في هذه اللحظة، سمعت طرقا على الباب، ارتجفت للصوت، فوقعت القلادة من يدي، وبسرعة أعدتها إلى مكانها، وأغلقت الدرج، وركضت نحو الباب وأنا أرتجف خوفا. فتحت الباب، واصطنعت ابتسامة لأخفي توتري الشديد، سلم علي جدو نور ودخل متجهما، جلس على الكرسي الهزاز وظل واجما.
أتراه اكتشف فعلتي؟ هل كان يختلس النظر من النافذة، ظل صامتا ساهما دقائق حتى كأنه انتبه لوجودنا فرفع رأسه وتكلم مع فاطمة وناداها فأتت إليه فأجلسها على حضنه ومازحها، أخبرته عن القلم الذهبي وكيف أن سحره انتقل إلى يدها فتمكنت من الكتابة، أظهر القليل من الحماسة، ثم التفت إلي وقال: «ما أخبار قراءاتك؟» «جيدة» أجبته بسرعة، فتمتم: «جيد.» ولم يقل بعدها أي شيء. كنت في حيرة منه ومن نفسي، لم يكن على عادته، ولم أكن أنا أيضا على طبيعتي؛ فقد كان الخطأ الذي ارتكبته مكتوبا على جبيني، أحسسته يرشح مني، فقررت الهروب قبل أن يسألني أي شيء. أخرجت رواية «الخيميائي» من حقيبتي، أعدتها إليه وقلت: «شكرا لك لقد أنهيتها.» قال: «حقا؟ أعجبتك؟» أجبته: «كثيرا، أود الحديث عنها معك لكن ذاهبتان الآن.» رفع يده مودعا، وهكذا خرجنا، ولم أكد أرى السماء حتى تنفست ارتياحا، أعادها إلي وقال: «قراءة ممتعة.» فلملمت أغراضي وأمسكت بيد فاطمة وقلت: «شكرا لك، نحن في وقت لاحق ربما.» فقال: «ربما.» نظر إلى يدي الأخرى، كنت أحمل رواية «البؤساء»، بادرته بالقول: «سأستعير هذه من بعد إذنك.» أمسكها وراح يتأملها لحظات وهو يبتسم بشرود، ثم وكأنني نجوت من عقاب محتم، مشيت إلى البيت وشيء واحد يشغل بالي «القلادة ذات الحجر السماوي».
9
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كان نادر يسير مع أصدقائه في أحد شوارع حي الشهباء الراقي، كانوا يتناولون المثلجات، ويحتفلون على طريقتهم، فقد أنهوا صباح اليوم امتحانات الثانوية العامة. صحيح أن النتائج لم تظهر بعد، ولا يدري نادر ولا أصدقاؤه ما إذا كانوا قد نجحوا أم لا، لكنهم مع ذلك يحتفلون تفاؤلا بنجاح غير مؤكد، أو خلاصا من شبح الامتحانات الذي جثم طويلا على صدورهم، وعلى صدر كل بيت فيه طالب ثانوية «بكالوريا».
كان الليل حلوا كحلاوة المثلجات وكحلاوة مشاعر شباب استقبلوا للتو أول عطلة صيفية لهم بعد انتهاء رحلة المدرسة الطويلة التي استهلكت طفولتهم وشيئا من شبابهم. كانوا يتحدثون عن الحياة الجامعية، عن الصبايا الجميلات اللاتي سيتسنى لهم لأول مرة الاجتماع بهن، عن الرحلات والمغامرات الموعودين بها في الجامعة أو في المعهد على أقل تقدير. كان نادر الوحيد من بينهم صاحب الخبرة الأكبر في هذا المجال؛ فكثيرا ما كان أخوه الذي سبقه إلى المعهد يحكي له الحكايا، وكان بدوره ينقلها لأصدقائه مازجا الكثير من الخيال مع القليل من الحقيقة. أخذ نادر يلتقط لنفسه ولأصدقائه صورا بالكاميرا الرقمية الجديدة التي حصل عليها مؤخرا من خاله المقيم في أمريكا، كانت كاميرا حديثة بتقنيات متطورة. اتخذ نادر مع أصدقائه وضعيات كثيرة لالتقاط الصور؛ استلقوا على الشارع، حملوا واحدا منهم على الأكتاف، تسلقوا جدران إحدى الفلل الفاخرة، وراحوا يراجعون الصور ويضحكون.
