بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين باري الخلائق أجمعين الذي سن لهم أحكاما وتشريعات تعود عليهم بالنفع في عاجل الدنيا وآجل الاخرة وجعلها طبقا لمصالح وعلل لا يعلمها الا هو ومن ارتضاه من رسله وعباده المخلصين. والصلاة والسلام على منقذ البشرية من الظلمات إلى النور، الذي حلاله حلال أبدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، الذي لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى، وعلى آله الغر الميامين أمناء الله على دينه ومهبط وحيه ومعدن رحمته وخزان علمه.. والذين هم منتهى الحلم واصول الكرم وقادة الامم وأولياء النعم وعناصر الابرار ودعائم الاخيار وساسة العباد وأركان البلاد وأبواب الايمان.، حجج الله على أهل الدنيا والاخرة والاولى المظهرين لامر الله ونهيه وعباده المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
--- [4]
مخ ۳
[الحرية:] الحرية هو شعار، كثيرا ما دفعته أديان ومذاهب وأحزاب وقوميات وشخصيات في العصر الحديث وفي العصر القديم وجعل هذا الشعار هدفا ومقصدا للانسان يسعى لتحقيقه ويتغنى به، وإذا أراد الانسان أن يبحث عن المبدأ أو الفئة التي أعطت للانسان حريته وسعادته المنشودة لم يجد لها عين ولا أثر على وجه البسيطة حتى المذاهب التي اتخذت الحرية شعارا اساسا لها كالرأسمالية الغربية أو الاشتراكية الشرقية والذي يوجد عندها انما هو لفظ الحرية ومصداق العبودية بمعنى الكلمة وبما يحمل اللفظ من معنى لهذا رجع الانسان من هذين المذهبين بل والمذاهب الاخرى الوضعية بخفي حنين الا العبودية الذليلة. الانسان لا يجد حريته وسعادته الا في الاسلام وهو الدين والمبدأ الوحيد الذي ضمن للانسان سعادته وحريته الحقيقية في جميع المجالات: المبدأية والاقتصادية والاخلاقية الفردية والاجتماعية، وهذه هي الحرية التي تعلو به إلى ما يتناسب مع انسانيته وكرامته بل وتعلو به إلى أعلى عليين حتى تقربه من مولاه. [حرية الفكر في الاسلام:] من جملة الحريات التي منحها الاسلام للانسان هي حرية الفكر ودعاه وحثه على التفكر في جميع المجالات بما فيها الكون والحياة والاخرة وما سوف يؤول إليه وأشار إلى حقيقة قد تخفى على الانسان وهي ان الذي يستفيد من الكون والحياة ويكون على سبيل نجاة هو الذي يفكر فيما حوله (ان
--- [5]
مخ ۴
في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض..) (1). وان الذي يأخذ عبرة من ذلك هو الانسان المفكر قال تعالى: (وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون) (2). وفي الحث على الفكر وحريته فضله على كثير من العبادات فقد روي عن نبي الاسلام صلى الله عليه وآله قوله: " فكرة ساعة أفضل من عبادة سنة " (3). وأرجحية التفكر على العبادة ليس الا لان في التفكر ميزة خاصة لا توجد في كثير من العبادات الجوفاء عن المعرفة والهداية. تلك الميزة هي الوصول إلى الحقيقة فكم انسان قد اهتدى إلى الاسلام أو من الفسق والعصيان إلى الايمان وخرج من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة. لانه استعمل فكره وعقله لفترة من الزمن وقد لا تتجاوز الساعات أو الدقائق فيرتبط مصيره بهذه اللحظات القيمة. والشواهد على ذلك كثيرة جدا فالنقتبس من باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله بعضها قال عليه السلام: " فكرك يهديك إلى الرشاد، ويحدوك على اصلاح المعاد " (4). وقال أيضا: " لكل شئ دليل ودليل العاقل التفكر " (5). وقال عليه السلام: مشيرا إلى انه كل ما كان تفكير الانسان أكثر وأعمق كان صوابه
---
(1) سورة آل عمران: 190 - 191. (2) الجاثية: 13. (3) البحار 71 / 326. (4) غرر الحكم ص 227. (5) تحف العقول ص 285.
