المرأة في نظركم؟ تزجية فراغ، شبح باطل تتظاهرون بحبه وتتشدقون به، ما المرأة؟ سلوى لكم إذا مرت بكم قلتم ها هي متعة لنا، وإن قال قائل منكم همسا «بل سعادة حياة كاملة» وقد نكس بصره دونها وتركها وسبيلها سخرتم منه وقلتم حديث عهد بالنساء (تخرج).
المنظر الخامس (أكتاف - خادم فندق)
أكتاف :
ترا ... ترا ... بم، بم ... ترا - ديراه لا ... لا، ما أعجبها امرأة. (ينادي خادم الفندق)
هيه! هولا! (يخرج الخادم من الفندق)
أحضر لي بهذه الخميلة زجاجة من شراب ما.
الخادم :
وأي شراب تريد يا مولاي؟ أتريد شرابا من دموع المسيح؟
أكتاف :
فليكن، فليكن. (يكتب بضع كلمات بالقلم الرصاص.)
أسرع بالبحث عن السيد سيليو في الطرقات المجاورة وهو يرتدي معطفا قاتما وسترة أقتم، ولتخبره أن أحد أصدقائه يشرب وحيدا من «دموع المسيح» ثم أذهب بعد ذلك إلى الميدان وأعط هذه (يعطيه ورقة من مفكرته)
إلى المسماة روزالند، وهي امرأة حمراء الشعر لا تبرح نافذتها.
المنظر السادس (أكتاف ثم كلوديو وتبيا - أكتاف وحيدا)
أكتاف :
لست أدري ما الذي يأخذ بخناقي وفي نفسي ما يشبه كآبة يوم غب عيد ربما كان من الخير أن أتناول عشائي هنا، وما أشعر بحاجة إلى النوم وهي مثل جمود الحجر. (يدخل كلوديو وتبيا)
آه ما أجملك قاضيا يابن العم كلوديو، إلى أين تحث الخطى.
كلوديو :
وإلام تقصد بذلك، سيدي أكتاف؟
أكتاف :
بلغني أنت قاضي القضاة، إنك جميل الأوضاع.
كلوديو :
أوضاع اللغة أم أوضاع الخلقة؟
أكتاف :
اللغة، اللغة ورداؤك مشحون بلاغة وذراعاك قوسان ساحران.
كلوديو :
أذكر عرضا سيدي أكتاف أن أصابعك قد تآكلت على مطرقة بابي.
أكتاف :
وكيف ذلك يا من كله حجا؟
كلوديو :
بدقك إياها يا من كله إحساس.
أكتاف :
ولتضف كلوديو بجسارة فرط احترامي لمطرقة بابك، ولكن باستطاعتك أن تجدد طلاءها دون أن أخشى تلطيخ أصابعي.
كلوديو :
وكيف ذلك يا من كله نكات؟
أكتاف :
بتجنبي إياها يا من كله سخرية.
كلوديو :
ولكني ما عهدتك كذلك، وقد أمرت زوجتي خدمها بإغلاق بابها في وجهك في أول فرصة.
أكتاف :
يخيل إلي أن منظارك قصير النظر أيها القاضي يا من كله لطف، وقد أخطأت مجاملتك هدفها.
كلوديو :
لا غبار على منظاري يابن العم يا من كله بديهة، ألم تسمح لنفسك بإعلان الحب لزوجتي.
أكتاف :
ومتى كان ذلك أيها القاضي النبيه؟
كلوديو :
عندما تحدثت عن صديقك سيليو، أيها الرسول الميمون، ولسوء الحظ سمعت كل شيء.
أكتاف :
وبأي أذن أيها النائب النزيه؟
كلوديو :
بأذن زوجتي التي قصت علي كل ما كان أيها العصفور الرشيق.
أكتاف :
كل شيء أيها الزوج المعبود؟ وبم؟ بأذنها الساحرة؟
كلوديو :
استبقت جوابها لها يا أنس الحانات، وهو ما كلفتني بإبلاغك إياه.
أكتاف :
ولكني لست ملزما بسماعك أيها السجل الوقور.
كلوديو :
إذن فليسمعك جوابها بابي إذا شئت أيها الظهر الممتطى.
أكتاف :
وهذا ما أسخر منه أيها القضاء المحتوم، وما بي من حاجة إلى ذلك ليهنأ لي العيش.
كلوديو :
لتهنأ بالعيش كما تريد أيها البوق المتواصل في ظلام الليل، أتمنى لك ألف سعادة. (يخرج ومن خلفه تبيا.)
أكتاف :
لا عليك من ذلك يا ترياس السجن، ونم مستريحا كما تفعل بقاعة الجلسات.
المنظر السابع (الخادم - أكتاف)
الخادم :
الآنسة الحمراء غير موجودة بالنافذة، وإذن فلن تحضر.
أكتاف :
إلى حيث ألقت وأنت معها.
الخادم :
والسيد صاحب المعطف غير موجود بالطرقات المجاورة، ولكني لقيت خادمه وعهدت إليه بإحضاره (يدخل الفندق).
أكتاف :
ملعونة أيتها الحياة، أهكذا أجبر على تناول العشاء وحيدا، ما الحيلة (يحمل الخادم زجاجة من النبيذ وكأسا ويضعها على المائدة ثم يعود إلى الفندق)
عال، عال، هذا ما أريد (يجلس ويسكب النبيذ)،
الآن أستطيع أن أغرق أحزاني في هذا النبيذ أو هذا النبيذ في أحزاني آه! آه! لقد انتهت صلاة المساء، ها هي ماريان قادمة.
المنظر الثامن (أكتاف جالسا وماريان)
ماريان :
أما زلت هنا يا سيد أكتاف جالسا إلى المنضدة، أما ترى ما يحزن في أن ترفع الكأس وحيدا.
أكتاف :
لقد ولى عني الكل وأصبحت أخادع البصر، فأنتزع من نفسي جليسا لي.
ماريان :
كيف ذلك؟ ألم يبق لك من صديق يشاطرك وقر الوحدة؟
أكتاف :
أصارحك القول، لقد دعوت إحدى صديقاتي، أعني روزالند، فإذا بها تتناول العشاء بالمدينة كذوي الحيثية.
ماريان :
وهذا لا ريب من نكد الطالع، وما أحسب إلا قلبك متألم لما خلفت من فراغ.
أكتاف :
إنه لفراغ أعجز أن أعبر عن أثره بنفسي، وعبثا أحاول أن أسكبه بكأسي هذه ورأسي يكاد ينشق لطول ما سمعت من عزف نواقيس المساء.
ماريان :
لكن خبرني يابن العم؛ هذا النبيذ الذي تعبه أليس مما يباع دنا بقرش؟
أكتاف :
لا تسخري من نبيذي، فإنه حقا «دموع المسيح» وإنه لمعتق.
ماريان :
يدهشني ألا تشرب نبيذا مما يباع دنا بقرش، عليك به، أرجوك.
أكتاف :
ولم توصيني به؟
ماريان :
جربه، وعندي أنه لا فرق بينه وبين ما تحتسي الآن.
أكتاف :
بينهما من الفرق ما بين الشمس والمصباح.
ماريان :
كلاهما سيان.
أكتاف :
حفظني الله منه، لم هذه السخرية؟
ماريان :
أتحسب أن بينهما فرقا كبيرا؟
أكتاف :
لا شك.
ماريان :
كنت أحسب أن النبيذ كالنساء، أي قلب غفل ذلك الذي تحمل، دعه يستوضح شفتيك ما يجب أن يفعل، تستنكف أن تشرب نبيذ العوام وتقبل على نسائهم، وروح هذا النبيذ الكريم ووحش شعر هذا الكأس الذهبي، ومزاج هذا العصير الطيب، الذي احتضنته حمم الفيزوف تحت حرارته المتقدة، كل ذلك قد يقودك إلى ما يشبه النشوة المبتذلة، ولو أنك حملت على احتساء مرتخص النبيذ لمجته شفاهك، شفاهك لا تقبل كل نبيذ، وقلبك يفتح لكل حب! عم مساء يابن العم ولتخف إليك روزالند تفرج من همك.