كان الشارع خاليا إلا من نسمات صيفية باردة وأصوات ضحكاتهم، وكأنما احتجت أرواح الأرصفة والأشجار والأبنية على فرحهم الطاغي، فاستجاب لها حظهم العاثر، وكان أن عبروا أحد الشوارع الخالية، ومثل حب يأتي على غفلة ظهرت سيارة فارهة تشق الطريق، وفي لحظة واحدة شهقت فراملها مصطدمة بنادر فأوقعته أرضا، وتوقفت.
التم الأصدقاء بصراخهم وصيحاتهم حول نادر، لكن إصابته لم تكن خطيرة؛ فلم تكن السيارة مسرعة على أية حال. استشاط أحد الشباب غضبا، فاتجه إلى السيارة سبا وشتما، في هذه اللحظة فتح بابا السيارة دفعة واحدة وظهر رجلان، فابتلع الجميع ألسنتهم من مظهرهما المميز، وتراجع الشاب الغاضب محتميا بأصدقائه المجتمعين حول نادر الذي ابتلع بدوره ألمه وصمت. «من تفكر نفسك يا ولد؟» قال أحدهما من خلف نظارته السوداء بصوت أجش بينما اكتفى الآخر بوضع يديه خلف ظهره وهو ينظر يمنة ويسرة، وقبل أن ينطق نادر بكلمة عاجله الرجل بقوله: «هات ما بيدك.» ولم ينتظر أيضا، إنما أشار إلى صاحبه بإيماءة من رأسه، فانقض الآخر عليه على مرأى من أصدقائه الذين انشلت حركتهم وألسنتهم تماما لهذا المشهد الذي ما كانوا يتوقعون رؤيته إلا في مسلسلات الكوميدية. وفي أقل من دقيقة كانت كاميرا نادر في يده. - ما هذه؟ - كاميرا. - ماذا تصورون؟ - آنا، أنا وأصدقائي نلتقط صورا لنا. - هات هويتك. - نعم؟ - هويتك يا ولد.
مذهولا أخرج نادر محفظته وناوله هويته، فانتشلها من يده، تفحصها جيدا، واتجه وصاحبه إلى السيارة، مد نادر يده وصرخ: «لكن يا سيدي، الهوية الله يوفقك.» لم يجب الرجل بل التفت مع صاحبه عائدين إلى السيارة، وزمجر المحرك بصوته، وانطلقت السيارة بمحاذاة نادر الذي ما يزال غارقا في الدهشة.
دخلت العائلة بعدها في دوامة لمدة أشهر طويلة لاستعادة الهوية، في خلالها انتهت مدة التسجيل في الجامعة، وتأخر نادر بسبب ذلك سنة دراسية كاملة. وفي خلالها أيضا جند والد نادر لهذه المهمة كل الوسائل التي يطولها من وساطات ومعارف لاسترجاع الهوية.
وبعد كثير من الجهد عادت الهوية؛ فبعد أن سلك والد نادر كل الطرق التي يطولها تبين له أن الطريق الوحيد الذي لم يسلكه هو الأصلح؛ فقد تمكن من لقاء ضابط ذي رتبة عالية، وأخلاق طيبة على خلاف الذين التقى بهم سابقا، وقد تفهم الموقف جيدا وفي الأسبوع نفسه عادت الهوية. وحين علم الضابط بالقصة وعد بمعاقبة الشخصين اللذين قاما بإيذاء نادر واحتجاز هويته.
ناپیژندل شوی مخ