--- [6]
مخ ۵
وقربه إلى الحق أكثر وكل ما قل تفكيره كثر خطائه وقرب نحو الباطل " طول الفكر يحمد العواقب، ويستدرك فساد الامور " (1). وقال عليه السلام: " تفكرك يفيدك الاستبصار ويكسبك الاعتبار " (2). وقال عليه السلام: " من فكر قبل العمل كثر صوابه " (3). [المبدأ الاول وحرية الفكر:] والاسلام حينما دعى إلى حرية الفكر وحث عليه لم يكن ذلك من باب التسلية والشعار الفارغ وانما رتب على ذلك الاثر كبقية الحقائق التي يدعو إليها. فأهم شئ في وجهة نظر الاسلام بل في الوجود ككل هو معرفة المبدأ الاول المنشئ لهذا الكون بما فيه وهذه الحياة التي يعيشها الانسان على هذا الكوكب. فالاسلام ابتدأ مع الانسان من هذه المهمة التي هي أول ما يحتاجه الانسان ولا يمكن أن يستقل عنها أو ينفصل عن فيضها ولو لحظة واحدة، فنبه الاسلام الانسان على أنه لابد له من الاعتراف بوجود الله سبحانه وعدالته من طريق العقل الحر والتفكير العميق ولا يكفي التقليد فيه وكذلك بقية اصول الدين كالنبوة والامامة والمعاد يلزم أن يعترف بها من طريق فكره وأدلتها متوفرة لجميع الناس مهما اختلفت مستوياتهم ويكتفي من كل بحسب حاله، والايات والروايات التي تتحدث كأدلة ليست الا محض ارشاد والا لحصلت المصادرة. وهذا لا يمنع من ان الاسلام اتخذ موقفا آخر بالنسبة إلى فروع الدين فقد فسح المجال للتقليد فيها لمن ليس أهلا للنظر والفحص وذلك لكثرتها وتشعب
---
(1) غرر الحكم ص 208. (2) غرر الحكم ص 157. (3) غرر الحكم ص 277.
--- [7]
مخ ۶
أدلتها خصوصا مع البعد الزمني عن عصر الرسالة وتوقف النظام الاجتماعي لو اشتغل الكل بتحصيل كل ما يحتاجه من مسائل الفقه. [حرية اختيار الاسلام:] بعد أن عرفنا ان معرفة المبدأ الاول لابد أن يكون من طريق العقل وحريته التامة. نعرف ان كل شئ مهما سما فهو دون المولى سبحانه حتى الاسلام فاختياره يكون بتفكر الانسان وبحثه وتدقيقاته (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وعندما يستعمل عقله فالنتيجة هي الاعتراف بالاسلام ومباديه لهذا نرى ان الاسلام يعطي الانسان حرية التفكير في بحثه وهو مطمأن ان النتيجة هو الوصول إلى الحقيقة والواقع وتراه يضع للانسان الداعية الطرق الحكيمة والخلقية عندما يدعو الانسان غيره ولا يحتاج لان يستعمل الاساليب الملتوية من الكذب والغش والبهتان والشتم والتعصب الاعمى (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (1) (ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن) (2). واننا على علم ويقين تأمين ان الانسان مهما كان إذا استعمل فكره ولم يتعصب إلى فكرة معينة أو تقليد أعمى لابويه أو لبيئته التي يعيش فيها أو لحزب ينتمي إليه أو لمذهب ينتسب إليه وصار موضوعيا في فكره وبحثه وأخلص النية لله تعالى للحق في هدفه فانه سوف يصل إلى الحقيقة وتنكشف له كما سوف يتعرف على الباطل وموارد الاشتباه والالتباس عليه وذلك بعون الله وحسن لطفه وعنايته.
---
(1) النحل: 125. (2) العنكبوت: 46.
--- [8]
مخ ۷
[منزلة العقل في الاسلام:] فإذا عرفنا هذه الاهمية الكبرى للفكر في الاسلام نعرف أهمية العقل في حياة الانسان وسعادته ووصوله إلى الواقع. فان العقل أداة الفكر الذي يفكر بها الانسان وقد وردت النصوص الكثيرة في مدح العقل وجعله حجة على الناس كما ان الرسل حجة عليهم. قال الامام الكاظم عليه السلام: " يا هشام ان لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والانبياء والائمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول " (1). بل جعل التمييز بين الخير والشر والنزوع عن الشر انما هو بالعقل. فقد روي عن الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله: " انما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له " (2). وهكذا يتتابع المدح والثناء على العقل وما يلازمه من العلم والتفقه (انما يخشى الله من عباده العلماء) (3). وقال الامام الكاظم عليه السلام: " تفقهوا في دين الله فان الفقه مفتاح البصيرة " (4). وقال الامام أمير المؤمنين عليه السلام: " ايها الناس لا خير في دين لا تفقه فيه " (5).
