د معرفت نظریه او د انسان طبیعي حالت
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
ژانرونه
وهكذا يحدد هيوم تلك الصفة التي تتميز بها انطباعاتنا المنسوبة إلى أشياء خارجية بأنها صفة «الدوام
Constancy » والانتظام والإحكام، فهذه الانطباعات تعود باستمرار بعد انعدام إدراكي لها وقتا ما، وإذا تغيرت كان تغيرها هذا منتظما وخاضعا لقواعد محكمة.
والذي يحدث أننا نستدل - بفضل تعودنا على تكرار انتظام ظهور هذه الانطباعات - على وجود أشياء ثابتة من ورائها، بحيث إنه إذا انقطع إدراكنا فيظل هناك شيء لا ندركه يجمع بينها، وعلى حين أن هذه الإدراكات في الأصل منفصل - إذ تفصل بينها لحظات عدم إدراكنا لهذه الموضوعات - فإن تشابه الترتيب الذي يظهر به إدراكنا لها في كل حالة يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن ما أدركناه في كل الحالات شيء واحد، فنحن نخفي انقطاع الإدراكات، أو نقضي عليه تماما، إذ نفترض أن هناك وجودا واحدا حقيقيا يجمع بين الإدراكات المتقطعة، «فذاكرتنا تقدم إلينا عددا كبيرا من أمثلة الإدراكات التي يشبه كل منها الآخر، والتي تعود في فترات زمنية مختلفة بعد شيء من الانقطاع، وهذا التشابه يخلق لدينا ميلا إلى الربط بينها عن طريق وجود مستمر؛ لكي نبرر هذه الهوية، ونتجنب التناقض الذي يبدو أن الظهور المتقطع لهذه الإدراكات يؤدي بنا إليه ضرورة.»
14
ولست أملك هنا إلا أن أوجه اعتراضا له صبغة «ساذجة» إلى حد ما، ولكن لا مفر منه طالما أنه يوجد بنفس الروح «الساذجة» التي يتصف بها الموقف الطبيعي، فكيف تتم عملية «التوحيد» أو «القضاء على انقطاع الانطباعات» هذه؟ أهي عملية واعية؟ أعني: هل تأتي على الإنسان - من حيث هو فرد أو نوع - مرحلة يعتقد فيها أن إدراكاته متقطعة، ثم يرغب في تجنب النتائج الضارة التي يلحقها به هذا الاعتقاد، «فيقرر» أن يصنع أو يتخيل شيئا يوحدها؟ إن هيوم لا يستطيع - بطبيعة الحال - أن يجيب بالإيجاب؛ إذ سيكون عليه في هذه الحالة أن يحدد لنا زمان ومكان تلك المرحلة التي لم يسمع أحد عنها شيئا، وإذن فهل هذه عملية غير واعية؟ وهل هي تتم تلقائيا في الإنسان بحيث لا يشعر في أي وقت بأنه كانت هناك إدراكات متقطعة ثم «وحدها»؟ إن كان الأمر كذلك فما قيمة تنبيه هيوم إلى ذلك الأصل «المتقطع» الذي يرفضه الإنسان حتما في جميع أحواله؟
ولنتحدث في هذا الموضوع من الناحية العملية: ففي موقفنا الطبيعي نعامل الكرسي الموجود في الحجرة - إذا أدركناه - بانطباعين يفصل بينهما وقت ما، على أنه كرسي لا على أنه انطباعان مختلفان، ومن المحال أن نتصرف في موقفنا الطبيعي على نحو مخالف، ولنتصور النتائج العملية التي تحدث لو نظر الإنسان إلى بيته في كل مرة يدركه فيها على أنه بيت مخالف، أو إلى أهله وأصدقائه على أنهم «إدراكات جديدة» ... إلخ، هنا تصبح حياة الإنسان - بطبيعة الحال - مستحيلة، وقد اعترف هيوم ذاته بهذه الاستحالة، ولكنه أراد أن يضع حدا فاصلا بين موقفنا العملي وما ينبغي أن يكون عليه فهمنا للأمور، ولنتساءل هنا: إلى أي مجال ينتمي إدراكنا للكرسي والبيوت والأشجار، وهي الأمثلة التي ظل هيوم يستخدمها في كتاباته على الدوام؟ إلى مجال الموقف الطبيعي بلا شك، فعندما نكون بصدد إدراك شجرة مثلا، لا تكون مهمتنا هنا هي تحليلها علميا، وإنما إدراكها بحواسنا المعتادة لكي نعرف كيف نتصرف عمليا إزاءها، ومع ذلك فإن هيوم يعترض - في مجال الموقف الطبيعي - على طريقة إدراك الإنسان في هذا المجال، ويحاول تعليل ما يراه فيها من أخطاء بأنه راجع إلى الرغبة في تجنب التناقض الذي يحدث لو عالجنا كل إدراك في هذا المجال على أنه منفصل، أو بعبارة أخرى: فهو يحاول تعليل ما يعتقد أنه «خطأ فلسفي» في الموقف الطبيعي، ولكن ما قيمة هذا الاعتراض إذا كان تأصل هذا الموقف فينا أقوى وأسبق من أي تفلسف، وإذ كانت مجرد حياتنا مستحيلة إن لم نعامل المدركات الخارجية على أنها «أشياء»؟ إن المسألة هنا - كما ذكرنا من قبل - منفصلة تماما عن مسألة مجال مختلف تماما عن مجال الصواب والخطأ: مجال التصرف العملي اليومي، الذي يستحيل أن يتصرف فيه المرء إلا على أساس فكرة «الأشياء»، بغض النظر تماما عما قد يكون عليه حكم العلم أو المنطق على هذه الفكرة.