أكتاف :
هل لك أن تسمعي مني أيتها الحسناء كلمات قليلة: كم من الزمن يجب أن أدلل هذه الزجاجة لأنال منها ما أشتهي، وبها - على حد قولك - روح قدسية، فهي لا تشبه نبيذ العامة إلا فيما يشبه خادم سيده، ومع ذلك ألا ترين ما هي عليه من وداعة؟ وما طلبتها ألا خفت إلي من مخبئها وما تمهلت أن تنفض عنها الغبار، بل أتتني حثيثا تمنحني [...]
1
برهة ثم تنقضي. وسرعان ما تساقط تاجها المعطر ترابا، ولست أكتمك أنها كادت تمر جميعا بشفتي في حرارة القبلة الأولى.
ماريان :
وهل تحسب أنها أعز من ذلك، وهبك فقدت سر نكهتها، أما تلمسته إن صدق حبك في آخر قطرة منها ولو كانت بفوهة بركان؟
أكتاف :
لقد أنزلتها قدرها، وعناية الله لم تفجر نبعها بقمم الجبال العاتية ولا بأعماق الكهوف السحيقة، بل علقتها بقطوف العنب الدانية على السفوح الخضراء، وفي الحق إنها لشراب عزيز نادر، ولكنها لا ترفض أن تنال كما أنها لا تحتجب عن ضوء الشمس، ومن حولها تطن متلهفة أسراب النحل، صباح مساء، وإلى ظلال كرومها يأوى عابرو السبيل، ولقد جف ريقهم عطشا، فتجود عليهم من خيراتها مغدقة مما يمتلئ به قلبها من عذب الدموع، آه ماريان! لكم فتك بالناس من وهب الجمال، وما العفة التي تزين الجمال إلا ضرب من البخل، وإنا لنستشعر لضعفه من الرحمة فوق ما نستشعر لقسوته، عمي مساء يابنة العم، ألهم الله سيليو النسيان.
المنظر التاسع (كلوديو - ماريان)
كلوديو :
أتحسبينني شبحا يقام ليخيف الطيور.
ماريان :
ومن أين لك بهذه الفكرة الجميلة.
كلوديو :
أتحسبين أن رجلا في قدري يجهل مرمى الكلام، أو يمكن أن يسخر من سذاجته كما يسخر من سذاجة راقص متجول.
ماريان :
ما بك هذه الليلة؟
كلوديو :
أتحسبين أني لم أسمع قولك، ليغلق بابنا دون هذا الرجل أو صديقه إن طرقه، وبعد ذلك تريدين ألا أرى ضيرا في أن أراك تناقلينه الحديث تحت هذه الخميلة.
ماريان :
تحت أي خميلة رأيتني؟
كلوديو :
رأيتك بعيني رأسي تحت خميلة هذه الحانة، وما لزوجة قاض أن تتناول الحديث تحت خمائل الحانات، وإنه لمن العبث أن تطلبي إغلاق بابك دون من تبادلينه النرد متهتكة في وضح النهار.
ماريان :
ومتى حظرت علي الحديث إلى ذوي قرباك.
كلوديو :
عندما يكون ذوو قرباي من عشاقك، وخليق بك عندئذ أن تتجنبيهم.
ماريان :
من عشاقي أكتاف! أبك مس؟ لم يقل أحد إنه غازل كائنا من كان.
كلوديو :
إنه زير نساء، قعيد حانات.
ماريان :
لو كان كذلك لما صح لك أن تقول إنه من عشاقي وإنه ليحلو لي أن أناقل أكتاف الحديث تحت خميلة حان.
كلوديو :
لا تخرجيني عن طوقي، بإسرافك في القول، وفكري مليا فيما تفعلين.
ماريان :
وهبك خرجت عن طوقك، ماذا أنت فاعل؟ خبرني، وإني لفي لهفة إلى معرفة ذلك.
كلوديو :
سأحظر عليك رؤيته، ومناقلته الحديث، سواء أكان ذلك بمنزلنا أو بمنزل الغير أو في الخلاء.
ماريان :
حقا، إن هذا لجديد تطالعني به، وأكتاف من ذوي قرباي حقا كما هو من ذوي قرباك، فلي أن أحادثه ما أردت في الخلاء أو في المنزل إن رغب في زيارتنا.
كلوديو :
اذكري هذه العبارة الأخيرة واعلمي أني قد أعددت لك جزاء قاسيا إن لم تصدعي لأمري.
ماريان :
دعني أساير أمر نفسي، ولتنزل بي ما تريد من جزاء، فما أقيم له أي وزن.
كلوديو :
ماريان، لنضع حدا لهذا الحديث، وأمامك أحد أمرين: إما أن تشعري بما في حديثك تحت الخمائل من استخفاف، وإما أن تثابري عليه فتحمليني على عنف يأباه جلال هذا الرداء. (يخرج كلوديو.)
المنظر العاشر (ماريان وحدها)
ماريان :
آه، ها هو (توجه الخطاب إلى الخادم)
اذهب وخبر هذا الشاب الذي تراه هناك يأتي أريد الحديث إليه، واسأله الحضور. (يدخل خادم إلى الفندق)
وهذا جديد، ماذا يظن بي، أي إثم اقترفت اليوم، ما هذا الثوب الخلق، إلام قصد «ستحمليني على العنف»، أي عنف؟! ليت أمي حضرت حديثنا! ولكنها دائما ترى ما يرى، بي حاجة إلى النزال، إنها لسذاجة مني! آه! لقد نبئت ذلك وكنت أعرفه وكنت أتوقعه، ولكن صبرا صبرا، لقد أعد لي جزاء صارما؟ ترى ما هذا الجزاء؟! بودي لو علمت ما يعتزم.
المنظر الحادي عشر (أكتاف - ماريان)
ماريان :
ادن أكتاف، إن لي معك حديثا، لقد فكرت فيما أخبرتني عن صديقك سيليو، قل لي لماذا لا يفصح بنفسه عما به.
أكتاف :
لسبب بسيط، هو أنه كتب إليك فمزقت رسائله، وأرسل إليك رسولا فألجمت لسانه، وتغنى تحت نافذتك فتركته بالعراء، أي وربي لقد أتعب نفسه وفيما فعل ما يفوق كل عناء.
ماريان :
تعني ... أنه التمس منك العون؟
أكتاف :
نعم.
ماريان :
إذن حدثني عنه.
أكتاف :
أجادة أنت؟
ماريان :
نعم، نعم جادة، وها أنا أنصت إليك.
أكتاف :
ما أحسبه إلا عبثا منك.
ماريان :
يا لك من شفيع يرثى له، تكلم وما عليك من عبثي أو جدي.
أكتاف :
فيم التطلع يمنة ويسرة، ما أحسب إلا أن الغضب آخذ بنفسك؟
ماريان :
أريد أن أترسم خطى بنات العصر، فأتخذ فارسا لخدمتي كما يقولون، وإن صح فهمي لما حدثتني به منذ قليل، ألست تلومني لأني أقسو على من يحاول الدنو مني وأنحي من يكلف بي؟ أليس هذا ما قصدت إليه بحديثك عن زجاجة النبيذ؟ ليكن ما تريد وها أنا متأهبة لسماع ما يقولون، لقد هددت وأهنت وإني لأسألك أأستحق كل ذلك؟
أكتاف :
كلا وألف كلا، وعكس ذلك تستحقين.
ماريان :
لا عهد لي بالكذب أو الخديعة؛ ولهذا لا أريد أن يستنزفني أحد، ولقد اعتاد الناس صغيرهم وكبيرهم أن يشقوا بحبهم دون أن تتهم محبوبتهم بإفك أو جرم. قلت إنه يعزف تحت نافذتي، وإنني أترك العازفين بالعراء ولسوف أتركهم ولكن لك عندي أن أفتح نافذتي وأن أعيرهم آذانا مصغية.
أكتاف :
أتسمحين أن أنقل إلى سيليو هذا الخبر؟
ماريان :
لتنقله إلى سيليو أو إلى سواه إن أردت، ولكني أسألك النصح أكتاف، وإليك أكل أمري، تكلم وقد أفضيت لك بما أرغب، ورغبتي أن أستمع إلى أغاني المساء تتردد الليلة تحت نافذتي، ولننظر بعد ذلك من سيحظر علي سماعها. (تقدم إليه شريطا من ثوبها.)
ها هو شعاري ليحمله من يريد.
أكتاف :
ماريان الآن وقد تفتحت لي نفسك لأمر ما، فقبلت الاستماع إلي، فإني مستحلفك أن تستمري كذلك لحظة أخرى ولتسمحي لي بالكلام.