---
(1) الكافي ج 1 / 16. (2) تحف العقول ص 44. (3) فاطر: 28. (4) تحف العقول ص 302. (5) البحار ج 70 / 307.
--- [9]
مخ ۸
[الموضوعية عند أهل البيت:] لا نعجب لما نرى أئمة الهدى من آل الرسول صلى الله عليه وآله ان هدفهم هو الوصول إلى الحق مهما كان طريقه مرا وشائكا وكأودا واننا بملاحظة تعاليمهم عليهم السلام وتربيتهم لامة جدهم نرى أروع الامثلة في الموضوعية والتجرد عن التقليد الاعمى والتعصب الجاهلي فمثلا نقرأ قول الامام الهادي عليه السلام في مناجاته لربه وتضرعه إليه: " اللهم اني لو وجدت شفعاء أقرب اليك من محمد وأهل بيته الاخيار الائمة الابرار لجعلتهم شفعائي اليك.. ". فالميزان ليس الحسب أو النسب أو العشيرة أو تقليد الاباء مهما بلغوا في عظمتهم وشهرتهم بل المقصد هو الوصول إلى الحق سبحانه والقرب إليه من أي طريق وبأي ثمن وانما يجب التمسك بالمبدأ المعين إذا كان موصلا إلى الله تعالى ومقربا نحوه والا لا قيمة له، فالامام الهادي عليه السلام يفترض - وفرض المحال ليس بمحال - انه لو وجد شخص أقرب إلى الله من الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله لوجب التمسك به، وهذا غاية الموضوعية والاخلاص إلى الله سبحانه. * * * وان الموضوعية في الابحاث مهما كانت قد تبدو حساسة وشائكة وصعبة الا انها سوف تكون عاملا مساعدا للوحدة ولم شعث الامة الاسلامية ورص صفوفها في قبال الكفر العالمي، وأما السكوت عن القضايا المذهبية والخلافية أو اثارتها بالشتم والكذب والبهتان والتعصب فانه لن يجدي نفعا للامة الاسلامية ووحدتها وعزها وكرامتها، بل يجب أن تتوحد الصفوف وتنصهر وتحابب القلوب مهما كان بينها من خلاف أو تعدد في المذاهب والافكار وتكون كالجسد
--- [10]
مخ ۹
الواحد يتألم بعضه لبعض لتعود خير أمة أخرجت للناس. وهذا الكتاب الذي بين أيدينا من جملة الكتب التي تعرض القضايا العلمية والتاريخية والفقهية والكلامية ويبحثها بحثا موضوعيا بعيدا عن التعصب المذهبي أو الطائفي بل أعطى للفكر مجاله في مناقشات الابحاث التي تعرض لها. وأول ما يلفت انتباهنا هو عنوان الكتاب (النص والاجتهاد) فماذا يراد بهذين اللفظين وما هو مقدار الصلة والتقابل بينهما. [النص:] أصل النص في اللغة: أقصى الشئ وغايته ثم سمي به ضرب من السير السريع. ونصصت الحديث إلى فلان: رفعته إليه (1). [وللنص معنيان] 1 - ان يكون في مقابل المجمل أو الغير الظاهر فيكون النص: " ما دل على معنى غير محتمل للنقيض بحسب الفهم " (2). وقال صاحب المعارج: " هو الكلام الذي يظهر افادته لمعناه ولا يتناول أكثر مما هو مقول فيه " (3). وهذا المعنى لم يكن محط لنظر المصنف. 2 - النص: المراد به الكتاب الكريم والسنة الشريفة بأقسامها الثلاثة: أ- قول المعصوم. ب - وفعله. ج - وتقريره.
---
(1) راجع: الصحاح ولسان العرب. (2) مجمع البحرين ج 4 / 186. (3) معارج الاصول ص 105.