ولا شك أن الفكرة الجديدة التي أتى بها هيوم في هذا الموضوع - وهي فكرة تأثر فيها إلى حد بعيد باتجاهات الفلاسفة المحدثين السابقين عليه ولا سيما باركلي - هي فكرة رفض الازدواج بين المدركات والأشياء، فالاعتقاد الشائع بأن هناك أشياء «تسبب» مدركاتنا هو اعتقاد متوارث من أوهام قديمة، وطالما أن الحقيقة التي نستطيع أن نكون على ثقة من حضورها المباشر هي المدركات، فلا معنى إذن للقول بوجود حقيقة أخرى من ورائها تكون «سببا» لها.
ولكن إذا كان خطأ الفلسفات القديمة في نظر هيوم هو تصور وجود أشياء مجسمة تسبب الانطباعات، فخطأ هيوم - الذي يزيد على ذلك خطورة - هو «تجسيم» الإدراك وجعله حقيقة قائمة بذاتها، ففي كتاباته يشعر المرء على الدوام بأن الانطباع له «وجود» وأن الإدراك له «كيان» خاص، ولكن التحليل السليم للإدراك يدل على أنه «عملية» فحسب، أو تعبير عن العلاقة بين الذات وبين موضوع، وهو ظاهرة تحدث - كلما تقابلت هاتان الحقيقتان سويا - فيكون حدوثه مجرد مظهر لتقابلهما، أما في ذاته فليس له كيان، وإذن فمن الممكن القضاء على الازدواج بين الشيء وبين إدراكه، ولكن باتباع الطريق الأسلم، وهو إنكار وجود حقيقة مستقلة أو قائمة بذاتها للإدراك، بدلا من اتباع طريق هيوم الذي يوحي بوجود حقيقة مستقلة اسمها الانطباع، لا نستطيع أن نعرف أصلها، ولكن لا يجوز لنا محاولة تجاوزها إلى أية حقيقة أخرى وراءها، فالانطباع ليس واسطة للإدراك، تحجب موضوعات هذا الإدراك أو تحل محلها، وإنما هو مجرد اسم لدخول الذات في علاقة مع هذه الموضوعات، وليس له دون هذه الموضوعات ذاتها أي كيان قائم بذاته.
والسؤال الذي يحسم الخلاف بشأن طبيعة الانطباع هو: هل تستطيع الحواس أن تأتي بشيء من عندها؟ وهل لديها القدرة على أن تدفع ذاتها إلى العمل؟ إن الرد - طبعا - بالنفي، على الأقل في أغلبية الأحيان (وإن كان هيوم يتجنب البحث في أصل انطباعات الحس منذ البداية)، فإذا لم تكن تأتي بشيء عندها، أو تدفع ذاتها إلى العمل، فلا بد أن دور إدراكاتها هو مجرد التعبير عن حدوث تقابل بين ذات وموضوع، إن هيوم يؤكد أنه «ليس ثمة موجودات حاضرة أمام الذهن إلا الإدراكات»، ولكن ما معنى هذا الحضور أمام الذهن؟ هل الذهن يدركها سلبيا؟ أم أنه هو الذي يبعثها؟ إن الرد على هذا السؤال أساسي، وما كان يحق لهيوم أن يراوغ في الإجابة عنه مطلقا؛ لأن الفارق بين سلبية الذهن وإيجابيته في إدراكه للانطباعات هو الذي يحسم مشكلة طبيعة الموضوع الذي أثارها، بل هو الذي يحدد ما إذا كان هذا الموضوع موجودا أم غير موجود.
والواقع أن تفكير أرسطو - في هذه المسألة بالتحديد - يبدو أكثر استنارة إلى حد بعيد من تفكير هيوم: فملكة الإحساس في رأي أرسطو توجد «بالقوة»، ولا تنتقل إلى الفعل إلا عند ظهور الموضوع الخارجي، «فمن الجلي أن ما هو حاس هو كذلك بالقوة فحسب لا بالفعل، فقوة الإحساس أشبه بالشيء القابل للاشتعال؛ إذ إن هذا الشيء لا يشتعل بذاته قط، وإنما يحتاج إلى فاعل قادر على البدء بالإشعال، وإلا لأشعل ذاته، ولما احتاج إلى نار فعلية لإيقاده.»
ناپیژندل شوی مخ