ابتسم عندما رآني أحدق في الخاتم، وقال: «أعجبك؟ إنه من حجر العقيق، هدية قديمة من شخص قديم.» ارتبكت لملاحظته، ووخزني أبي على كتفي، فأطرقت في الأرض خجلا. سارع إلى القول: «تفضلا بالجلوس.» وجلس هو وأبي حول الطاولة الخشبية، وأخذت أحدق في الكتب الكثيرة بينما كانا يتحدثان، ونظرت إلى الأعلى فرأيت ثريا تتدلى من السقف تشبه بتصميمها تلك التي في بيوت الأشباح. انتبهت على قوله موجها حديثه إلي: «حدثيني، أي نوع من الكتب تفضلين؟» أجبته مستحضرة عبارة ذلك الشاب ذي الجبهة العريضة: «لكل قارئ عشقه الخاص.» رفع حاجبيه إعجابا كما أظن، بينما قطب أبي جبينه استياء، ثم قال: «أفترض إذن أنني سأتركك هنا لتختاري من الكتب ما تشائين.» ابتسمت لهذه الفكرة، وخرج مع والدي.
3
بقيت وحدي في غرفة المكتبة، كانت من أكثر اللحظات إثارة في حياتي، أخذت أقلب نظري بين أرفف المكتبة. كان ثمة جدار بكامله لا يحوي تقريبا إلا كتبا أجنبية، بلغة عرفت فيما بعد أنها اللغة الألمانية. اتجهت إلى قسم آخر فوجدت الكثير من الكتب التي تتحدث عن المعادن والآلات والميكانيك وغيرها من المصطلحات التي لم أفهم معظمها، بدأ حماسي يخبو. مشيت باتجاه النافذة فثمة كتب مكدسة تحتها على الأرض، أخذت أقلبها فإذا هي في مواضيع دينية تتحدث عن الله، ودواوين كثيرة لشعراء لم أسمع بهم من قبل، ولأني لم أكن أحب الشعر وقفت وقد ازدادت خيبة أملي. في الحقيقة لم أكن أدري عن أي شيء أبحث، اتجهت إلى قسم آخر ووجدت الكثير من القصص والروايات، فتحمست قليلا، أخذت أبحث عن واحدة تلفت انتباهي، لكن عناوين الروايات والقصص كانت تبدو لي مملة، حينها سمعت أبي يناديني: «هيا سنعود إلى البيت.» ودخل الجار إلى المكتبة وسألني: «هل اخترت كتابا؟» ولما وجد يدي فارغة قال: «ليس بعد؟» أجبته: «لم أجد ما أعرفه بعد.» فقال: «إذا كنت تبحثين عما تعرفين، فستكررين قراءة الكتب ذاتها، كيف ستكتشفين حبك لأمر ما إذا كنت لا تجربينه أولا؟» لم أجب، فنظر إلى الكتب حيث كنت واقفة، وقال: «القصص والروايات ممتعة جدا.» ثم مد يده وأخرج كتابا أعطاني إياه وقال: «ما رأيك أن تبدئي بهذه الرواية؟» نظرت إلى العنوان: «الدوامة»، ولأني لم أشأ إحراجه أمسكت بالرواية مبتسمة وقلت: «شكرا لك، سأقرؤها.»
عدنا إلى البيت على أقدامنا؛ فلم يكن بعيدا، وقد اشتد الحر، فلم أكد أصل إلى البيت حتى رميت بنفسي على السرير مجهدة، وقد أخذ النعاس يتملكني وخيل إلي أنني أطير بين بناءين عاليين وكنت في غاية السعادة. انتبهت على صوت أمي تنادينا على طعام الغداء، تحلقنا حول الطاولة، التفت أبي إلي وقال: «متى ما انتهيت من الكتاب أعيديه للدكتور نور، لا نريد أن يقول عنا إننا لا نعيد الأمانة، وها قد عرفت البيت، لكن لا تذهبي وحدك، خذي فاطمة معك.» «نور» هذا هو اسمه إذن، أخذت أفكر لم هذا هو اسمه بالتحديد؟ كنت أومن أن للأسماء طاقة خفية تسري في صاحبها، وعبثا يحاول الآباء والأمهات انتقاء أسماء أولادهم، ويعتقدون أنهم هم الذين يهبونهم الأسماء، لكن الحقيقة أن لكل إنسان اسمه الخاص المرتبط بوجوده وبذاته، ولا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم على الإطلاق، «نور» اسم جميل يحمل الكثير من التفاؤل والحياة. كانت الأفكار تتدفق إلى رأسي بينما كنت أتناول الطعام، ثم تذكرت أن أبي قال «الدكتور نور»، فسألته: «هل جارنا يدرس في الجامعة؟» أجاب: «نعم، يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية.» التمعت عيناي وقلت بعفوية: «ما أروع هذا!» أجاب أبي: «وما الرائع فيه؟ أتعلمين كم راتبه؟ إن أعلى راتب يحصلونه لا يتجاوز نصف ما أجنيه شهريا، ويقولون إنهم في أعلى السلم الوظيفي!» ثم ضحك ساخرا وأكمل طعامه في حين توقفت أنا وقد شعرت باستياء كبير.