--- [11]
مخ ۱۰
فقد أطلق على كل ذلك النص فإذا قيل عنده نص أي أحد هذه الامور وإذا قيل لم يكن عنده نص أي هذه الامور منتفية فيرجع معنى النص إلى انه: " الدليل الدال على الحكم الشرعي والثابت عن الشارع من طريق القطع أو الظن المعتبر سواء كان كتابا أو سنة ". وهذا هو مراد المصنف كما هو واضح من ثنايا أبحاث الكتاب. [الاجتهاد:] والاجتهاد في اللغة مأخوذ من " الجهد " بالضم بمعنى الطاقة وبالفتح بمعنى المشقة فهو بذل الوسع والطاقة والقيام بعمل ما مع المشقة. وبهذا المعنى استعمل في القرن الاول الاسلامي فالنصوص التي قد وردت وتحدثت عن الاجتهاد بناءا على صحة تلك النصوص فالمراد هو الاجتهاد اللغوي ولم يكن لهم اصطلاح خاص غير المعنى اللغوي. [في الاصطلاح:] والاجتهاد في اصطلاح علماء الاصول قد تعدد تعريفه عندهم: فقد عرفوه: " انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الاصل فعلا أو قرة قريبة " كما عرفه البهائي بذلك. وعرفه الغزالي بأنه: بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة ". وعرفه ثالث: من انه " الملكة التي يقتدر بها على ضم الصغريات لكبرياتها لانتاج حكم شرعي أو وظيفة عملية شرعية أو عقلية " (2).
---
(1) راجع كتب اللغة الصحاح ولسان العرب. (2) الاجتهاد لبحر العلوم والاصول العامة للحكيم، ومقدمة الكتاب للحكيم أيضا.
--- [12]
مخ ۱۱
وغيرها من عشرات التعاريف التي لا تتعدى انها شرح للاسم وليست تعاريف لحقيقة الاجتهاد خصوصا بعد تطوره واختلافه من زمن إلى آخر. [التأويل:] عرفنا فيما سبق انه القرن الاول الاسلامي لم يستعمل الاجتهاد كمصطلح خاص يغاير المعنى اللغوي بل يستعملونه في المعنى اللغوي فقط. وهم يستعملون مكانه كمصطلح خاص لفظ " التأويل " فالشخص الذي يرتكب مخالفة للكتاب أو السنة ويراد أن يعتذر عنه أو يصحح عمله يقال له تأول. وأمثلة ذلك كثيرة في الصدر الاول: منها: ان خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة عامل رسول الله على صدقات قومه اعتذر خالد عن فعله وقال للخليفة أبي بكر: " يا خليفة رسول الله اني تأولت وأصبت وأخطأت " (1). ومنها: قول أبي بكر جوابا لعمر حين قال: " ان خالدا زنى فارجمه ": " ما كنت أرجمه فانه تأول فأخطأ " أو " هبه يا عمر، تأول فأخطأ.. " (2). وهكذا كانوا يعتذرون لجملة من الصحابة في أعمالهم كاتمام الصلاة في حال السفر لعائشة وعثمان والحروب التي دارت بين الصحابة (3). وتطور الاعتذار إلى حد صار إلى كل جريمة ترتكب والمرتكب في نظرهم مسكوت عنه.
---
(1) راجع ما يأتي ص 125. (2) مقدمة مرآة العقول ج 1 / 67، وما يأتي من الكتاب ص 124. (3) صحيح مسلم باب صلاة المسافر وقصرها، وما يأتي من الكتاب ص 405 و412.
--- [13]
مخ ۱۲
فقد اعتذر ابن حزم: عن أبي الغادية قاتل عمار (رض) من انه متأول مجتهد فحطي له أجر واحد (1). مع ما تواتر من قول النبي صلى الله عليه وآله في عمار انه " تقتله الفئة الباغية " (2). بل تمادوا في الاعتذار عن أشقى الاولين والاخرين ابن ملجم في الجريمة التى هزت السموات والارض وهى قتله لسيد الوصيين عليه السلام. اعتذروا لابن ملجم كما اعتذروا ليزيد بن معاوية في قتله لسيد شباب أهل الجنة ريحانة الرسول صلى الله عليه وآله وقرة عين الزهراء البتول الامام الحسين سبط الرسول عليه السلام (3). اعتذروا لهم انهم تأولوا فأخطأوا فلهم أجر واحد. وإذا رجعنا إلى كتب اللغة في معنى التأويل لرأيناهم يذكرون ان: التأويل هو بمعنى التفسير. وتفسير ما يأول إليه الشئ (4). ولكن المعتذرين استعملوه في غير معناه اللغوي بل في الافعال التي ارتكبت مخالفة للنصوص الصريحة (5). [مدرسة الرأى:] وفي القرن الثاني تطورت أسباب الاعتذار والتبرير من " التأويل " إلى
---
(1) الفصل لابن حزم، والاصابة ج 4 / 151. (2) راجع مصادر هذا الحديث في كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات. (3) المحلى لابن حزم ج 10 / 484 والجوهر النقى لابن التركمان بذيل سنن البيهقى ج 8 / 58 وتاريخ ابن كثير ج 8 / 223. (4) راجع كتب اللغة الصحاح ولسان العرب. (5) راجع ما يأتي من أبحاث في الكتاب، ومقدمة مرآة العقول.
