9
حان الموعد، وضع نظارته جانبا، أخذ صينية القهوة إلى المطبخ، غسل فنجانه بعناية، وضعه على المشبك، وراح يتأمل تساقط قطرات الماء عنه، كم مضى عليه من الزمن وهو يشرب بهذا الفنجان تحديدا؟ فنجان أبيض مذهب الحواف! لم يكونا يملكان غير هذه الفناجين، لطالما شربا القهوة فيها، كانت مولعة بالقهوة. لقد تكسر من طقم الفناجين هذا حتى اليوم ثلاثة فناجين وطبقان، في كل مرة ينكسر فيها فنجان كان يدخل في حالة حداد وكأنه فقد أحد أبنائه، ومنذ تلك الأيام لم يستبدل فناجينه بأخرى، كان يعد ذلك نوعا من الوفاء، أو التشبث بقشة أمل، أو هو مجرد تحايل على النفس لإرضاء رغبتها بأن يبقى كل شيء على حاله حتى عودتها. ضحك سخرية في سره، ابتلع حرقته واتجه إلى غرفته، بدل ملابسه، ارتدى سرواله الكحلي الأثير لديه، وقميصه الأبيض. ألقى نظرة إلى نفسه في المرآة، نظرة خاطفة واحدة استغرق فيها من الوقت ما يسمح له أن يطمئن على مظهره بشكل عام، وانتظام الشعرات الفضية على رأسه، ثم استدار هاربا من عينيه اللتين ستسألانه السؤال نفسه: ماذا تفعل كل هذه الأعوام؟ ألم تمل بعد؟ كفاك جنونا فلن تعود. هرب من الأسئلة كلها إلى جرح يتيم في صدره: وهل هناك شيء آخر لأفعله؟
عاد إلى مكتبته مجددا، استل علبة شامواه من درج مكتبه الثاني، لقد اهترأت العلبة كثيرا، وانمحى لونها الأخضر، مسح الغبار عنها، وفتحها متأملا العقد ذا الحجر السماوي. أغلق العلبة ووضعها في كيس من الكرتون وخرج إلى موعده.
لم يكن الطريق سهلا، وخاصة في السنوات الأخيرة التي اشتعلت فيها الحرب في حلب وأحيائها الشرقية خاصة. إن عليه أن يذهب هناك إلى حي الشعار تحديدا، صحيح أن البيت الذي سكناه معا كان بالأجرة، لكنها لا تعرف غيره، قد تعتقد أنه لا يزال هناك. تطاول الوقت معه كثيرا فلم يصل إلى الحي حتى انتصفت الشمس في كبد السماء.
لقد تغيرت الحارة كثيرا، وتبدلت ملامحها منذ عام إلى الآن. أبنية مهدمة وأخرى مسودة من آثار الاحتراق، أصوات إطلاق رصاص من بعيد يتخللها صفير صاروخ أو دوي انفجار. في كل مرة يسمع فيها صوتا قويا كان ينحني إلى الأرض ليحمي بحركة لا إرادية رأسه ويشد الكيس الورقي إلى صدره، ثم يعود فينتصب واقفا ويكمل طريقه، وكذلك يفعل الناس من حوله، ويستمر بعدها كل إلى وجهته. وبصعوبة كبيرة اقترب من بلوغ المكان، إلى مفترق الطرق المؤدي إلى بيتهما القديم.
كان يلهث تعبا من طول المدة التي قضاها ماشيا، أو خوفا من يأس ينتظره، أو رهبة من أمل قد يتحقق. تسارعت نبضات قلبه مع كل خطوة يخطوها، وتسارعت معها خطواته وصارت أقرب إلى الهرولة. راحت حبات العرق تنسكب من جبهته ورقبته وتبلل ياقة قميصه؛ فشمس آب كانت كعادتها سخية بحرارتها مع سماء مقفرة تماما من الغيوم. وشيئا فشيئا خلت الشوارع في مثل هذا الوقت من المشاة، على بعد أمتار منه هناك رجل يمشي أمامه حاملا سطلا من اللبن وأكياسا سوداء، وعلى الرصيف المقابل كانت هناك سيدة بدينة تمشي ببطء وتتمايل على الجانبين وتشد بيدها طفلا بالكاد يمشي.
تقدم أكثر وخلا المكان تماما من الناس؛ فالحارة التالية مهدمة بالكامل، من بعيد رأى الشجرة التي يعرفها جيدا، أسرع باتجاهها هربا من الشمس الحارقة، وطلبا للظل. اقترب أكثر ولاح له لأول مرة سواد على الأرض، اضطرب قلبه، ارتعشت شفتاه، أخرج منديلا ومسح العرق من جبينه، توقف لحظة وراح يحدق خلف الشجرة. مشى بضع خطوات وتبين له بما لا شك فيه أن هناك شخصا يجلس تحت الشجرة. أتكون هي؟ وعند هذه اللحظة انشل كل شيء فيه، وتسمرت قدماه، وكأنهما صخرتان مثبتتان في الأرض، ليته يمشي خطوتين أيضا ليتأكد أكانت هي أم لا، ليته يعرف؛ فأن يفقد الأمل هذا العام أيضا خير له من هذه الحالة التي تملكته الآن! تجمد مكانه دقائق كانت بالنسبة إليه خرقا للزمان وسقوطا في العدم.
وفجأة تحرك ذلك الشخص الجالس تحت الشجرة، وقف، لا، بل وقفت، إنها سيدة بتنورة بنية طويلة وسترة مزهرة وحجاب سكري اللون. التوى على نفسه فقد آلمه قلبه وكأنما سرى فيه سيخ من نار. قامت السيدة ونفضت ثيابها، انحنت إلى الأرض وحملت سجادة وقامت بنفضها أيضا، إنه لا يرى وجهها إلى الآن، فتحت حقيبتها، أخرجت نظارة شمسية وارتدتها، رفعت يدها اليسرى ونظرت إلى ساعتها، تقدمت إلى الأمام قليلا، استدارت فالتقت أعينهما.
خلعت نظارتها على الفور، وقطبت جبينها محاولة تركيز نظرها على هذا العجوز الواقف أمامها على مسافة عشرة أمتار تقريبا. رقص قلبها بخفة، وعلمت على الفور أنه هو، ابتسمت، وشيئا فشيئا تحولت ابتسامتها إلى ضحكة عالية وصاحت: نوار. ركضت إليه، تأملته عن قرب، أما هو فقد غاب عن العالم، وطار إلى الجنة، إنها هي ...!
توقفا دقيقة، ظل صامتا تاركا روحه تقول كل شيء، يتأملها مركزا على عينيها الدامعتين، وكانت هي تتحدث وتبكي بلا انقطاع. لم يكن يصغي ولم يعرف ماذا تقول، كان مكتفيا بلذة قربها، بفرحها الطاغي، ببكاء كان يغالبه. وثار أخيرا إثر لمسة حانية من كفيها على وجهه، واضعة إبهاميها على حاجبيه كعادتها دائما حين كانت تتدلل بحب.
ناپیژندل شوی مخ