أجل، إن نابوليون عمد إلى الانتحار بعد ما رآه من خيانة المارشال مارمون ونفور القواد الذين أسبغ عليهم النعم، ولكن إقدامه على الانتحار في ذاك الوقت كان ضربا من كره الحياة لما رآه من الانحطاط الإنساني، لا جبنا ولا خوفا من مصاعب شامخة، وسيرى القارئ خلاصة ما جرى وقتئذ.
الفصل الرابع والعشرون
طالع النحس
أفل نجم السعد وطلع طالع النحس على نابوليون منذ أخذ قواده الذين أسبغ عليهم العطاء ونهض بهم إلى أوج الشرف والعلاء يعارضونه في أوامره، ولقد بدأ نابوليون يشعر بتقاعد أولئك القواد منذ سنة 1809 ويخشى مغبته، وروى الجنرال راب أن نابوليون قال في مأدبة أقيمت سنة 1812 أمام مورات وبرتييه وغيرهما: «إن ملك نابولي - أي مورات - لا يريد الخروج من قصره الجميل، وبرتييه يريد الصيد والقنص في جروبوا، وراب لا يروق له إلا البقاء في منزله البديع في باريس.» وقال مرة أخرى أمام برتييه: «أنتم رؤساء أركان الحرب تعدون نفوسكم أرباب شأن وأهمية ... إني جعلتكم سادة عظماء فأخذتم تتملقون بلاط النمسا.» ثم قال لكولنكور دوق دي فيسانس: «ألا ترى يا كولنكور ما يجري؟ إن الذين غمرتهم بالنعم يريدون أن يتنعموا ويأبون أن يقاتلوا، إلا أن هؤلاء المساكين لا يشعرون بأنهم ما زالوا في حاجة إلى القتال للحصول على الراحة الأكيدة التي يتوقون إليها، أفلا يرون أني أملك مثلهم قصرا وأن عندي زوجة وولدا؟ أو لا يرون أني أنهك صحتي بضروب المتاعب وأستهدف للخطر من أجل الوطن؟ يا لنكران الجميل!»
وكان نابوليون يعرف أن الدواء الوحيد لذاك الداء إنما هو إبعاد الذين وهنت عزائمهم وأبوا إلا التمتع في بحبوحة النعماء، ولكنه لم يكن يرغب في إلحاق العار بهم بعد ما شاركوه في النصر، وكانوا ساعده الأيمن في نيل الفخر.
وليس هناك ريب في أن رغبة أولئك القواد العظام في الراحة والسلام حملتهم مرارا على مقاومة نابوليون وبلغت بأحدهم أن أفهم العدو ميله إلى الصلح، ومما يذكر في هذا الصدد أنه لما اجتمع نابوليون والوزير مترنيخ في درسد للنظر في أمر الصلح قال المارشال برتييه لمترنيخ نفسه: «لا تنس أن الجيش بل فرنسا كلها تريد السلم»، في حين أن مصلحة نابوليون وفرنسا كانت تقضي بأن يخفي هذا الشعور أمام عدوه، ولما أخذ نابوليون يظهر القوات التي كان في وسعه أن يحشدها، وبدأ يطنب في أمرها جريا على عادته، التفت إليه مترنيخ وقال: «إن الجيش نفسه يريد الصلح»، فجرح هذا الجواب فؤاد نابوليون وقال: «كلا ... إن الجيش لا يريد الصلح، ولكن قواد الجيش يريدونه.»
وكان أولئك القواد كلما آنسوا ضعفا في معاملة نابوليون لهم، ازدادوا جسارة ووقاحة عليه، ومع هذا كله فإن تذكار الماضي أبى عليه أن يترك طريق التساهل والتسامح، فصار يشاورهم في الأمور الحربية ويضيع شيئا فشيئا ثمرة عبقريته السامية، ولما زحف نابوليون إلى روسيا سنة 1812 كان أولئك القواد يناقشونه الآراء والمسائل ويضطرونه في كثير من الأحيان إلى التسليم بآرائهم، وفي سنة 1813 عدل عن الزحف إلى برلين استسلاما إليهم واشتبك في معركة ليبزيك التي كانت شؤما ووبالا عليه، وانتهت به الحال إلى أن قال للمارشال ماكدونالد: «إني أصدرت الأوامر فلم يسمعوها، وأردت أن أجمع البحارة مع حرس من الفرسان فلم يأت أحد.» ولذلك قال البارون «فين» معتمدا على أقوال الجنرال جورو: «إنه لو اعتمد نابوليون على نفسه وحدها لاتقى فشلا كبيرا.»
ولما رأى نابوليون أن جنود التحالف الأوروبي أخذوا يهددون فرنسا، قرر أن يسترجع سلطته وهيبته لدى قواده، قرر أن لا يسمح لهم بتعديل آرائه الحربية، وكان من مزاياه أن حزمه يتعاظم بتعاظم الخطوب والكروب، وهاك ما كتبه إلى القائد أوجيرو:
إذا كنت أوجيرو الذي عرفناه في كاستيليوني فلتبق القيادة لك، أما إذا كانت الستون سنة تثقل عاتقك وتضعف من همتك فاترك القيادة لأقدم جنرال من ضباطك، فإن الوطن مهدد ومحفوف بالمخاطر لا ينقذه إلا الجسارة والإرادة الحسنة ... قم إذن وافتح صدرك للرصاص في الطليعة.
وكتب أيضا: «أبلغوا الجنرال ديجون أني مستاء أشد الاستياء من طريقة استخدامه للبطاريات، وأن جميع المدافع كانت في حاجة إلى القنابل الساعة الثالثة بعد ظهر أمس؛ لأنه أبقى الذخيرة بعيدة عن البطاريات، وأخبروه أن ضابط المدفعية يستحق الموت إذا ترك مدافعه بلا ذخائر.» وقس على ما تقدم كثيرا من الملحوظات الشديدة.
ناپیژندل شوی مخ