--- [14]
مخ ۱۳
الرأي وكانت مدارس الرأي كثيرة ادعى بعضهم وجودها في زمن الصحابة في الصدر الاول من الاسلام ولكن مدرسة الامام أبي حنيفة المتوفى 150 هوالمتواجدة في العراق فاقت بقية مدارس الرأي فقد بالغ بالاخذ به كمصدر أساسي للاحكام الشرعية ودليل قاطع فقد روى الخطيب البغدادي في ترجمة أبي حنيفة من تاريخ بغداد عن يوسف بن أسباط قال قال أبو حنيفة: " لو أدركني رسول الله وأدركته لاخذ بكثير من قولي وهل الدين الا الرأي الحسن " (1). ولهذا تشدد في أخذ النصوص من السنة النبوية إلى حد كان يرفض جملة كبيرة منها، فقد روى الخطيب أيضا عن علي بن عاصم انه قال: حدثنا أبا حنيفة عن النبي فقال: لا آخذ به فقال: فقلت: عن النبي فقال: لا آخذ به وروي أيضا عن أبي اسحاق الفزاري قال: كنت آتي أبا حنيفة أسأله عن الشئ من أمر الغزو فسألته عن مسألة فأجاب فيها فقلت له: انه يروى فيه عن النبي كذا وكذا قال: دعنا عن هذا. وقال أيضا: كان أبو حنيفة يجيئه الشئ عن النبي صلى الله عليه وآله فيخالفه إلى غيره (2). وعلى هذا المبنى فقد أفتى بجملة من الاحكام الشرعية التي توجد كثير من الروايات على خلافها (3). والحاصل: ان الرأي في مدرسة أبي حنيفة بل وفي غيرها يساوي الاجتهاد
---
(1) تاريخ بغداد ج 13 / 387 - 390. (2) راجع هذه النصوص وغيرها في تاريخ بغداد للخطيب ج 13 / 387 - 390 وكتاب المجروحين لبستى ج 3 / 65 كما في مقدمة مرآة العقول ج 2. (3) راجع ذلك في كتاب المحلى لابن حزم ج 7 / 81 و111 وج 8 / 351 وج 10 / 360 وبداية المجتهد ومقدمة مرآة العقول ج 2 / 40 - 46.
--- [15]
مخ ۱۴
وهما بمعنى واحد يقول مصطفى عبد الرزاق: " فالرأي الذي نتحدث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الاحكام الشرعية وهو مرادنا بالاجتهاد " (1). وهذا الاجتهاد عندهم على الاقل عدل للكتاب والسنة فكما انهما مدركان للاحكام الشرعية كذلك الرأي يقول الدواليبي في تقسيم الاجتهاد إلى ثلاثة: أولا: البيان والتفسير لنصوص الكتاب والسنة. ثانيا: القياس على الاشباه في الكتاب والسنة. ثالثا: الرأي الذي لا يعتمد على نص خاص وانما على روح الشريعة.. " (2). ولعل الفقر العلمي الذي حصل لديهم وذلك من ان التلقي للاحاديث ومن مصدرها قد انقطع بوفاة الرسول صلى الله عليه واله لهذا مست الحاجة إلى مثل هذه الامور بعكسه لمدرسة أهل البيت مثلا التي ترى ان الائمة عليهم السلام هم استمرار لحركة الرسول الاعظم صلى الله عليه واله وهم قد حفظوا جميع آثاره وهم لسانه الناطق فبوجودهم عليهم السلام لا تحتاج شيعتهم إلى الرأي والقياس وما شاكلهما. [مدرسة الحديث] ولما انتشرت مدرسة الرأي خرجت في قبالها مدرسة الحديث وقد أخذت هذه موقفا عكسيا لمدارس الرأي فقد اعتمدت هذه على ظواهر الحديث وشجبت جميع القضايا العقلية كالقياس والاستحسان والرأي وتعبدت بظواهر النصوص وكان من المؤيدين إلى هذه المدرسة الامام مالك بن أنس ثم تم تشييدها على يد داود بن علي الظاهري المتوفى سنة 270 هوسمي بالظاهري
---
(1) تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية ص 138. (2) المدخل إلى علم اصول الفقه ص 55.
