د معرفت نظریه او د انسان طبیعي حالت
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
ژانرونه
وهكذا ينتهي «كانت» إلى هذه النتيجة الغريبة: فخروجه عن الموقف الطبيعي، وتسميته للأشياء «بالظواهر»، يحتم عليه - كما رأينا - افتراض الفكرة المتضايفة مع الظواهر، أعني الأشياء في ذاتها، ولكن على الرغم من أن مذهب «كانت» لا يكتمل بدون فكرة الأشياء في ذاتها هذه، فإن تصوره لها محاط بالغموض من البداية إلى النهاية، ولا يكاد المرء يجد عنده أي وصف محدد للفكرة يرتكز عليه، وهكذا يبدو من الغريب حقا ألا يجد الفيلسوف سوى صفات غامضة كل الغموض لوصف فكرة لها مثل هذا الموقع الأساسي في مذهبه.
ووجه الاستحالة في مثل هذا النوع من التفكير، الذي يتخذ في ظاهره طابع الموضوعية، ولكنه في حقيقته أبعد ما يكون عنها، إننا لا يحق لنا الكلام عن وجه آخر للأشياء لا سلبا ولا إيجابا، أعني لا يحق لنا الكلام عن وجه للأشياء لا تكون فيه موضوعا لطريقتنا الخاصة في الإدراك، أو تكون موضوعا لطريقة أخرى في الإدراك؛ إذ إن لنا تجربة واحدة باعتراف الجميع، وهذه التجربة الواحدة لا تسمح لنا حتى بتخيل الطريقة التي قد توجد بها أية تجربة أخرى.
وليحاول كل منا أن يركز فكره فيما يعنيه «كانت» «بالشيء في ذاته»، الذي هو الشيء لا كما تدركه حواسنا أو ذهننا، بل كما هو «في حقيقته»، أي الشيء غير المقيد بطريقتنا الخاصة في الإدراك، التي ترتبط بالتركيب الخاص لحواسنا وذهننا فحسب، ليحاول أن يركز فكره في معنى هذه الكلمة، وسيجد أنها في واقع الأمر خالية تماما من أي معنى، فنحن نستطيع مثلا أن نتصور طريقة «القط» في الإدراك على أنها مخالفة لطريقتنا في الإدراك، وذلك على أساس تجارب معينة ثبت فيها أن القط أقدر على الرؤية في الظلام وأقوى في حاسة الشم ... إلخ، أما الجزم مقدما، ودون وجود أي أساس من التجربة، بأن هناك مقياسا معينا - هو هذا «الشيء في ذاته» - يتخذ أساسا للحكم على كل طريقة أخرى للإدراك بأنها إدراك لظواهر، دون أن يكون هناك أي أساس تجريبي لمثل هذا المقياس المزعوم، فخطأ منهجي أساسي.
ولو كان لنا أن نتحدث عن تدرج في قيمة طرق الإدراك المختلفة للأشياء - حسب مكانة الحيوانات المتدرجة في سلم الحياة بما فيها الإنسان - لما كان لنا أن نقول إلا أن طريقة الإنسان أكملها. حقا إننا قد نجد حيوانات لها حواس معينة أحد وأقوى بكثير من حواسنا المناظرة، غير أن الصورة العامة التي يصل إليها الإنسان، والتي تتضافر فيها حواسه مع ملكاته الذهنية والنفسية، لا توجد إلا على نحو واه أو لا توجد على الإطلاق لدى بقية الكائنات، وهذه الصورة هي - بلا شك - أدق من كل الصور الأخرى، والدليل الدامغ على هذا هو أنه أنجح الجميع في التعامل مع الطبيعة وإخضاعها، وإذن فأقصى ما يمكننا عمله هو أن نجري مثل هذه المقارنات «الداخلة في نطاق التجربة» بين الإنسان وبين كائنات أخرى، أما أن نحاول تجاوز نطاق تجربة الإنسان ذاتها وتصور الأشياء في صورة مجهولة لا تنتمي إلى أية تجربة على الإطلاق، فتلك - بلا شك - محاولة مستحيلة لا معنى لها، وإذا كانت مثل هذه المحاولة المستحيلة تؤدي إلى الحط من تجربة الإنسان إلى مرتبة الظواهر - بالنسبة إلى هذا «المجهول» المسمى بالشيء في ذاته - فلا شك في أن هذه نتيجة أخرى مستحيلة؛ لأن أقصى وأرفع ما يمكننا عقلا أن نتصوره من التجارب هو تجربتنا نحن، الذي لا يعلو عليها شيء في سلم التجارب المعروفة لنا، أو التي يمكن أن تكون معروفة لنا.