ماريان :
وماذا تريد أن تقول؟
أكتاف :
إن كان في العالم رجل جدير بأن يستمع إلى حديث نفسك، أن يعيش إلى جوارك، وأن يموت من أجلك، فهذا الرجل هو سيليو، وأنا بعد مقدر عجزي تمام قدره، وها أنا أعترف بأن ما كلفت الدفاع عنه من هوى، ولا يجد في ما يستحق من لسان مفصح، وأما أنت يا متعة الشباب هلا فطنت إلى ما أودع قلبك وقلبه من فيض السعادة، وقد أخذ ينبثق فجر حياتكما وينتشر نداها المقدس بما آخى الله بين نفسيكما، وأما آلامه وما به من عذاب الأسى الذي لا تزيده قسوتك إلا رقة، والذي سيفنى دونه، فذلك ما لن أحدثك عنه، وفي الحق ماريان إنه سائر لحتفه، بأي لفظ أوجه إليك الحديث وكيف السبيل إلى بلوغ ما أريد منك، وما لي علم بلغة الحب، فليس لي إلا أن أرجوك أن ترددي البصر في أعماق نفسك، ونفسك لا ريب ناقلة إليك لغة نفسه، وهل في قدرة بشر أن يصل إلى نفسك؟ وها أنا أسألك وقد اعتدت عبادة الله، هل من دعاء أستطيع أن أحمله بنات صدري. (يركع أمامها.)
ماريان :
انهض أكتاف إذ لو قدم قادم فرآك راكعا واستمع إلى حديثك لظن بلا ريب أنك ما تزكي إلا نفسك.
أكتاف :
ماريان، ماريان، بحق السماء لا تسخري ولا تغلقي قلبك دون الضوء وقد أخذ ينفذ إليه أول شعاع منه.
ماريان :
أترى أنه لا ينبغي أن أبتسم.
أكتاف (ناهضا) :
إنك لعلى حق وما أجهل مدى الضرر الذي قد تحدثه صداقتي، وأنا خبير بنفسي، شاعر بكنهها، وما أحسب إلا أن حديثي هذا أشبه ما يكون بالعبث، ولكني أؤكد لك أن إحساسي بالعجز عن إيحاء الثقة لم يؤلمني في حياتي قدر ما يؤلمني الآن.
ماريان :
ولم ذلك وقد أنصت إليك، وما يروقني سيليو، ولا أريد أن أكون له، حدثني عن غيره، وليكن ذلك الغير من تريد.
أكتاف :
أيتها المرأة الأنثى لا يروقك سيليو ويروقك من عداه؟ لا يروقك رجل يحبك ويترسم خطاك، رجل يتمنى الموت راضيا بكلمة يفتر عنها فاك، لا يروقك هذا الرجل، وهو يفيض شبابا ويشرق جمالا ويسبح في بسطة من العيش حتى ليحقق كل ما تأملين من رجل، لا يروقك هذا الرجل ويروقك كل من دونه.
ماريان :
انزل عند رأيي، وإلا فلن تراني بعد اليوم. (تدخل إلى المنزل.)
المنظر الثاني عشر
أكتاف (وحيدا) :
ما أجهلك ماريان، وما دلال غضبك إلا هدنة عذبة وأنا بعد منح كبريائي لأترك لحسي إدراك مغزاها، وسيليو الذي سيجني ثمار ذلك.
المنظر الثالث عشر (أكتاف - سيليو)
سيليو :
لقد طلبت إلي الحضور أيها الصديق وها أنا ذا، ماذا تريد؟
أكتاف :
ألصق بقبعتك هذا الشعار وخذ سيفك وقيثارتك يا سيليو فقد دنونا من النجاح.
سيليو :
بحق السماء لا تسخر مني يا أكتاف.
أكتاف :
سيحلو المساء وسيطلع القمر بالأفق، وستقف ماريان وحيدة بنافذتها وقد قبلت أن تستمع إليك.
سيليو :
قل لي أحق ما تقول؟ أخبرني وربك لئن كان الحق ما ذكرت كنت عندي يا أكتاف أعز من الحياة، وإلا فما أقساك!
أكتاف :
ما حدثتك عنه هو ما اتفقنا عليه، أصلح من أوتارك وخذ رداءك الضافي وبيدك سيفك وعلى وجهك القناع، ولكن أعندك قناع؟
سيليو :
لا.
أكتاف :
لا! محب لا يملك قناعا في عيد يتنكر فيه كل شاب؟! أين عقلك؟ هيا خذ عدتك.
سيليو :
آه! ما لقواي تتخاذل؟!
أكتاف :
تشجع أيها الصديق، إلى الأمام، ستحمد لي صنيعي عند عودتك، إلى الأمام إلى الأمام، فقد أظلم الليل، (يخرج سيليو)
قواه تتخاذل، وأنا أيضا، فما أتممت عشائي فلنتمه جزاء ما أنفقت من جهد (ينادي)
هيه هيه، جيوفاني بيبو (يدخل إلى الفندق).
المنظر الرابع عشر (تبيا وكلوديو وماريان في الشرفة - وفارسان)
كلوديو (للفارسين) :
اتركاه يدخل حتى إذا وصل إلى هذه الخميلة هجمتما عليه (يخرج أحد الفارسين).
ماريان (بالشرفة لنفسها) :
من أرى؟ زوجي وتبيا؟
تبيا (مخاطبا كلوديو) :
وهبه دخل من الجانب الآخر؟
كلوديو :
من أي جانب يا تبيا؟! إذن لأخفق كل ما دبرت.
ماريان (لنفسها) :
ماذا يقولان؟
تبيا :
إلى هذا الميدان تنتهي عدة طرق ومن الممكن أن يأتي إليه القادم من اليمين أو اليسار.
كلوديو :
هذا حق، ولكني لم أفكر فيه.
تبيا :
وما العمل يا سيدي إن جاء عن اليسار؟
كلوديو :
إذن لكان عليك أن تنتظره بركن الحائط.
ماريان (لنفسها) :
يا ألله! ما هذا القول؟
تبيا :
وهبه أتى عن اليمين؟
كلوديو :
إذن ... إذ ... إذن لسلكت نفس المسلك. (يخرج الفارس الثاني.)
ماريان (لنفسها) :
كيف السبيل إلى تحذير أكتاف؟
تبيا :
ها هو يا سيدي، انظر إلى هذا الظل الممتد، إنه لرجل رحب القامة.
كلوديو :
لنتربص له جانبا ولنطعنه عندما يمكننا الطعن.
المنظر الخامس عشر (سيليو متنكرا - وماريان بالشرفة)
سيليو (مقتربا من الشرفة) :
ماريان، ماريان، هل أنت هنا؟
ماريان :
الفرار، الفرار يا أكتاف.
سيليو :
يا ألله ما هذا الذي أسمع؟
ماريان :
لقد ضرب القتلة نطاقا حول المنزل إذ تسقط زوجي حديثنا، وسوف تلاقي حتفك إذا تلكأت.
سيليو :
أفي حلم أنا أم قد بدلت شخصا غيري؟!
ماريان :
أكتاف، أكتاف، بحق الله لا تبطئ، وليكن من رفق الله أن تستطيع الخلاص وموعدنا غدا بالحديقة، وقت الظهر سأكون هناك. (تترك الشرفة.)
المنظر السادس عشر (سيليو - تبيا، تبيا يتبعه متخفيا)
سيليو (ملقيا قناعه شاهرا سيفه) :
أيها الموت تقدم إلى خلاصي، أكتاف أيها الغادر لتنزل بك تبعة دمي، ماذا تقصد وأي نفع ترجو من دفعي إلى هذا الشرك؟ ذلك ما أجهل، ولكني سأكشف عن الأمر وقد سرت إليه، ولتكن ما شاءت الأقدار، سأستطلع السر ولو لقيت بذلك حتفي. (يخرج ومن خلفه تبيا.)
المنظر السابع عشر (أكتاف وحيدا خارجا من الفندق)
أكتاف :
آه! أي سبيل أسلك؟ لقد عملت على سعادة الغير وما عساي ألتمس لنفسي الآن من لذة؟ وفي الحق أنها جميلة يندر أن نرى مثلها، وفي الحق أنها لامرأة جميلة، وإن في غضبها العذب لنشوة [...]،
2
من أين جاءت؟ ذلك ما لا علم لي به، وفيم السؤال عما يواتينا به القضاء من خير وما [...]