--- [16]
مخ ۱۵
لانه كان يعتمد على ظواهر الكتاب والسنة ولم يعتمد على الاجماع الا إذا اتفق جميع العلماء على الحكم. وهذه المدرسة لم تتمكن من مصارعة مدرسة الرأي بالرغم من وجود علماء وأنصار لها كابن حزم الاندلسي فقد انقرضت هذه المدرسة في القرن الثامن الهجري. [مدرسة أهل البيت:] ان مدرسة أهل البيت في تلقي الاحكام الالهية ونشرها لها مميزاتها ومباديها الخاصة ولها الاستقلالية التامة عن جميع المدارس الاخرى التي حدثت وتعتقد ان الاحكام الشرعية يجب أن تكون من مصدر الهي ومن منبع الرسالة المحمدية لا غير وان علومهم علوم جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله ولهذا كثيرا ما يكررون ويؤكدون ان حديثهم هو حديث جدهم سواء أسندوها إليه أم لا، وانهم لا يقولون بآرائهم بل علمهم موروث من جدهم إلى الامام أمير المؤمنين عليه السلام ثم إلى الحسن ثم الحسين ثم الائمة من بعده واحدا بعد واحد فمثلا علوم سيد العترة الامام أمير المؤمنين عليه السلام مأخوذة من علم الرسول صلى الله عليه وآله فقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام قوله: " ان الله علم رسول الله الحلال والحرام والتأويل وعلم رسول الله علمه كله عليا " (1). و(سأل رجل أبا عبدالله عليه السلام - الامام الصادق - عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت ان كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟ فقال له: مه ما أجبتك من شئ فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله لسنا من أرأيت في شئ " (2).
---
(1) بصائر الدرجات ص 290 وسائل الشيعة، وراجع ما يأتي في الكتاب من الاحاديث التى قد وردت عن طريق مدرسة الخلفاء بهذا الصدد ص 568 وغيرها. (2) الكافي ج 1 / 58.
--- [17]
مخ ۱۶
وفي حديث آخر للامام الصادق عليه السلام: " مهما أجبتك فيه بشئ فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله لسنا نقول برأينا من شئ " (1). وغيرهما من عشرات الاحاديث في هذا الموضوع التي تؤكد ان مصدرهم هو جدهم الاعظم. [موقف مدرسة أهل البيت من الرأى:] ان مدرسة أهل البيت عليهم السلام وقفت من القياس والرأي والاستحسان موقفا سلبيا بل ومن الاجتهاد الذي يساوي الرأي وانكرته أشد الانكار. فقد ورد عنهم " ان دين الله لا يصاب بالمقائيس " و" ان دين الله لا يصاب بالقياس " وقالوا " ان السنة لا تقاس ألا ترى ان امرأة تقضى صومها ولا تقضى صلاتها يا أبان ان السنة إذا قيست محق الدين " (2). وكان موقف الامام الصادق عليه السلام من مدرسة الرأي واضحا فقد انكر على رائديها وخصوصا أبي حنيفة وقد وصلت عدة مناقشات بين الامام الصادق وابي حنيفة حصلت الغلبة فيها للصادق عليه السلام (3). وكذلك علماء مدرسة أهل البيت انكروا العمل بالرأي والاجتهاد الذي يساويه. وقد ألفوا الكتب في الرد على من عمل بالرأي أو القياس قبل الغيبة الصغرى
---
(1) بصائر الدرجات ص 301. (2) راجع هذه الاحاديث في الكافي ج 1 / 56 و57. (3) حلية الاولياء ج 3 / 196 وابطال القياس لابن حزم ص 71 وسائل الشيعة ج 19 / 468 باب 44 من أبواب الديات.