اتجهت إلى غرفتي وأمسكت الرواية: «الدوامة» لجان بول سارتر، أهو إنجليزي أم أمريكي أم غير ذلك؟ لم أكن قد سمعت عنه من قبل، ولم أكن قد قرأت أعمالا أو كتبا مترجمة أصلا. وما إن بدأت في القراءة حتى اختفى كل شيء بالنسبة إلي، وانحصر عالمي كله في هذه الرواية، ولم أتوقف حتى انتهيت من قراءتها. كانت ممتعة حقا، وأكثر ما شدني إليها فكرة أنه لا يوجد خير أو شر محض في هذا الوجود، وما نعتقده شرا مطلقا، فإنه يحمل فيه بذرة الخير، والعكس صحيح. أخذت نفسا عميقا ورحت أبحث في حياتي عن الأمور التي أمقتها وأعتقد أنها سيئة، فتذكرت الدروس التي كنت أحضرها مع أمي، عندها عقدت العزم على أن أعود إليها بروح جديدة حتى لو كنت أعتقد أنها سيئة جدا، أن أبحث فيها عن خير ما، عن شيء يجعلني أعتقد حقا بهذه الفكرة، فإن لم أجد سلمت ببطلانها. أعجبتني الفكرة، وقبل أن تشغلني الحياة عنها، فتحت صفحتي على الفيسبوك وكتبت فيها:
لا شر مطلق؛ ففي شدة الظلام ثمة بصيص نور.
وحدث ما كنت أخشاه؛ فما إن عدت إلى الدروس مع أمي بعد انقطاعي عنها مدة سنة تقريبا حتى انهالت النسوة علي وعلى أمي بالأسئلة عن سبب اختفائي، وهل ذلك بسبب خطبة أو زواج أو مرض ما، وكن يحدقن في يدي بحثا عن خاتم خطوبة، وأخذت بعضهن تغمز أمي وتهمس لها، بينما راحت أخرى تحدق في حاجبي وتسألني: «كأنك أزلت شيئا من حاجبيك؟ ما تعرفين أن من تفعل ذلك ملعونة؟» كنت أبتسم مجاملة لهن حتى حضرت «الآنسة» وكان كل شيء يجري بشكل اعتيادي حتى وقعت عيناها علي، فحملقت في وحدقت وقالت بلهجة حانية: «أهلا أهلا، أخيرا قررت العودة إلى الله، لا تيأسي يا ابنتي فالله يغفر للمعرضين عنه.» ومع أنها قالت ذلك بأسلوب ودود، فإنني لست أدري بعد أن سمعت منها هذه الكلمات ما الذي جرى لي، شعرت بحرارة مباغتة تسري في جسمي، وأخذت الكلمات تتدفق من لساني كنبع ماء متفجر، وكان مما قلته؛ فقد نسيت معظمه: «ومن قال لك إنني قد أعرضت عنه للحظة؟ هل تجرئين على القول إنني لا أحب الله؟ وهل كشفت عن قلبي؟ أم أن الوحي نزل إليك؟ لم لا تنظرين إلى قلبك وتطلبين المغفرة أنت؟ أم أنك معصومة عن الخطأ؟ أخبريني لم تكشف الحجب عنك أنت بالتحديد دونا عنا جميعا؟ ما هي هذه الحجب؟ حدثينا، وكيف يحدث ذلك؟ اشرحي لنا، من حقنا أن نعرف، وأنت ألا ترتكبين الذنوب أبدا؟»
خيم صمت مطبق كصمت القبور وشعرت أنه سيدوم إلى الأبد، كانت عيناي مسمرتين في عينيها، ولم أرمش للحظة، ولم أدر عن بقية النسوة أين وماذا كن يفعلن. كانت تغمرني نشوة الانتصار، استمر الصمت طويلا حتى شعرت بألم حاد في فخذي فقد كانت أمي تقرصني وتقول: «دخيلك يا آنسة لا تؤاخذيها؛ فهي طفلة لا تدري ما تقول.» ظلت الآنسة صامتة وقد احمرت وتلونت من فرط غضبها ولكنها أخيرا رفعت نظرها إلى الأعلى وقالت: «ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، قوموا إلى بيوتكم. انتهى الدرس!»
لن أحدثكم بعدها ما حدث من النسوة ومن أمي تحديدا التي أصابها العار مني لأني تطاولت على «الآنسة»، لكنني بقيت صامتة طوال الوقت؛ فاللذة التي حصلت عليها تكفيني، فلما عدنا إلى البيت انهالت علي أمي بغضبها، وأظهرت حسرتها على أنني ضيعت تعبها وتربيتها، ومنعتني هذه المرة من الحضور معها في الأسبوع القادم. دخلت إلى غرفتي مجهدة؛ فقد خضت للتو أول معركة لي وانتصرت فيها، لكن عن أي نصر أتحدث؟ وأي معركة؟ وهل فعلا حصلت على ما كنت أبحث عنه؟ هل وجدت الخير؟ وجدتني أتضاءل من جديد، وأنكفئ على نفسي ندما. وفي تلك الليلة حين وضعت رأسي على الوسادة واستحضرت نعم ربي علي، لم أسمع رده المعتاد حين قلت له: «شكرا!»
4
ناپیژندل شوی مخ