3
النرد من حكم: أولا لا يليق بي أن أختلس من صديق معشوقته وفي ذلك كل التبذل، ولقد كان لدي ما هو أهم: تناول العشاء، ومن البين أن سيليو على جوع، ولو أني أحببتك ماريان، لأبغضتني ولأغلقت بابك دوني، وما سبب كل ذلك، سببه إرادة القضاء، وما في هذا العالم سعادة أو شقاء، لقد كان سيليو في هذا الصباح أشقى الناس أما الآن ... (تسمع ضوضاء صامتة وقرقعة سلاح.)
ماذا أسمع؟ ما هذه الضوضاء؟
سيليو (بصوت مكتوم) :
الغوث!
أكتاف :
سيليو! الصوت صوته. (عاديا إلى السياج)
افتحوا وإلا حطمت السياج.
المنظر الثامن عشر (أكتاف - كلوديو)
كلوديو (وقد أخذ يظهر على المسرح) :
ماذا تريد؟
أكتاف :
أين سيليو؟
كلوديو :
لا أظن أن من عادته المبيت بهذا المنزل.
أكتاف :
لئن كنت قتلته، كلوديو، لألوين رقبتك بين يدي هاتين.
كلوديو :
أبك مس أم هذيان؟ ابحث ما شئت بالحديقة، وأما المنزل فلم يدخله أحد، ولو أنه طلب إلي أن أفتح بابي لقادم، لما فعلت. (يدخل أكتاف)، (كلوديو يدنو من تبيا قائلا):
هل انتهى كل شيء على نحو ما أمرت؟
تبيا :
نعم يا سيدي، اطمئن فلهم أن يبحثوا كما يريدون.
كلوديو :
والآن لنعن بزوجتي ولنرسل في طلب أمها. (يخرجون.)
المنظر التاسع عشر (ماريان وحيدة)
ماريان :
لا شك فيما كان، ولا مجال للخديعة، وقد رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت، ومن خلف المنزل ومن خلال هذه الأشجار رأيت أشباحا متناثرة هنا وهناك، وما هي إلا هنيهة حتى اجتمعت وانقضت عليه، وكانت قعقعة سلاح وصيحات احتضار وا أسفي عليك أكتاف، لقد خاتلوه حياته وساقوه غدرا إلى الموت، وإلا لثبت لهم بقلب جريء يا لها من قسوة! أكان فيما أتى من جرم ضئيل ما يستحق عليه الموت، لقد جاوزوا كل حد، وما كنت أحسب أن تصدر قسوة كهذه من عقل في مثل هذا الضيق، ولقد لهوت بالأمر وعبثت بالحديث عبث جنون، لا أقصد منه غير المزاح ومطاوعة نزوات النفس، آه لا بد لي من رؤيته والعلم بكل ما كان.
المنظر العشرون (ماريان - أكتاف) (يدخل أكتاف وسيفه بيده وقد أخذ ينظر في كل وجهة.)
ماريان :
من أرى؟ أأنت أكتاف؟
أكتاف :
نعم أنا، ماريان، لقد قضى سيليو.
ماريان :
سيليو؟ ماذا تقول؟
أكتاف :
نعم قضى سيليو.
ماريان :
يا ألله!
أكتاف :
نعم قضى، لا تسلكي هذا السبيل.
ماريان :
وإلى أين تريد أن أذهب، إني لسائرة إلى الهلاك، أكتاف، هيا نترك هذا المكان، هيا إلى الفرار، وما أظن كلوديو بالمنزل.
أكتاف :
لا، لقد احتاطوا للأمر، اختفوا من أمامي.
ماريان :
إني لعليمة به وما أحسب إلا أني سائرة إلى الهلاك، ولربما تبعتني إليه، هيا دعنا نغادر هذا المكان فإنهم لعائدون عما قليل.
أكتاف :
غادريه أنت إن أردت، وأما أنا فباق، فإن عادوا وجدوني، مهما يكن من أمر فإني لمنتظرهم إلى جانبه في نومه الأخير.
ماريان :
وأنا لا تتركني وحيدة، أما تدري إلى أي أخطار تسلمني، وقسوتهم لا تعرف حدودا.
أكتاف :
أنظر إلى هذا المكان خلف الأشجار وسط هذا الظلام، هنالك إلى ركن الجدار يرقد صديقي الوحيد، وعليه سأقوم وما أبالي من سواه.
ماريان :
حتى ولا بحياتك وحياتي.
أكتاف :
حتى ولا بذلك، انظري، قلت إلى هذا المكان، لم يعرفه أحد قدر معرفتي به، ولو أنني أقمت على قبره تمثالا من المرمر وغشيته بغلائل الحداد السوداء لكان في ذلك أصدق صورة له، فلقد غشى حزن رقيق كمال نفسه المعذبة، وما كان أسعد امرأة تحظى بحبه.
ماريان :
وهلا كان يدفع عنها إن داهمها خطر؟
أكتاف :
نعم، كان يفعل ذلك ما في هذا ريب وما كنت أقدر منه على التفاني في الوفاء، ولو أنه حظي بحب المرأة التي يبغي لأوقف عليها حياته كما لاقى الموت من أجلها بقلب جسور.
ماريان :
وأنت أكتاف أما كنت تفعل مثلما فعل؟
أكتاف :
أنا؟ ما أنا إلا متهتك لا قلب له، وما للنساء عندي أي قدر، وما أوحى من حب إلا بمثل ما أحب نشوة عارضة كحلم قصير، وما مرحي إلا قناع وقد عقم مني القلب، آه، ما أنا إلا نذل، ودمه ما زال يطلب الثأر. (يلقي بسيفه إلى الأرض.)
ماريان :
وكيف تستطيع الثأثر له، وكلوديو شيخ لا يستطيع نزالا وهو بالمدينة أعز جانبا من أن يخشى منك ضيرا.
أكتاف :
لو أنني كنت القتيل من دونه وكان قتلي فداء له، لثأر لي، فلي احتفروا هذا القبر ولي شحذوا سيوفهم، وبه أنزلوا ما أعدوا لي من موت، وداعا مرح الشباب وداعا، بسطة النفس، وداعا أيتها الحياة الحرة، المشرقة بسفوح الفيزوف، وداعا ولائم المرح وأحاديث العشية، وداعا أغاني المساء تحت الشرفات المذهبة، وداعا أشواط القبس وخمائل الغابات، وداعا وداعا أيها الحب وأيتها الصداقة، لقد خلت مني الأرض.
ماريان :
أواثق أنت من ذلك أكتاف، لم تودع الحب؟
أكتاف :
لست أحبك يا ماريان، وإنما أحبك سيليو. (ختام)
مقدمة الليالي
أحب ألفريد دي موسيه الكاتبة الشهيرة جورج صاند حبا مبرحا، وسافر معها في رحلة إلى مدينة البندقية بإيطاليا حيث سقط مريضا، وعاده أحد الأطباء الإيطاليين، وإذا بجورج صاند تتعلق بهذا الطبيب وتهجر الشاعر المريض الذي عاد إلى باريس محطم النفس، وبعد فترة استرد الشاعر أنفاسه، فصاغ من هذه المحنة قصائده الرائعة المسماة بالليالي.
وها هي ثلاث من هذه الليالي، وهي التي اختار لها الشاعر صورة الحوار يجريه بينه كشاعر وبين إلهة الشعر.
ليلة أكتوبر
الشاعر :
لقد تبدد الألم الذي أضناني كما تبدد الأحلام حتى لتشبه ذكراه البعيدة ما يبعث الفجر من ضباب خفيف يتطاير وندى الصباح.
إلهة الشعر :
ما بك إذن شاعري ؟ ما هذا الألم الخفي الذي أقصاك عني؟ حتى ما أزال أشقى به، ما هذا الألم الذي خفي عني وإن طال ما أبكاني.
الشاعر :
كان ألما مبتذلا مما يصيب الجميع، ولكننا نحسب دائما لخبلنا الجدير بالرحمة أن ما يتسرب إلى قلوبنا من ألم لم يتسرب مثله إلى قلب أحد سوانا.
إلهة الشعر :
لا، ما في الألم من مبتذل إلا ألم نفس مبتذلة، دع عزيزي هذا السر ينطلق من فؤادك، افتح لي نفسك وتكلم واثقا من أمانتي فإله الصمت أخ للموت ولكم شكا متألم ألمه فتعزى عنه، ولكم نجى القول قائله من وخزات الضمير.