--- [18]
مخ ۱۷
وبعدها، فقد صنف عبدالله بن عبدالرحمن الزبيري كتابا أسماه: " الاستفادة في الطعون على الاوائل والرد على اصحاب الاجتهاد والقياس " وصنف هلال بن ابي الفتح المدني كتابا في الموضوع باسم: " الرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول " (1). وكان الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى ينكرون الاجتهاد والرأي والقياس والاستحسان وان هذه الامور ليست من مذهب الامامية (2). ولهذا انكروا على ابن ابي الجنيد عمله بالقياس إلى حد رفضوا فتاويه مع ان الشيخ المفيد والسيد المرتضى من كبار المجتهدين. فيعرف من هذا ان الاجتهاد له مفهومان: مفهوم خاص ومفهوم عام اما المفهوم الخاص: للاجتهاد فهو المفهوم الذي يساوي الرأي أو القياس أو الاستحسان يقول الشافعي. " في القياس ؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان قلت: هما اسمان بمعنى واحد " (3) وهذا الاجتهاد هو الذي كانت تأخذ به مدارس الرأي والتي تجعله مصدرا ودليلا للاحكام الشرعية كالكتاب والسنة، وهذا بعينه الاجتهاد المرفوض لدى مدرسة أهل البيت وعلمائها رفضا باتا سواء كان في قباله نص صريح ام لا ولعل بعض الابحاث التى دار الحديث عنها في داخل الكتاب يكون من مصاديقه.
---
(1) رجال النجاشي، المعالم الجديدة للاصول ص 24. (2) المعالم الجديدة ص 25، الذريعة للسيد المرتضى ج 2 / 308، الجواهر ج 40 / 89. (3) الرسالة للشافعي ص 477.
--- [19]
مخ ۱۸
[المفهوم العام للاجتهاد:] وهو قريب من المعنى اللغوي ان لم يكن هو فان هذا الاجتهاد هو ان يقوم الفقيه بعملية استنباط الاحكام الشرعية من أدلتها كالكتاب والسنة فبينما اصبح الاجتهاد بالمعنى الخاص دليلا يعتمد عليه الشخص حينما يسأل ويقول اجتهادي كان الاجتهاد بالمعنى العام هو بذل الجهد والطاقة في فهم الحكم الشرعي من الكتاب أو السنة الشريفة وان كان قد اختلف العناء والمشقة في استخراج الحكم من ظاهر الاية أو الرواية فبينما كان في السابق لا يوجد فيها اي عناء فلا يقال له اجتهاد بينما الان اصبح العناء فيها شديدا جدا لما يبذله الفقيه من جهد علمي لتحديد الحكم الشرعي فيصدق عليه انه مجتهد. ومع البعد الزمني اصبحت عملية الاستنباط ليست جائزة فحسب بل واجبة وذلك لتوقف فهم الحكم الشرعي عليها وتحديد الوظيفة العملية للمكلف بها. وبهذا يفسر موقف جملة من علمائنا الاخيار حيث شجبوا الاجتهاد. واستدلوا على حرمته بالروايات السابقة وغيرها، فانه قد حصل اللبس والخلط بين المعنى الاول التي ترفضه مدرسة أهل البيت والمعنى الثاني التي توجبه على نحو الكفاية. [الاجتهاد في قبال النص:] نعم مدرسة أهل البيت لا تجيز الاجتهاد مطلقا في ما إذا وجد نص على خلافه بل تلزم بالبحث عن النص قبل الحكم خصوصا مع احتمال وجوده وعلى هذا بنى المصنف كتابه هذا فانما هذه الموارد المذكورة يوجد على خلافها
--- [20]
مخ ۱۹
النصوص الصريحة الواضحة والتي كانت منتشرة في البلاد وبين أيديهم الكثير منهم يعرفونها. وعلى فرض عدم معرفتها لابد من الفحص ليتأكد عدم وجود الدليل، ومن الواضح جدا ان الرسول الاعظم حينما يحدث بحديث قد يكون عنده شخص أو شخصان أو اكثر لان اكثرية الصحابة مشغولون بامورهم وترتيب نظام اجتماعهم فيلزم بقية الصحابة الذين لم يحضروا وقت الحديث ان يفحصوا عنه والا فلا يحق لهم الحكم بدون ذلك. * * * وهذا الكتاب لاهميته في الاوساط العلمية وفائدته الجليلة ولانه يعالج بعض القضايا بالرغم من كونها صعبة الا انها سوف تعود على الامة الاسلامية بالنفع الكثيرة وخدمتها وتوحيد كلمتها ولم شعثها خصوصا وان مؤلفه الامام شرف الدين لم يألوا جهدا في جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وكتاباته في مراجعاته وفي فصوله المهمة تدل على ذلك لاجل ذلك وغيره طلب مني بعض الفضلاء والسادة الاجلة منذ زمن بعيد وتكرر الطلب على ان احققه واعلق عليه وبعد مد وجزر قمت بذلك وتم والحمد لله فارجو من الله العلي القدير ان يجعله خالصا لوجهه الكريم وان ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين. قم ابو مجتبى
