لو قلنا لك إن القضية التكرارية تكون قبلية؛ أي يكون صدقها غير معتمد على الخبرة الحسية؛ لما في هذا القول ما يثير دهشة؛ لأنك لست بحاجة إلى خبرة لتثبت أن «المصباح المضيء مصباح». وكذلك لو قلنا لك إن القضية الإخبارية تكون بعدية لما أثار القول دهشتك؛ لأنه ما دام في القول خبر جديد فهو إذن مستقى من الخبرة ولا يجيء إلا بعدها، كأن أقول لك عن حائط غرفتي إنه أزرق، لكن كيف يكون موقفك حين أزعم لك أن هنالك ضربا من العبارات تكون الواحدة منها إخبارية وقبلية في آن واحدة؟ أي أنها تروى خبرا لكنها في الوقت نفسه لا تحتاج إلى خبرة تؤيد صدقها؟
هذه هي مشكلة المعرفة كما صاغها «كانت» ثم حاول حلها؛ فالمشكلة عنده هي أننا في كل القوانين العلمية - في الرياضة وفي العلوم الطبيعية على السواء - إنما نعمم القول على نحو يجعله إخباريا وقبليا في آن واحد. والسؤال هو: كيف أمكن هذا الجمع بين الجانب الخبري وبين الجانب الذي يسبق الخبرة بحيث يتكون من الجانبين حكم واحد؟
الجواب عند «كانت» هو أن جانبا يأتي من الخارج، وهو جانب الخبرة الحسية تأتينا منبعثة من الأشياء، لكنها إذ تأتي لا تجد نفسها بغير ضابط يضبطها، بل يتلقاها في العقل إطار ينظمها في حدوده؛ ومن ثم يكون كل جزء من معرفتنا معتمدا في مضمونه على خبرة الحواس وفي قالبه على نظرة العقل في طريقة الإدراك، وهكذا يكون كل جزء من معرفتنا حسيا وعقليا، إخباريا وماديا، في آن واحد. وفيما يلي شيء من التفصيل في توضيح ذلك.
هذه برتقالة معي، فكيف أدركها؟ أولا تأتيني منها إحساسات مختلفة؛ إذ يأتيني منها لون عن طريق العين، ورائحة عن طريق الأنف، وطعم عن طريق اللسان، وملمس عن طريق الأصابع، وهكذا. وهذه الإحساسات تأتي من أبواب مختلفة، وتسلك إلى المخ طرقا مختلفة كما رأيت، فليس الطريق الذي يسلكه اللون هو نفسه الطريق الذي يسلكه الطعم أو الرائحة أو الملمس؛ وإذن فالنتيجة الطبيعية لهذا هي أن الإحساسات تظل في الذهن أشتاتا إذا كان اعتمادنا على الحواس وحدها، لكنها لو ظلت هكذا أشتاتا متفرقة لما أمكنني إدراك البرتقالة؛ لأن مجرد الإحساس ليس هو الإدراك؛ وبالتالي ليس هو المعرفة، فليست البرتقالة هي لونها وحده أو طعمها وحده أو رائحتها وحدها، إنما هي هذه جميعا متجمعة في «شيء» معين؟ ما الذي يضم الإحساسات المتفرقة التي جاءت من قنوات مختلفة بعضها إلى بعض في الداخل؟ أم هل تسارع هذه الإحساسات إلى اجتذاب بعضها إلى بعض بطريقة آلية دون أن تحتاج في ذلك إلى عامل خارج عنها؟ نعم، هذا هو ما يقوله «هيوم»؛ إذ يقول إن الانطباعات الحسية الواردة إلي من الخارج تترابط من تلقاء نفسها بما يسميه قوانين الترابط أو قوانين التداعي، وأما «كانت» فرأيه غير ذلك.
رأيه هو أن في فطرة الإنسان وسيلتين للإدراك الحسي؛ أعني أن في فطرته وسيلتين لجمع الإحساسات المتفرقة جمعا تصبح معه صورا ذهنية متصلة مترابطة للأشياء التي انبعثت منها تلك الإحساسات، وهاتان الوسيلتان هما: «المكان» و«الزمان»، تأتي إلينا الإحساسات المتفرقة في خليط مهوش؛ فنرتبها في داخل أنفسنا ترتيبا يجعل هذا الإحساس على صلة مكانية بذلك الإحساس، كأن يكون مثلا على يمينه أو يساره أو فوقه أو تحته، وبربط هذه الإحساسات المتفرقة ربطا مكانيا تتكون منها صورة للشيء؛ وبالتالي يتكون له عندنا إدراك حسي. على ألا تنسى أن هذا الترتيب الذي وضعنا فيه الإحساسات الواردة إلينا هو من عندنا، وليس في الإحساسات نفسها، فنحن الذين نخلعه على الإحساسات فتكتسب به معنى. وكذلك قل في تتابع الأشياء تتابعا زمنيا بحيث نقول عن شيء إنه قبل شيء آخر أو بعده، فهذا التتابع هو من عندنا أيضا؛ لأن ما يأتينا من الخارج - كما قلنا - إحساسات بغير ترتيب؛ فالحواس أبواب مفتوحة ينفذ منها ألوف الإحساسات في كل لحظة، فنتناولها نحن في الداخل بالترتيب المكاني وبالتتابع الزماني؛ فتصبح مدركات منظمة بعد أن كانت خليطا مهوشا.