الشاعر :
إذا كان لا بد اليوم من الكلام عن ألمي فوالله ما أدري بأي اسم أسميه، أكان حبا، أم كان جنونا، أم كان كبرياء، أم كانت محنة وما أدري من سيفيد من سماعه، وأنا بعد قاص عليك نبأه، وقد خلونا إلى أنفسنا في جلستنا هذه إلى جوار الموقد، خذي قيثارتك وتعالي إلى جانبي ثم أيقظي ذكرياتي بعذب نغماتك.
إلهة الشعر :
شاعري أسائلك أولا: أشفيت حقا من ألمك؟ وعليك أن تذكر اليوم أنك متحدث عنه في غير جفوة ولا هوى، كما عليك أن تذكر أني رسول السلوى، فليس لك أن تزج بي في شهوات نفسك التي أنزلت بها الخراب.
الشاعر :
نعم شفيت من ألمي شفاء يحملني على الشك في أني ألمت يوما ما. لا، لا تخافي. وما دام هذا وحيك، نستطيع أن يثق كل منا بأخيه، ما أعذب أن نبكي، وما أعذب أن نبتسم كلما ذكرنا آلاما نستطيع أن ننساها.
إلهة الشعر :
دعني أحنو بشفقة على قلبك، وقد أغلقته دوني، حنو الأم الحنون على مهد طفلها المحبوب. تكلم يا عزيزي، وها قيثارتي تنصت إلى جرس صوتك، فتصحبه بنغماتها الباكية المتهافتة، وأما أشباح الماضي فها هي تمر في فيض من الضوء كالرؤية المشرقة.
الشاعر :
أيام جدي ما حييت غيرك! أيتها الوحدة المقدسة تباركت آيات الله أن عدت إليك، إلى معبد أفكاري! أيتها الجدران لطالما هجرتك، وتلك المقاعد علاها غبار الهجران ، وأنت مصباحي الوفي. هذا قصري هذا عالمي الصغير.
إلهتي، إلهتي المقدسة تقدست رحمة الله إذ نعود فنغني سويا، نعم سأفتح لك نفسي، سأقص عليك كل ما كان لتعلمي مبلغ الألم الذي تستطيع أن تحدثه امرأة وأنتم تعلمون رفاق نفسي، أية امرأة تلك التي أذلت رقابي كما يذل العبد سيده، وما أبغضه من نير، لقد أضناني فذهب بقوتي وشبابي، ولكني لا أكذبكم أني لمحت السعادة إلى جوارها.
أذكر أننا كنا نسير عشية جنبا إلى جنب فوق الرمال الفضية وأشجار الحور تهدينا أشباحها عن بعد، فأذكر جسمها الجميل وقد تعطف بين ذراعي والقمر يغمرنا شعاعه ثم، لننس كل ذلك، وهل كنت أعلم أين يقودني القضاء؟ من يدرينا لعل غضب الله كان يلتمس له يومئذ هدفا وإلا لماذا أنزل بي ما ينزل بالمجرم من عذاب؟
إلهة الشعر :
لقد مرت بنفسك ذكريات مشرقة، فلم لا تعود إليها؟ وهل من أمانة القصص أن تنكر ما مر بك من أيام سعيدة؟ إذا كان القضاء قد تنكر لك يوما ما أيها الشاب فلم لا تبتسم كما ابتسم لك من قبل عندما عمر قلبك بالحب.
الشاعر :
لا، لا أريد أن أبتسم لغير آلامي، إلهتي قلت لك إني أريد أن أقص عليك - هادئ النفس من كل حفيظة - ما كان لي من آلام وأحلام وهذيان لتعلمي متى وأين وكيف نزل بي ما نزل.
أذكر - إلهتي - أننا كنا في ليلة محزنة من ليالي الخريف، ليلة تكاد تشبه ليلتنا هذه، وقد أخذت همسات الريح بحفيفها المطرد الممل ترنح في عقلي المضني حالك الآلام، وقفت في النافذة أنتظر عودتها وقد رهف مني السمع، فإذا بضيق شديد يأخذ بالنفس وينذرني بخيانتها، وكان الطريق قاتما موحشا إلا من بعض أشباح مرت وبيدها مشاعل والريح تهب من حين إلى حين ببابي المنفرج قليلا فيصل إلى نفسي ما يشبه أنين البشر، لست أدري عندئذ إلى أي الهواجس أسلمت نفسي، ولكن عبثا حاولت أن أستجمع قواي المتخاذلة، ودقت الساعة فسرت بي رعدة قوية، ولكنها لم تعد، وظللت محني الرأس أقلب البصر بين الطريق وجدران المنازل، آه، ذلك أني لم أطلعك على تلك النار القاسية التي أضرمتها تلك المرأة اللعوب بين جانحي، لم يكن بقلبي حب غير حبها وكان الموت أحب إلي من يوم لا أقضيه إلى جوارها، ومع ذلك أذكر أنني قد حاولت بكل قواي أن أحطم أغلالي فدعوتها ألف مرة بالخائنة الحانثة، وأخذت أعدد كل ما أنزلت بي من محن، ولكن ذكرى جمالها، لسوء طالعي، ما كانت تمر بخاطري إلا هدأت جميع آلامي وبددت محني، وطال بي الانتظار حتى مال النوم برأسي إلى حافة الشرفة، ثم فتحت جفني على ضوء القمر الناهض فصفا بصري [...]،
1
وإذا بوقع أقدام، وقع خفيف، على الحصباء يأتيني من منعرج الطريق.
يا إلهي، اللهم رحمتك، هي بعينيها.
ودخلت إلى الغرفة، من أين أتت؟ ماذا فعلت هذه الليلة؟ أجيبي؟ ماذا تريدين مني؟ لم أتيت في هذه الساعة؟ أين امتد هذا الجسم الجميل طوال الليل؟ بينما أنا بالشرفة وحيدا ساهد الجفن باكي العين، في أي مكان وبأي مخدع، ولمن ابتسمت أيتها الخائنة الجسور؟ أتستطيعين بعد ذلك أن تأتيني مانحة شفتيك لقبلاتي؟ ماذا تبغين مني؟ ما هذا الظمأ المخيف الذي تحاولين به جذبي إلى أذرعك المضناة؟ اذهبي عني، اذهبي، ما أنت الآن إلا شبح من أحببت، عودي إلى القبر الذي نهضت منه، دعيني أنسى إلى الأبد أيام شبابي، ويل لك أيتها المرأة الداكنة الأعين، لقد طوى حبك المشئوم ربيع حياتي ونضرة أيامي، دعيني أومن - كلما ذكرتك - أنني كنت في حلم تقضى.
إلهة الشعر :
هدئ من روعك، أضرع إليك، لقد بعثت نبراتك الرعدة بنفسي، أيها العزيز المحبوب، يوشك جرحك أن يدمي من جديد، وا حسرتاه، أكان إذن بهذا العمق؟ أما لآلام تلك الحياة أن تحث خطاها إلى النسيان! انس ما كان ونح عن نفسك اسم تلك المرأة الذي لا أريد أن أفوه به.
الشاعر :
ويل لك، لقد كنت أول من علمني الخيانة وقد ذهب بعقلي الرعب والغضب، وقد علمني صوتك وابتسامتك ونظرتك الخادعة ، كيف أتنكر لكل سعادة ولو لم يكن منها إلا الشبح، لقد ألقى بي شبابك وسحر جمالك إلى اليأس، وأصبحت وقد رأيتك تبكين أشك حتى في صدق الدموع.
ويل لك، لقد كنت في سذاجة الطفل، كالزهرة يبللها ندى الصباح حتى تفتح قلبي لحبك، وكان قلبا غريرا فخدعته آثامك، ولكم كان أيسر عليك أن تتركي له طهره.
ويل لك، لقد كنت مصدر أول ما أعرفت من ألم وعنك تفجرت دموعي، وثقي أنها ما تزال تتدفق، وأنها لن تجف، وهي تجري من جرح ما له أن يندمل، ولكني سأغسل قلبي في هذا النبع المر وسأخلف به - إن صدقت آمالي - ذكرياتي البغيضة.