--- [1]
مخ ۲۰
النص والاجتهاد
تأليف الامام عبد الحسين شرف الدين الموسوي قدس الله سره
تحقيق وتعليق ابو مجتبى
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
[خطبة الكتاب]
الحمد لله الذي اختص عبده ورسوله محمدا بما اختصه به من الكرامة والمنزلة والزلفى لديه، فعلمه علم ما كان وعلم ما بقي، وآتاه من الفضل ما لم يؤت أحدا من العالمين، و" الله أعلم حيث يجعل رسالته " فختم به النبوة والوحي ونسخ بشريعته السمحة ما كان قبلها من شرائعه المقدسة المتعلقة بأفعال المكلفين (2) فحلال محمد هو الحلال إلى يوم القيامة، وكذلك حرامه وسائر أحكامه (1)، سواء أكانت تكليفية أم وضعية. وهذا مما أجمع عليه المسلمون
---
(1) بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد والائمة من آله شهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء وعلى الصالحين من ذريتهم ومواليهم في كل خلف ورحمة الله وبركاته (منه قدس). (2) دون ما كان منها متعلقا بأصول الدين كالتوحيد والعدل والنبوة والبعث والجنة والنار والثواب والعقاب، فان هذه وأمثالها مما جاء به آدم وسائر من بعده من الانبياء حتى خاتمهم صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين (منه قدس). (1) مضمون الحديث القائل: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة. وسائل الشيعة ج 18 / 124 ح 47.
--- [2]
مخ ۱
كافة، كاجماعهم على نبوته صلى الله عليه وآله لم ينبس (1) منهم واحد بكلمة من خلاف فيه، ولا رتم بها أبدا. وقد علموا - ولله الحمد - ان الشرائع الاسلامية قد وسعت الدنيا والاخرة بنظمها وقوانينها وحكمتها في جميع أحكامها وقسطها في موازينها، وانها المدنية الحكيمة الرحيمة الصالحة لاهل الارض في كل مكان وزمان، على اختلافهم في أجناسهم وأنواعهم وألوانهم ولغاتهم. لم يبق شارع الاسلام " وهو علام الغيوب جل وعلا " غاية الا اوضح سبيلها وأقام لاولي الالباب دليلها، وحاشاه تعالت آلاؤه أن يوكل الناس إلى آرائهم، أو يذرهم يسرحون في دينه على غلوائهم، بل ربطهم - على لسان عبده وخاتم رسالته - بحبليه، وعصمهم بثقليه، وبشرهم بالهدى ما ان أخذوا بهديهما، وأنذرهم الضلال ان لم يتمسكوا بهما، واخبرهم انهما لن يفترقا ولن تخلو الارض منهما حتى يردا عليه الحوض (2)، فهما معا مفزع الامة ومرجعها بعد نبيها، فالمنتهج نهجهما لاحق به، والمتخلف عنهما أو عن أحدهما مفارق له صلى الله عليه وآله وسلم (3).
---
(1) أي ما تكلم، وكذا ما نبس ولا رتم (منه قدس). (2) اشارة إلى حديث الثقلين الاتى مع مصادره تحت رقم - 15 -. (3) مشيرا إلى قوله صلى الله عليه وآله في القرآن وعترته: " فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم " راجع الحديث في: الصواعق المحرقة ص 148 و226 ط المحمدية وص 89 و136 ط الميمنية، مجمع الزوائد ج 9 ص 163 ط بيروت، كنز العمال ج 1 ص 168 ح 958 ط 2، الدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 60 ط مصر، ينابيع المودة للقندوزى ص 41 و355 ط الحيدرية وص 37 و296 ط اسلامبول، الغدير للاميني ج 1 ص 34 وج 3 ص 80 ط بيروت.
--- [3]
مخ ۲