ويعد إخفاق فكرة «الشيء في ذاته» هذه إخفاقا للموقف الكانتي بأسره: «فكانت» قد وضع «الفرض الكبرنيكي» - الذي تكون الأشياء بمقتضاه متفقة مع طريقتنا في المعرفة لا العكس - آملا أن يستطيع بذلك تفسير كل ظواهر المعرفة من الوجهة الفلسفية، ولكن فرضه هذا يتضح إخفاقه التام حين نراه يؤدي ضرورة إلى فكرة الشيء في ذاته، أي إلى افتراض وجود وجه للأشياء لا يقوم على أساس أية تجربة، فإذا حاول أحد تخليص فلسفة «كانت» من فكرة «الشيء في ذاته»، فلن يكون قد خلصها من عنصر زائد لا قيمة له كما ظن خلفاء «كانت»، بل إنه سيقضي في هذه الحالة على التمييز بين الأشياء كما ندركها، وبين الأشياء كما هي «في ذاتها»، وهذا يقتضي ألا نطلق على الأشياء كما ندركها اسم «الظواهر»، وهذا بدوره يؤدي إلى الامتناع عن ربط الأشياء «بطريقتنا الخاصة في المعرفة»، أو بقوالبنا الحسية والذهنية الخاصة، وهذا معناه انهيار مذهب «كانت» من أساسه.
والذي يعنينا من هذا كله هو أن الفرض الذي وضعه «كانت» في البداية - وهو الفرض الذي أعلن فيه مخالفته للموقف الطبيعي - ينتهي حتما إلى الإخفاق، ويبدو، في رأينا، أن منهج «كانت » ذاته كان يحتم عليه ألا يتسرع باتخاذ هذا الفرض نقطة بداية لتفلسفه؛ ذلك لأن كل هدف هذا المنهج هو التفرقة بين الميتافيزيقا من حيث هي شرط لإمكان التجربة، وبين الميتافيزيقا من حيث هي محاولة لتجاوز التجربة عن طريق العقل الخالص، ثم إثبات استحالة الميتافيزيقا بالمعنى الثاني، وانتهائها إلى قضايا يمكن إثبات عكسها بنفس القوة التي يمكن بها إثباتها هي ذاتها، ولكن لو تأملنا تلك القضية الرئيسية التي يتخذها «كانت» نقطة بداية لفلسفته - وهي «أننا ندرك ظواهر لا أشياء في ذاتها» - لوجدناها تنتمي في الواقع إلى تلك الميتافيزيقا التي تحاول تجاوز التجربة عن طريق العقل الخالص، فتلك القضية ليست تجريبية أو ممكنة للتجربة؛ لأن التجربة لا تطلعنا على شيء وراء ما ندركه، ومن الممكن أن تؤدي إلى «نقيضة» على نفس النحو الذي أدت به قضية «للعالم بداية في الزمان» إلى نقيضة في نظر «كانت»: فمن الممكن أن نقول بنفس القوة: إننا ندرك ظواهر، وإننا ندرك أشياء في ذاتها، وذلك طالما أن القضية تنتمي إلى مجال العقل الخالص الذي يحاول تجاوز التجربة.
ولسنا في حاجة إلى أن ننبه إلى أن هذا الإخفاق لا يقتصر على «كانت»، فمن الواضح أن الكثيرين من أصحاب التفكير المثالي - في الميدان الفلسفي والخالص وفي ميدان النقد العلمي كذلك - يفترضون التفرقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها ضمنيا، ولا يفترقون عن «كانت» إلا في أن الأخير نادى بها صراحة، وجعلها جزءا مكملا للبناء الفلسفي الذي حاول تشييده، فالقول بالشيء في ذاته يظهر ضمنيا لدى القائلين بأن الشروط التي نتفق فيها على معرفة الأشياء ليست بالضرورة منتمية إلى الماهية «الحقيقية» للأشياء، وهو قول يتخذ آلاف الصور والأشكال، ويعبر عن موقف عظيم الشيوع بين فئة كبيرة من المفكرين. •••
وينبغي أن نحذر هنا من الاعتقاد بأننا نرفض كل شكل من أشكال النسبية، على أساس أنها تفترض تفرقة ضمنية بين ما هو نسبي وما هو مطلق، أي خارج عن حدود تجربتنا؛ ذلك لأن من الممكن أن تكون للنسبية معاني مشروعة، غير معنى انتساب كل ما ندركه إلى طريقتنا الخاصة في المعرفة، والواقع أن من الواجب أن نفهم كلمة «انتساب الشيء إلينا» بمعنيين: (1)
معنى خاص، فردي أو جزئي، يتمثل في الاختلافات بين الأفراد، وهي الاختلافات التي تصل إلى حد التطرف في حالات المرض أو غيرها من الحالات غير المألوفة، مثلما يقول المصاب بعمى الألوان عن العشب الأخضر: إنه أبيض «بالنسبة إليه». (2)
ومعنى عام، يتمثل في حالات الإدراك السوية التي تشترك فيها الغالبية العظمى من الناس، وفي هذا المعنى تكون الأشياء منسوبة إلينا، بمعنى أن حواسنا تتحكم إلى حد ما في طريقة إدراكنا، وأن لها دورا ما في تكوين الصورة النهائية للشيء.
ناپیژندل شوی مخ