إلهة الشعر :
كفى، أيها الشاعر، فما ينبغي أن تجرح يوما قضيته إلى جانب حسناء خادعة وقد لمحت فيه سرابا من السعادة، احترم حبك ما أردت أن تحب، وإذا كان من الشاق على ضعفنا البشري أن نصفح عما يصيبنا الغير به من ألم، فلنوق أنفسنا لظى الحفيظة، يجب أن يرقد ما همد من عواطفنا مخلفا رمادا، رمادا، رمادا مقدسا ما يجوز أن تمتد إليه يد بعدوان، ثم خبرني: لماذا وقد أخذت تقص علي نبأ بلواك الحارة لا تريد أن ترى فيما كان حلما تقضي أو حبا حبا، أتحسب أن القضاء يصدر عن غير حكمة؟ أتظن أن الله قد بلاك غير واع بما يفعل؟! من يدرينا لعل بلواك سبيل نجاتك.
اذكر، أيها الطفل، أنك مدين لها بتفتح قلبك، والمرء طفل يهذبه الألم، وما لنفس أن تفطن لمكنونها أو يصيبها ألم قوي، وتلك نواميس الطبيعة القاسية، ولكنها نواميس قديمة قدم القضاء المحتوم، وما لنا من مناص عن أن يغمرنا الألم ندفع به ثمن ما نصيب من سعادة، أما ترى النبت لا يقوى أو يبلله الندى؟ ومثلنا مثله تغذينا الدموع، وقديما رمزوا للسعادة بشجرة محطمة كستها الزهور وندتها قطرات المطر، ألم تقل إنك قد شفيت من جنونك؟ وأنت بعد في عنفوان شبابك، مكتمل السعادة، معززا أينما حللت، ولي أن أسألك عما كنت فاعلا لو أنك لم تعرف البكاء عندما تختلس من الحياة مسراتها العارضة؟ أكنت تستطيع أن تقدرها قدرها؟ أكنت تستطيع أن ترفع الكأس مشرق القلب وقد نادمك خل قديم فوق منبسط العشب والشمس آفلة للغروب؟ أليس ذلك لأنك عرفت الألم فقدرت السرور، ثم كيف كنت تستطيع أن تحب الزهر والغياض والمروج، وأن تطرب لأناشيد «تتراك» وتغريد الطيور، ثم ميكيل أنج وسحر الفنون، وشكسبير وآيات الطبيعة لا، ما نعمت بكل ذلك إلا لأنك وجدت بها آثار الزفرات القديمة، وكيف كان لك أن تفهم جمال انسجام السماء وصمت الليل وهمس المياه ما لم يسبق أن حملتك الحمى والسهاد - حيث كنت - على النزوع إلى الراحة الأبدية.
ثم أما تنعم اليوم بمحبوبة أخرى تسكن إلى جوارها في ظلمة الليل وقد وضعت يدك في يدها فتزيد ذكريات شبابك من ابتسامتها عذوبة، ثم أما تذهب معها كما ذهبت من قبل إلى أعماق الغابات المزهرة وفوق الرمال الفضية وأشجار الحور وسط معبد الطبيعة؟ أما تهديك السبل أشباحها كما هدتك من قبل، وعندما يغمرك القمر بشعاعه أما يتعطف بين أذرعك جسم جميل كما تعطف آخر من قبل؟ وهبك لاقيت الحظ في طريقك أما كنت تسير خلفه مغنيا من جديد؟ فيم الشكوى إذن؟ لقد قوى الألم عود الأمل في نفسك، لم إذن تأبى إلا أن تبغض ألم شبابك وقد جعلك ذلك الألم خيرا مما كنت.
ولدي العزيز! ما أجدر تلك الخادعة برحمتك، وإن أسالت دموعك، ارحمها فهي امرأة وقد أراد الله أن يلقنك سر السعادة إلى جوارها وبما أنزلت بك من آلام - لقد كلفتها جسيما - ومن يدري لعلها أحبتك صدقا، ولكنه القضاء شاء أن يحطم قلبك على يديك، كانت على علم بكنه الحياة وقد علمتك إياه، ثم احتضنت ثمرة آلامك حبيبة أخرى، ارحمها فقد مر حبها كحلم حثيث، لقد رأت جرحك داميا فلم تستطع له شفاء - وأنا أعلم - وأرجوك أن تصدقني، إن دموعها لم تكن كلها كاذبة، ولو أنها كانت كذلك لما أغناك ذلك عن واجب الرحمة وأنت تعرف كيف تجب.
الشاعر :
حقا تقولين ، إن البغض إثم، ينساب في نفوسنا انسياب الأفعى فترتعد منا القلوب، اسمعي عني إلهتي، هذا قسمي أشهدك عليه: بحق أعين تلك الحبيبة الزرقاء، بحق صفاء السماء، بحق تلك النجمة اللامعة التي تحمل اسم إلهة الحب «فينوس» وقد أخذت تتلألأ بالأفق، كاللؤلؤ أصابتها رعشة خفيفة، بحق جلال الطبيعة ورحمة الله بحق ضياء النجوم الهادئة الذي يهدي عابر السبيل، بحق الغياض والرياض والغابات الملتفة، بحق قوة الحياة وروح الوجود، أقسم إني طارح عن ذاكرتي ما تخلف بها من آثار حب عاثر مخلفا له وسط ظلام بعيد.
وأما أنت، فها أنا أتركك بعد أن دعوتك غير مرة بأرق الأسماء، ولتكن ساعة فراقنا، ساعة صفح شامل، ليصفح كل عن أخيه.
ولتفصم عرى السحر الذي ربط قلوبنا أمام الله، وها أنا أذرف بين يديك دمعة تصحب وداعي الأخير.
والآن إلهتي المشرقة الجمال، هيا بنا إلى غرامنا، أسمعيني من نغماتك السارة، كما سبق أن سمعت منك والحياة في بدئها.
وها هو العشب المعطر ينتفض لقرب الصباح، تعالي نوقظ حبيبة قلبي ولنذهب نجني زهر الحديقة، تعالي نرى الطبيعة الخالدة تطرح غلائل النوم، سنبعث معها إلى الحياة عندما تبعث الشمس أول شعاعها.
ليلة مايو
إلهة الشعر :
أي شاعري! خذ العود واشجني بقلبلة، ها براعم الورد تتفتح عن أزهارها وها الربيع يبعث هذا المساء فتلهب حرارته نسمات الرياح وقد أخذت البلابل تأوي إلى ما اخضر من غصن في انتظار ضياء الفجر، أي شاعري! خذ العود واشجني بقبلة.
الشاعر :
ما أحلك ظلمة الوادي؟ ما هذا الشبح الذي لاح لي عن بعد، أتى من المروج إلى حافة الغابة وكأن أقدامه تمس الحشائش؟ يا لها من رؤية عجيبة! ها هي تتلاشى ثم تختفي!
إلهة الشعر :
أي شاعري! خذ العود فها الليل يرنح النسيم في ردائه المعطر، وها عذارى الورود تضم أوراقها غيرى على صدفي الفراش فتميته من ثمل، أصغ إلى صمت الوجود واذكر متى أحببت، وها هو الشفق الآفل يرسل خلال أغصان الصفصاف الداكنة آخر أشعته وداعا ما أرقه! سيزدهر هذا المساء كل ما في الوجود ، وستمتلئ الطبيعة الخالدة عطرا وهمسات وحبا، كمخدع سعيد بعشاقه.
الشاعر :
ما لقلبي يخفق حثيثا؟ ما الذي يختلج به فيملأني رعبا أما يدق طارق ببابي؟ وما لمصباحي المتهافت يبهرني ضياؤه! إلهي القدير! ما لجسمي يرتعد! من القادم! من المنادي! لا أحد، إني وحيد والساعة تدق! أيتها الوحدة أيها الشقاء [...].
2
إلهة الشعر :
أي شاعري خذ العود! ها رحيق الشباب يختمر في عروق الآلهة! وها قلبي تضنيه رغبات الحس الملحة! وها هي الرياح تهب جافة فتضرم النار بشفتي! انظر أيها العزيز المتواني! انظر كم أنا جميلة، أما تذكر قبلتنا الأولى عندما مسك جناحي فشحب لونك وتساقطت دموعك فارتميت بأحضاني ملتمسا السلوك من ألم مرير! وا أسفا! لقد عاجلتك محن الحب صغيرا! وها أنا هذا المساء أموت أملا، ولا بد لي من الضراعة حتى أصل إلى ضوء النهار، أوما تملك لي من سلوى؟!