إذا تكونت في ذهني صورة للبرتقالة التي معي الآن، فأنا الذي صنعت هذه الصورة صنعا، لكنني صنعتها من المادة الخامة التي أتتني من الخارج، وهي الانطباعات الحسية المختلفة، كما يصنع النجار منضدة من خشب يعطى له، والأداتان اللتان أصنع بهما مدركاتي هما «المكان» و«الزمان»؛ أي هما ترتيب العناصر الخامة على نحو يربط أجزاء المدرك الواحد بعضها ببعض، ثم على نحو يتابع بين المدركات في سلسلة زمنية فيها ما هو سابق وما هو لاحق، وليس في الأشياء نفسها مثل هذا الترتيب المكاني أو التتابع الزماني، إنما هما صفتان ذاتيتان من عندي خلعتهما على الأشياء لتصبح ذات معنى، فما أشبه الأمر هنا بمن يلبس منظارا أزرق فيرى كل شيء أزرق اللون، لكن الزرقة تكون في منظاره ولا تكون في الأشياء المرئية.
وواضح أنه ما دام المكان والزمان أداتين يستخدمهما الإنسان بواسطة الحواس، فهما يبطلان إذا ما استخدما في غير الظواهر المحسوسة؛ فالحقائق الخارجية إن كانت من غير المحسوسات استحال أن يكون لها مكان أو زمان.
وما دمان قد سلمنا بأن الزمان والمكان أداتان ذاتيتان تستخدمان في الإدراك الحسي، وأنهما لم يستمدا من التجربة الحسية مع أنهما الوسيلتان اللتان تجعل المدركات الحسية ذات معنى، فإنه ينتج من ذلك أن كل ما نطلقه على الأشياء من أحكام تتعلق بمكانها أو بزمانها فهو معتمد في أحد وجهيه على ذواتنا نحن لا على خبراتنا الآتية عن طريق الحواس؛ ومن ثم كانت كل القضايا الرياضية مرتكزة على الطبيعة الإنسانية نفسها في إدراك الأشياء؛ لأن هذه القضايا تتعلق إما بالمكان في علم الهندسة أو بالزمان - أي بتتابع الوحدات - في علم الحساب؛ فالقضايا الرياضة صادقة صدقا يقينيا، غير معتمدة في صدقها هذا على التجربة الحسية، بل هي صادقة من «قبل» التجربة؛ أي هي قضايا «قبلية»، ولولا فطرة الإنسان في طريقة إدراكه للعالم بوسيلتي المكان والزمان لما أمكانه تكوين الأحكام الرياضية.
ومن هذا يتضح أن «كانت» قد وقف بمذهبه هذا بين الواقعية والمثالية؛ لأنه من ناحية اعترف بالإحساسات التي تأتي إلينا من الخارج كمادة أولية للمعرفة، ولكنه من ناحية أخرى قرر فاعلية العقل واشتراكه في صياغة تلك الإحساسات في مدركات حسية.
ليس المكان والزمان بالفكرتين؛ أعني أنهما في ذاتيهما ليستا بالمدركين العقليين اللذين نستخلصهما من تجاربنا؛ لأنهما ليستا جزءا من التجربة، بل هما «المنظار» الذي نرى به تلك التجربة؛ «فالمكان» - مثلا - لم تتكون فكرته في عقولنا بعد أن رأينا عدة «أمكنة» بحيث استطعنا أن نقارنها ونجردها من أوجه الاختلاف لنستخلص أوجه الشبه فتكون هذه هي قوام المدرك العقلي عن «المكان». كما نفعل حين نستخلص معنى «المقعد» من مجموعة المقاعد التي تمر بنا في تجاربنا، ومعنى «الشجرة» من مجموعة الأشجار، ومعنى «الكتاب» من مجموعة الكتب، وهكذا. لا، ليس «المكان» ولا «الزمان » بمدرك عقلي يتكون على هذا النحو في عقولنا، بل هما الطريقة التي ننظر بها إلى الأشياء بحيث نحول أشتات الإحساسات المنبعثة منها إلينا إلى إدراكات حسية؛ لأن مجرد الإحساس ليس إدراكا.
ناپیژندل شوی مخ