إنها الساعة الثانية صباحا، الحرارة تحت الصفر بثلاث درجات، مطر خفيف تلسع حباته كإبر مسمومة، هواء مثلج يلفح الوجوه، الأبواب كلها مغلقة، المحال والأكشاك مقفلة، والتيار الكهربائي مقطوع، والقمر مختبئ خلف الغمام متواطئا مع كل شيء ليظهر وجه الشتاء الكالح. حافلة تتحرك بتثاقل يشق هدير محركها الصاخب صمت الليل والشتاء، تقف جاثمة عند ساحة «سعد الله الجابري»، تفتح بابيها دفعة واحدة ليخرج منها اثنان وأربعون رجلا قد نالهم العفو العام، وها هي أقدامهم تطأ الأرض للمرة الأولى بعد عشرة أعوام على الأقل. تبادلوا نظرات الوداع بعيون تفيض فرحا وألما وشوقا، إنها كومة من مشاعر تتفجر في قلوبهم دفعة واحدة.
تفرق الجميع واختفوا في السواد، كل إلى وجهته المحتملة، نظر سليمان إلى «الحاج صالح» الذي كان أكبرهم سنا وعزم على اللحاق به؛ فلم يعد يعلم أين يسكن أهله في حلب، توغل خلفه في الحارات المظلمة، كل شيء يبدو غريبا وجديدا حتى الهواء بدا له خارجا للتو من رئة الطبيعة البكر. وعلى الرغم من الوحشة والعتمة تملكته دهشة الاكتشاف الأول وهو يراقب مدخل الحديقة العامة بأدراجها العريضة الممتدة نحو الأسفل، وأشجارها الكثيفة، وتمثال أبي فراس الحمداني القابع في المنتصف. كانت رؤيتها بعد كل هذه السنين بمثابة النقرة الأولى في جليد ذاكرته المتجمدة منذ خمسة عشر عاما. إنها هي كما هي، لكنه لم يعد هو، ها هو ينزل درجاتها ركضا ليلحق بوالدته وأخيه الذي يحمل المثلجات حتى يتناولها قبل أن تذوب. هنا كان يجلس بائع الألعاب «صطيف»، وبجانبه «بسطة أبو عبدو» للموالح والمكسرات، وهناك عربات البوشار وبائع اليانصيب. خطا إلى الأمام خطوتين فانزلقت قدمه في حفرة تجمع فيها ماء المطر وسقط أرضا ليستفيق من طوفان الذكريات على ألم في كاحله أعاد إليه الإحساس بالزمان والمكان. بحث عن «حاج صالح» لكنه لم يجده، قطب جبينه فقد صار وحيدا الآن بلا مكان يأوي إليه، ولا أحد يلحق به.
قادته خطواته في الحارات المظلمة مستهديا بحدسه وبخريطة انطبعت منذ زمان في ذاكرته المجمدة حين كان يخرج من الحديقة كل مرة إلى دكان جارهم في «الجميلية» بائع الألبان والأجبان ليشتري لترين من الحليب كما كانت توصيه أمه دوما، ويا للعجب! وجد المحل كما هو، وقف قبالة «درابيته» الحديد المغلقة، واستسلم لفيض الذكريات، راح يبتسم وعيناه تجودان بالدموع كمن عاد أخيرا إلى حضن أمه بعد فراق طويل. تذكر الحاج بكري وهو يلوح له بالعصا حين يراه يختلس قطعة من الجبن الشهي الساخن الذي خرج توا من الماء المغلي، وداعبت رائحته الممتزجة بالمحلب وحبة البركة حواسه المتلهفة ومعدته الخاوية، ابتلع ريقه وهو يتذكر طعمها الذائب في فمه، تذكر أنه لم يتذوقها كل تلك السنين «لا بأس؛ فالحياة تنتظرني الآن بكل ما فيها من متع مؤجلة!» تلفت يمينا وشمالا، لاحظ على بعد دكانين بصيصا من نور ينبعث من أسفل أحد الأبواب المغلقة، يبدو أن أحدهم في الداخل، اتجه إليه وطرق طرقا خفيفا. بعد دقيقة فتح الباب وخرج رجل خمسيني قصير أصلع الرأس، يضع نظارة على أرنبة أنفه، ويرتدي معطفا سميكا من الجوخ يصل إلى تحت ركبتيه.
نظر إليه متفحصا مرتابا من الأعلى إلى الأسفل، فبادره سليمان بقوله: السلام عليكم. - وعليكم السلام. - أعرف أن الوقت متأخر لكن ليس لي مكان أذهب إليه، وا... - طيب؟ - أتساءل إن كنت تسمح لي بالمبيت عندك حتى الصباح فقط، البرد هنا لا يحتمل.
أخذ الرجل يتفحصه مليا، ثم تنحى عن الباب وأشار إليه بالدخول، شكره سليمان كثيرا ودخل. كان المحل صغير المساحة، تتوسطه ماكينة خياطة قديمة، وقطع من القماش المتراكم على الأرفف والأرض، وبعض الثياب المعلقة، وعلى الجدار خلف الماكينة علقت صورة بالأبيض والأسود لرجل يرتدي طربوشا، وفي الزاوية مدفأة مازوت صغيرة تضطرم فيها النار وتملأ المحل دفئا. قال الرجل: «تشرب شاي؟» رد سليمان بارتياح: «نعم شكرا.» فغاب الرجل خلف ستار وعاد بعد دقائق حاملا كوبين من الشاي الساخن، وفطيرة جبن، قال: تفضل، ستشعر بالدفء الآن. - أشكرك وأعتذر لإزعاجك. - بالعكس، أتيت في وقتك المناسب؛ فقد بدأت أشعر بالنعاس والضجر، وعلي عمل كثير لأنهيه الليلة؛ فغدا هو العيد كما تعلم، والناس لا تفطن لإصلاح ثيابها أو تقصيرها إلا ليلة العيد. - آه، صحيح، غدا العيد! الله يعطيك العافية، وكل عام وأنت بخير. - حظك حلو، لولا العيد ما وجدتني هنا في المحل.
ابتسم سليمان وارتشف رشفة من الشاي. - أنا أبو أنس الخياط، وجنابك؟ - سليمان. - احك لي يا ابني سليمان، كم سنة بقيت؟ - بقيت في ماذا؟ - في الحبس!
فتح سليمان عينيه دهشة، هل هو مكتوب على جبيني أم ماذا؟ ضحك أبو أنس وقال: نعم، هذا واضح، لا أحتاج إلى ذكاء كبير لأعرف.
اكتفى سليمان برشف الشاي فقد شعر بالاستياء، فعاجله أبو أنس بقوله: عليك ألا تنزعج، أنا لا أحاكمك.
ابتسم سليمان بشرود، وأكمل كوبه وفطيرة الجبن الباردة، ودلف خلف الستار، واستلقى على إسفنجة كانت هناك نصف استلقاء؛ فالمساحة لم تكن لتسمح له بالتمدد الكامل، لكن من يأبه؟ لقد اعتاد سليمان على النوم في ظروف وأمكنة أسوأ من هذه بكثير .
6
ناپیژندل شوی مخ