الشاعر :
هل النداء نداؤك ربتي البائسة، وهل أنت المنادي أيتها الزهرة المشرقة، أيها الملاك الخالد! وقد امحى حبي من كل قلب إلا من قلبك الأمين، نعم ها أنت بشعرك الذهبي، أنت الأخت الحبيبة وها رداؤك الذهبي يغمرني في أعماق الليل فتنساب أشعته إلى قلبي.
إلهة الشعر :
أي شاعري، خذ العود فها أنا رمز حبك الخالد آتيك في ظلام الليل، وقد رأيتك حزينا صامتا، آتيك هابطة من السماء لأبكي معك كما يهبط الطيور لتحتضن فراخها! هلم إلى عما أشك في أنك تألم أيها العزيز وما أريد أن ينفرد بك ذلك الألم المضني! ما لقلبك يئن! لقد أصبت من دنياك حبا على نحو ما نرى دنيانا! أصبت ظلا من سعادة وسرابا من سرور! هلم إلي ولنغن سويا أمام الله لنغن هواجس نفسك! لنغن ما أخطأك من سرور وما انصرم عنك من الألم، ولنرتحل سويا في قبلة إلى عالم المجهول لنبعث ما نستطيع من أصدقاء حياتك، لنتحدث عن السعادة والمجد والجنون! وليكن كل ذلك حلما! أول حلم يعرض، لنبحث عن مستقر للنسيان، لنرتحل سويا وحدنا فالعالم كله ملك لنا، ها هي أيقوسيا الخضراء، وها هي إيطاليا الداكنة، وها هي أمي أرض اليونان حيث العسل عذب، ويلبون أرجوس مدينة المقابر ومسا الإلهية حيث يطيب للحمام أن يشدو، وها هي صفحة البلبون المنغيرة بما يكسوها من [أف...جار]!
3
والتتاريز الأزرق وخليج الفضة الذي تنعكس من مرأته طيور اليم! قل لي بأي أحلام ذهبية ستنطلق أغانينا! وعلام ستسيل منا الدموع، ثم خبرني عندما هب الضياء بأجفانك هذا الصباح، أي ملاك حنا فوق رأسك الساجي فهز ما يحلي رداءه الشفاف من سوسن، وقص عليك همسا ما ترآى في أحلامه من حب!
سنتغنى الألم أم الحزن أم الفرح؟ أنسكب الدم على دروع رجال الحرب أم نعلق العاشقين بأراجيح الحرير أم ننثر الزبد من أفواه الخيل العادية أم نتغنى بتلك اليد الطاهرة التي اقتبست من قبلة السماء ضياء نشعل به تلك المصابيح التي لا عداد لها فتضيء ليل نهار، وقودها حياة طاهرة وحب خالد! أم نصيح «بتره كان»، لقد حان الجين إلى الظلام أم نغوص إلى أعماق المياه نلتمس أصدافها! أم نسوق المعز إلى مر الحياض أم نظهر السماء على ما في الأرض من أحزان! وما لنا لا نقفو أثر الراعي على سفوح الجبال الوعرة وقد تطلعت إليه ظبية باكية متضرعة، وصغارها منتظرة عودتها، ولكنه أخذها وذبحها وألقى إلى الكلاب اللاهثة قلبها الذي ما يزال ينبض، وما لنا لا نصف عذراء متوردة الخدود وقد سارت إلى الصلاة يتبعها خادمها ساهمة البصر إلى جوار أمها وقد نسيت صلاتها عندما انفرجت شفتاها، إذ استرعى منها السمع - وفرائصها ترتعد - صدى مهماز فارس جسور تردد في قباب الكنيسة، أو نوجه القول إلى أبطال فرنسا القدماء طالبين إليهم أن يسموا إلى قمم الأبراج مدججين بالسلاح ليبعثوا تلك الأغنية الساذجة التي أنطقت ألسنة شعرائهم بما خلفوا من مجد، أو نسدل على مقطوعات الغرام الرخوة ثوبا أبيض، بل ما لبطل واترلو لا يقص علينا حياته، وما أزهق من أرواح قبل أن يأتيه رسول الليل على قمة تله الأخضر فنقضي عليه بضربة جناح ويجمع يديه إلى صدره، وما لنا لا نرشق ذلك الهجاء الحقير بسهام محكمة وقد سامه الجوع إلى الخروج من خموله إلى كيل السباب لما انتشر من أمل على جبهة ذوي العبقرية، وقد انتفخ حقدا وعجزا فخف إلى تيجان الغار يعضها بأنيابه، فتدنسها أنفاسه، أي شاعري خذ العود فما أستطيع بعد اليوم صمتا، وها جناحي يحملني إلى نسمات الربيع ها هي الرياح تحملني، سأترك الأرض، أما من دمعة تذرفها؟ لقد حان الحين، اسمعي يا سماء.
الشاعر :
أيتها الأخت العزيزة، إن كان كل ما تريدين مني هو قبلة من شفة محبة، أو دمعة من أحداقي، فإني خاف إلى إعطائك ما تريدين، ولكن لتذكري ما عدت إلى السماء ما كان لي من حب، وما أتغنى بأمل ولا مجد ولا سعادة، بل ولا أتغنى بالألم، وقد صمت الفم لينصت إلى القلب.
إلهة الشعر :
أتحسبني إذن كريح الخريف تتغذى بالدموع حتى فوق القبور، والألم عندها قطرة من الماء، أي شاعري، أما القبلة فأنا التي أمنحك إياها، وما أردت أن أقتلع من هذا المكان إلا تراخيك، دع ألمك في كنف الله، ومهما يكن من عظمة المحنة التي نزلت بشبابك، فلتدعها تعمق، لتترك ذلك الجرح المقدس الذي أدمت به أعماق قلبك تلك الملائكة السوء، وما من شيء يسمو بنا قدر ما يسمو الألم، ولكنه ما ينبغي لك شاعري أن تلزم صوتك الصمت مهما يكن ألمك، وأعذب الأغاني أمنعها يأسا، وأخلدها فيما أعلم زفرات خالصة، أما تذكر البجع وقد أضناه السفر فعاد وسط الضباب في مساء الليل إلى فراخه ورأته الفراخ الجائعة فعدت إليه على شاطئ البحر وقد رأته يتساقط على صفحة المياه عدت آملة أن تصيب مغنما، عدت إلى والدها مرسلة صيحات السرور، وقد أخذت تنفض مناقيرها فوق صدورها البشعة، وأما البجع ففي خطى متثاقلة، صعد إلى صخرة مرتفعة، وقد نشر جناحه المهيض فوق فراخه، يا له من صائد تعس يرسل إلى السماء نظرة بائسة، وها هو الدم يتدفق أمواجا من صدره المشقوق وقد جاب عبثا أعماق المياه ، والمياه خاوية والشواطئ موحشة ، فعاد إلى أبنائه لا يحمل لهم من غذاء غير قلبه، وها هو ملقى على الحجارة صامتا حزينا، والفراخ تقتسم أحشاء أبيهم، وقد أخذ يرنح ألمه في حبه النبيل، وقد تداعى وخر في وليمة الموت وقلبه يسيل دما تحت بصره، وقد أثملته اللذة والحب والرعب، ولكنه لا يتمالك نفسه من الخوف - وقد أضناه موته الطويل - من ألا تحمل فراخه التضحية إلى غايتها، فيتركوه وبه رمق من حياة، فيتماسك لينشر أجنحته في الرياح ثم يصدع قلبه بصيحة مفجعة، ويرسل ظلام الليل نعي الوداع تدوي نغماته المخيفة في شواطئ اليم، فتهجر الطيور أوكارها رعبا، ويحس من تخلف من البشر بالشاطئ الموت مارا إلى جانبهم فيسلمون أمرهم إلى الله، أي شاعري، هذا مثل كبار الشعراء، يتركون المرح لمن يمنحون الحياة رهينة، بينما تشبه الولائم التي يقيمونها في أعيادهم وليمة البجع، وليس فيما يتغنون به من آمال خائبة وأحزان ونسيان، وحب وشقاء ما تتفتح لنغماته القلوب وصيحاتهم حراب يخطون بها في السماء دوائر تبهر الأبصار، ولكنك واجد دائما نقطا من الدم عالقة بمحيطها.
الشاعر :
إلهتي، أيها الشبح الدائم العطش، لا تطالبيني بكل ذلك، والمرء لا يستطيع أن يخط على الرمال عندما تهب العواصف، ولقد مر زمن كان شبابي دائما على شفتي مستعدا للغناء كما تتغنى الطيور، ولكني قاسيت آلام الشهداء، ولو أني حاولت أن أنطق العود ببعضه لتحطم كما يتحطم الغاب.
ليلة أغسطس
ربة الشعر :
منذ أن عبرت الشمس في أفقها الرحب برج السرطان فوق محورها الملتهب، هجرتني السعادة وأنا أنتظر في صمت الساعة التي يدعوني فيها صديقي المحبوب، وا حسرتاه منذ زمن طويل وبيته مهجور وأيام الماضي الحلوة يلوح أنه لم يعد شيء منها حيا، وأنا وحدي أتردد مغطاة بوشاح لكي أضع جبهتي الملتهبة فوق بابه المنفرج كالأرامل الباكية فوق قبر طفلها.
الشاعر :
تحية أيتها الصديقة الوفية! تحية لك يا مجدي وحبي، إن خير وأعز الصديقات هي تلك التي نجدها عند العودة، إن الفكر والحرص قد يجرفاني يوما، تحية أمي ومرضعتي تحية يا مصدر العزاء، افتحي ذراعيك لقد أتيت لأغني.
ربة الشعر :
لماذا أيها القلب الظمآن، أيها القلب المضنى بالأمل، تكثر من الهرب ثم تتأخر في العودة؟ وما الذي تسعى للبحث عنه إلا صدفة عارضة؟ وبماذا تعود إن لم يكن بشيء من الألم؟ وماذا تفعل بعيدا عني عندما أنتظر حتى طلوع النهار، إنك تجري وراء شهاب ناصل في ليل عميق، ولن يبقى لك من مسرات هذه الدنيا غير احتقار عاجز لحبنا الشريف، وأصبحت كلما أتيت إلى قاعة دراستك أجدها خالية، وبينما أنظر حالمة إلى جدران حديقتك من الشرفة وقد أخذني القلق والتفكير تسلم نفسك في الظلام لقضائك المنكود. إن ذات جمال شموخ تمسكك في سلاسلها، وتترك للموت هذا الريحان البائس الذي كانت فروعه الأخيرة ترتوي من دموع عينيك في أيام أكثر سعادة، وهذه الخضرة الحزينة هي رمزي الحي، أيها الصديق، إن نسيانك سيقتلنا سويا، وعطرك الخفيف سيتبدد في السماء مع ما تحمل لي من ذكريات كما يطير طائر.
الشاعر :
عندما مررت بالمروج رأيت هذا المساء في الطريق زهرة ذابلة ترتعد، زهرة نرجس شاحبة وإلى جوارها برعم أخضر يهتز فوق الشجيرة، لقد رأيت زهرة جديدة تنبثق، وأحدث الزهر أكثره جمالا، وهكذا الإنسان.
ربة الشعر :
وا حسرتاه! الإنسان دائما، وا حسرتاه الدموع دائما! الإقدام دائما معفرة والعرق في الجبين! دائما معارك بشعة وأسلحة دامية، ولقد يكذب القلب ولكن الجرح في أعماقه، وا حسرتاه! في كل بلاد الأرض الحياة هي هي دائما، طمع وندم وأخذ وبسط يد، الممثلون هم هم دائما، ومهما يخترع النفاق البشري فلا حقيقة هناك غير الهيكل البشري، وا حسرتاه! أيها الحبيب العزيز، إنك لم تعد شاعرا ولم يعد شيء يحرك مزهرك الذي صمت، إنك تغرق قلبك في حلم هروب، وأنت لا تعرف أن حب المرأة يتغير ويبدد في دموع كنوز روحك، وإن الله يحصي الدموع أكثر مما يحصي الدم.
الشاعر :
عندما عبرت الوادي كان طائر يغني في وكره، وكانت صغاره، صغاره العزيز قد ماتت في الليل، ومع ذلك كان يغني للفجر، أي ربتي لا تبكي، إن من يفقد كل شيء يبقى له الله، الله في السماء، والأمل في الأرض.
ربة الشعر :
وماذا ستجد عندما يعود بك البؤس يوما وحيدا إلى دار ذويك؟ عندما تمسح يداك المرتعدتان التراب عن هذا المسكن البائس الذي تظن أنك قد نسيته، وبأي وجه تأتي إلى دارك ملتمسا شيئا من الهدوء وكرم الضيافة؟ سيكون هناك صوت يصيح بك في كل ساعة ماذا فعلت بحياتك وحريتك؟ أتظن إذن أننا ننسى كما نشتهي؟ أتظن أنك ستجد نفسك عندنا تبحث عنها؟ من منكما الشاعر: أهو قلبك أم أنت؟ إنه قلبك، وقلبك لن يجيبك لأن الحب سيكون قد حطمه، سيكون قد حطمه، وستكون الشهوات المدمرة قد أحالته صخرا بمخالطة الأشرار، ولن تشعر إلا ببقايا مخيفة لا تزال تتحرك كالأفاعي، يا ألله! من سيعينك؟ وماذا أستطيع أنا نفسي عندما يشاء من يملك كل شيء أن يحظر علي أن أحبك، وعندما تحملني إليه أجنحتي الذهبية التي ترتعد بالرغم مني لكي أنجو منك؟ أيها الطفل البائس، إن حبنا لم يكن مهددا عندما كنت أستثيرك في المساء بتسكعاتنا في غابة أوتيي وأنت غارق في أفكارك تحت أشجار القسطل الخضراء والحور البيضاء، آه لقد كنت عندئذ شابة وحورية، وكانت ربات الغاب تشق - لكي تراني - لحاء الأشجار، والدموع سالت أثناء نزهاتنا، كانت تتساقط صافية كالذهب في بللور الماء. ماذا فعلت أيها الحبيب بأيام شبابك؟ ومن قطف ثماري من فوق شجرتي المسحورة؟ وا حسرتاه! لقد كان خدك المتورد يروق الآلهة التي تحمل في يديها القوة والصحة، فأصابته بالشحوب دموع عينيك الحمقاوين، وكما فقد جمالك ستفقد فضيلتك، وأنا التي سأحبك كصديقة وحيدة عندما تسلبني الآلهة الغضبى عبقريتك وأسقط من السماوات، بماذا ستجيبني؟
الشاعر :
ما دام عصفور الغابات يرفرف ويغني فوق الغصن حيث تحطمت بيضاته في الوكر، وما دامت زهرة الحقول التي تتفتح عند الفجر تنظر في المرج، فترى زهرة أخرى متفتحة تستسلم في غير أنين وتسقط مع هبوط الليل.
وما دمنا نسمع الأغصان الميتة تقرقع في الطريق في جوف الغابات تحت الأسقف الخضراء، وما دام الإنسان لم يستطع أن يعثر وهو يجوس خلال الطبيعة الخالدة، على علم يدوم غير السير دائما والنسيان دائما.
وما دام كل شيء حتى السخط يتحول إلى تراب، وما دام كل شيء يموت هذا المساء لكي يبعث غدا، وما دام القتل والحرب سمادا، وما دمنا نرى عود العشب المقدس الذي يعطينا الخبز ينبت من الأرض فوق القبر.
أي ربة الشعر، لماذا تغنيني الحياة أو الموت؟ إنني أحب وأريد أن أستحب، إنني أحب، وأريد أن أتألم، إنني أحب، وإنني لأعطي عبقريتي في سبيل قبلة، إنني أحب، وأود أن أحس فوق خدي المهزول نبعا ينهمر ويستحيل جفافه، إنني أحب، وأريد أن أتغنى بالمتعة والكسل وبمغامرتي الغامرة وبهمومي العابرة وأريد أن أقص وأن أكرر باستمرار أنني بعد أن أقسمت أن أعيش بغير عشيقة أقسم أن أعيش وأن أموت بالحب.
أيها القلب المنبعج مرارة، والذي ظن أنه قد أغلق، انزع أمام الجميع تلك الكبرياء التي تلتهمك وأحب أن تبعث إلى الحياة، اجعل من نفسك زهرة لكي تتفتح، وبعد أن تألمت يجب أن تتألم من جديد، يجب أن تحب باستمرار بعد أن أحببت.
ناپیژندل شوی مخ